لا يمكن ببساطة أن نصف الحنين لعهد بائس كعهد مبارك على أنه علامة بؤس لأصحابه، بل علامة صارخة على أن بؤس الحاضر فاق كل تصور، ذلك الاتهام لا يمكن تعليقه في رقبة الناس وحدهم، بل يشير بوضوح إلى فشل ثلاثة حلول قدمت أمامهم: الثورة، الإخوان، حكم القبضة الأمنية والعسكرية التي لم تعد تجتهد لتخلع البيريه أو تخفي خلفيتها، بل تتباهى بذلك التماهي مع المموه، وهي تعلن سياسات اقتصادية قاسية، دون أن نشعر بأي تقدم ملموس.

فشل الحلول الثلاثة هو نتيجة مباشرة لسياسات مبارك وسلفه، سواء عشوائية انفتاح السادات، أو تنكر الفساد والخراب في عهد مبارك تحت سجادة التوازنات الكاذبة، حكم الموظف البليد الذي لا يرغب في تحريك أو تغيير أي شيء، فانتهى به الأمر إلى إغراقنا جميعا في الركود وتجريف كل كوادر ممكنة. فمن ثاروا وفشلوا هم أبناء تعليمه السيء، صعود الفاشية الإسلامية هو ابن لعبة توازنات صنعها مبارك بنفسه وحرص على وجودها، أما مواجهة كل شيء عبر قبضة أمنية تزداد حدة كل يوم، فهي لعبة بدأها حكم حبيب العادلي في الأساس، وآمن النظام الحالي أن تصعيدها إلى الشكل الأقصى المخيف هو الحل.

هذا حنين لخراب عاقل، رغم أنه في حد ذاته غير معقول، لأن قدرة عهد مبارك على إخفاء ذلك الخراب وتحجيم لا معقوليته لم تكن لتستمر، بل كانت ستنفجر بشكلها الأقصى، حتى لو ظل في الحكم، أو لم تقم ثورة أو حكم جمال مبارك خلفه.

لكن في النهاية مبارك لم يعد هنا، وجمال مبارك ليس أكثر من شبح بائس لذكراه، والتفاف العشرات حوله ليس أكثر من علامة حنين، فهو ليس كما أسلفت إلا مجرد إشارة إلى أن الرعب مما يحدث الآن أكثر قسوة وحدة من أيام مبارك، لقد صار ملموسا في غلاء السلع الأساسية وانتهاء الهامش البسيط والعادي للرفاهية، ولم يعد بالإمكان أن نلوم سوى أنفسنا.

لقد جاء النظام الحالي على أجنحة شعبية هائلة من الناس، ناس تلعن الجميع مبارك والثورة والإخوان وتصدقه هو، وكذلك حصل على ما طلبه من الإعلام صراحة: إعلام موحد الاتجاه، مسيطر عليه، وغض الناس الطرف عن كل كذبة قيلت عبر هذا الإعلام مهما كانت غريبة، ليس لأنهم سذج، لكنهم أرادوا تصديقه وابتلعوا كل مبرراته، ورددوا كل هراء تفوهت به كتيبة السامسونج، حبا فيه وإيمانا به.

لا ينكر هذا عاقل، ولا نعرف من خطابات الرئيس الأخيرة على من يضع اللوم، وهل يطلب تجديدا للثقة؟

هل يمكن للرئيس ببساطة الاستمرار في أن يطلب من الناس والإعلام الصمت وعدم الإشارة إلى ما يشعرون به، هل هو في حاجة حقا إلى إعلام يقول “آمين”، هل يحتاج إلى أمة كلها ترتدي الزي نفسه؛ لأنها بتلك الطريقة سيكون لها الهدف نفسه، أم لتضافر قوى وطنية حقيقية مختلفة في الآراء والتصورات، لكنها بالتأكيد ستسعى لتوسيع دائرة المشترك، بما إن المشترك الوحيد هو دولة مستقرة ذات اقتصاد قوي تحترم مواطنيها، اختلاف التصورات يعني الثراء.

فشل مبارك والثورة والإخوان، ومن بعدها حلول دولة القبضة الأمنية التي تخرس ما عداها بعنف، هو في الأساس فشل للصوت الواحد الذي يحتكر الحديث والحل، فشل احتكار الأفكار، وغياب للاستثمار في الشيء الأهم، الاستثمار في الفرد وتعليمه، أن يكون المواطن أولوية قصوى، بامتلاكه لاحترامه لنفسه واستقلاليته، سيمتلك الشجاعة والقدرة على المساهمة في بناء الوطن الذي نبحث جميعا عنه، المواطن الذي يطالب به الرئيس.