عايش “وليد عبد الهادي” -موظف- أربعة تعويمات رسمية واضحة للجنيه المصري. وواكب تأثيراتها على دخله ومستوى معيشته. ليصل بمنطق التجربة إلى اقتناع راسخ بعلاقة عكسية بين سعر صرف الدولار والدخل. فكلما زاد الأول تقلص الثاني.

من الصعب تحديد عدد مرات التعويم غير المباشر الذي تعرض لها الجنيه المصري. فعلي المستوى المباشر تم أربع مرات في 1991 و2003 و2016 و2022. لكن تخللتها هزات شهدت تخفيضًا في سعر الصرف الذي ظل حتى 2011 يدور في فلك 5.80 جنيه. قبل أن يلامس سقف 25 جنيهًا حاليًا.

في 1991 تم تخفيض السعر الرسمي للجنيه كأحد اشتراطات صندوق النقد الدولي لإتمام اتفاق إعادة الهيكلة. ثم حدث تعويم ثانٍ في 2003. وثالث في 2016. وأخيرًا في 2022. وهو الأخير بعد تبني سعر صرف مرن بلغ حاليًا في مؤشر البنك المركزي (متوسط أسعار البنوك) 24.11 جنيه للشراء و24.24 جنيه للبيع.

تداعيات التضخم العالمي على الأسعار
تداعيات التضخم العالمي على الأسعار

التعويم والأسعار

يقول “عبدالهادي” -الذي زاد 300 جنيه في منحة الدعم الاجتماعي التي أعلنتها الحكومة- إن الحسبة عنده ليست في سعر الدولار أو الجنيه. ولكن في الأسعار بالسوق التي ارتفعت ببعض السلع تقارب الضعف بحجة أن البضاعة مستوردة. وبالتالي فإن دخله تقلص بالنسبة ذاتها.

تؤكد دراسة للباحث عمران عثمان -نشرتها إحدى الشركات الدولية المتخصصة في دراسات التوظيف ووظائف الاقتصاد القياسي- أن تخفيض قيمة الجنيه المصري له تأثير سلبي في الاستهلاك الفردي خاصة للأسر الفقيرة. فيما أثره في الصادرات المصرية كان بسيطًا. لكن الدراسة أكدت عدم وجود أثر للتخفيض على العمالة والتوظيف.

في علم الاقتصاد توجد أبجدية راسخة وضعها الاقتصادي السويدي جوستاف كاسل في نظرية “تعادل القوى الشرائية”. التي تؤكد أن ارتفاع الأسعار في السوق المحلية يعادل الانخفاض في سعر صرف العملة مقابل العملات الخارجية حال عدم تغير الأسعار بالدول المشتركة في التجارة الخارجية.

تؤكد الدراسات أن ارتفاع سعر صرف العملات الأجنبية يؤدي لارتفاع أسعار الواردات بالعملة المحلية بنسبة يتم تحديد أثرها وسرعتها على عدة عوامل. منها نسبة الواردات إلى الاستهلاك المحلي. ودرجة المنافسة بالصناعات بديلة الواردات. لكن الراسخ أن التأثير الضار يزيد كلما ارتفعت نسبة الاستيراد من إجمالي السلع التي يتم استهلاكها محليًا.

في الحالة المصرية سجل قطاع الصناعات الغذائية المركز الخامس ضمن قائمة السلع المستوردة في 2021. وبلغت وارداته 6.6 مليار دولار. جنبًا إلى جنب حاصلات زراعية بقيمة بلغت نحو 10.3 مليار دولار وسلع هندسية بـ 22 مليار دولار. وكيماويات وأسمدة بقيمة 10.2 مليار دولار. ما يعني أن السوق تعتمد بشكل أساسي على الاستيراد في غالبية القطاعات. والتي تزيد بنسبة انخفاض سعر صرف الجنيه أمام الدولار.

سعر الصرف

الفيدرالي ومستقبل الجنيه أمام الدولار
الفيدرالي ومستقبل الجنيه أمام الدولار

انخفاض سعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار يرفع أسعار الواردات. ومن المفترض أن يخفض أسعار الصادرات المصرية للخارج ويزيد التنافسية السعرية للسلع والخدمات المصرية. شرط أن يكون هناك طلب عليها في الخارج.

لكن تلك الأبجديات تتغير في ظل نسب مدخلات الصناعة المستوردة في المنتج النهائي. فالمهندس أحمد سمير -وزير التجارة والصناعة- أكد في المؤتمر الاقتصادي مؤخرا أن 56% من الواردات المصرية مستلزمات مستوردة للصناعة. ما يعني أنها تزيد بنسبة زيادة الدولار أمام الجنيه.

العديد من الدراسات التي تمت عن تطور حجم الصادرات والواردات المصرية رأت أن تخفيض قيمة العملة المحلية لم يكن له تأثير إيجابي على الميزان التجاري. ففي كل مرة يتم فيها تخفيض قيمة الجنيه ترتفع فاتورة الواردات دون أن تنخفض كمياتها. كما أن تخفيض قيمة الجنيه المصري لم يحمل تأثيرا على حجم الصادارت المصرية.

بحسب دراسة للدكتورة هند مرسي -بعنوان سياسات تحرير سعر الصرف وأثرها على الفقر وتوزيع الدخل في مصر نشرتها مجلة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية- فإن تخفيض سعر صرف الجنيه المصري أمر غير مرغوب فيه على صعيد الاقتصاد الكلي حال وجود عجز مزمن وهيكلي بميزان المدفوعات المصري. خاصة أن معظم السلع المستوردة تعد سلعا أساسية.

فمن المتوقع أن ينعكس ذلك التخفيض في سعر صرف الجنيه مقابل الدولار على مستويات الأسعار ومعدلات التضخم. والتي ارتفعت بشدة بعد تحرير سعر الصرف ببداية 2016.

التعويم والفقر

افتقاد السوق للدولار
افتقاد السوق للدولار

الخبير الاقتصادي هاني جنينة يعتقد بأن مدة الآثار التضخمية قد تمتد لعام ونصف العام. والأمر من وجهة نظره مرهون بشح الدولار الذي يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وإغلاق المصانع وقلة الدخل. بينما سيزيد توفر الدولار من دخول المواطنين. ما يمكنهم من مواجهة التضخم.

تستهلك السلع والخدمات المستوردة 24% من إجمالي الناتج المحلي المصري. وعلى ذلك فإن نسبة كبيرة من الاستهلاك المحلي مكونة من سلع مستوردة. ما سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار نتيجة ارتفاع تكلفة الواردات بصورة كبيرة بسبب انخفاض قيمة الجنيه.

وتؤكد الدراسات وجود علاقة بين التعويم والفقر الذي بلغ 32.5% في 2017/2018 قبل أن يتراجع إلى 29.7% في 2019/2020. مع هدوء سعر صرف الدولار أمام الجنيه وحزمة برامج حكومية منها “تكافل وكرامة” لدعم القطاعات الفقيرة -بحسب الجهاز المركزي للإحصاء.

وأظهرت بيانات من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر أن التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في المدن المصرية سجل 15% في سبتمبر/أيلول مقابل 14.6% في أغسطس/آب. وهذا أعلى معدل للتضخم السنوي لأسعار المستهلكين بمدن مصر منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2018 عندما سجل 15.7%.

إجراءات غائبة

رغم حديث قطاع من الباحثين عن أن هبوط الجنيه أمام الدولار “مقدر” فإن بعض الدراسات ترى أن الحكومات المصرية على مدار العشر سنوات الأخيرة كان يمكنها تقليص هبوط الجنيه بفرض قيود مؤقتة على حركة رؤوس الأموال. خاصة في الفترات التي عانى فيهات الاقتصاد المصري من الركود والتضخم. بجانب فرض ضرائب باهظة على رؤوس الأموال الساخنة.

من ضمن المقترحات التي كان يمكن تطبيقها وضع حوافز ضريبية للشركات التي تحتفظ بما لا يقل عن نصف أرباحها لإعادة استثمارها داخل مصر. أو فرض إعادة استثمار نصف الأرباح في قانون الاستثمار. كما فعلت الجزائر بفرض ضرائب على الشركات التي تملك فروعًا في ملاذات ضريبية أو يتخذ مؤسسوها من الملاذات الضريبية مقرّا لهم على غرار الضريبة في إنجلترا. وكذا الولايات المتحدة الأمريكية والانضمام إلى قاعدة بيانات الدول التي تتبادل آليّا المعلومات البنكية عن انتقال الأموال.

نقل أفضل لتقليل الهدر
نقل أفضل لتقليل الهدر

ملتقى السياسات العام للجامعة الأمريكية يرى أن تعويم الجنيه المصري في 2016 وانخفاض قيمته أدى إلى ارتفــاع أسـعار المــواد الغذائيــة. نظــرًا لأن مصــر بلــد مســتورد للســلع الأساســية. خاصة القمــح والــذرة. ما تطلب سياسات بنــاء قــدرات المزارعيــن والتجــار علــى الطــرق المثلــى لحصــاد المحاصيــل و تغليفهــا وتخزينهــا. وتوفيــر الدعــم علــى أســعار المبيــدات لتقليــل هــدر المحاصيــل بســبب الأمــراض والآفــات الحشــرية.

كما طالب الملتقى بتحسـين طـرق نقـل المحاصيـل عبر اسـتخدام صناديـق قويـة ذات فتحـات للتهويـة وشـاحنات مبـردة. وإنشــاء وحــدات تجفيــف لتمكيــن المزارعيــن مــن تجفيــف محاصيلهــم وبيعهــا بســعر أعلــى. الأمـر الـذي سـيؤدي إلـى تقليـل الفاقـد الـذي يحـدثه تــرك المحاصيــل فــي الحقــل فــي انتظــار زيــادة أســعارها. ورفــع مســتوى الوعــي وزيــادة تثقيــف المســتهلكين حـول مشـكلة فقـد وهـدر الغـذاء والطـرق الممكنـة للحـد منهـا. ووضـع عقوبـات علـى هـدر الطعـام وتنفيذ سياسـات مثـل الضرائـب الموجهـة نحـو تقليـل هـذا الهدر.

روشتة لتخفيف التداعيات

يُطالب باحثون الحكومة بعد قرارات التعويم بزيـادة الاسـتثمار فـي الصناعـات سـريعة العائـد. خصوصًـا فـي مجـالات إنتـاج الســلع الاســتهلاكية وصناعــات إنتــاج المــواد الوســيطة وقطــع الغيــار. والإفصاح عن برنامـج عمـل الدولـة فـي الأجليـن القصيـر والمتوسـط. مـع ضمانــات قانونيــة بعــدم تغييــر إطــار ذلــك البرنامــج خــلال فتــرة زمنيــة لا تقــل عــن 10 ســنوات لاستعادة ثقة المستثمرين.

من المطالب أيضًا أن تخفض الحكومة المصرية الآثار السلبية لسياسات تحرير سعر الصرف. وذلك بإنشاء هيئة عليا لتحديد الأسعار العادلة للسلع والخدمات حتى لا يستغل التجار موجة ارتفاع الأسعار لتحقيق أرباح غير عادية. وتطبيق قرارات كتابة سعر جميع المنتجات عليها.

ويطالب باحثون بتفعيل دور جهاز حماية المستهلك لتوجيه وإرشاد المستهلكين نحو الأسعار العادلة. وتحفيزهم لمقاطعة المنتجات غير الضرورية. وتفعيل العقوبات على المخالفين من المنتجين والتجار. وإيجاد آلية لتشغيل الفقراء من خلال القروض متناهية الصغر ودون فوائد لرفع قدرة الفئات الفقيرة على الإنتاج وزيادة دخولهم مع تسهيل الإجراءات.

بحسب “المركز المصري للدراسات الاقتصادية” فإن النتائج الإيجابية لخفض قيمة العملة المحلية بالتزامن مع تحرير قيود النقد الأجنبي ستفوق على المدى المتوسط التأثيرات السلبية. من ناحية تحسين التدفقات الأجنبية وتعزيز التنافسية. لكنه أكد ضرورة إقامة تنمية صناعية مستدامة لإحلال الصناعات المحلية بدل الواردات وتنمية التصدير.

وقد رفع التجار أسعار السلع في السوق حاليا رغم أنها مستوردة قبل شهرين. وجزء منها استقبل الصدمة التضخمية بالفعل ما يعني أن الرفع المتتالي حاليا هو تلاعب في السوق يحتاج إلى آليات حكومية لضبطه.

تقلبات اقتصادية

 

الدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء
الدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء

يقول الدكتور وليد جاب الله -الخبير الاقتصادي- إن فترات التقلبات الاقتصادية تشهد ممارسات ضارة. وهو ما يتضح في السوق حاليًا. الأمر الذي يتطلب من الدولة تعزيز دورها في الرقابة على الأسواق عبر جهازي حماية المنافسة وحماية المستهلك ودور الجمعيات التي يعفى النشاط الاقتصادي لها من الضرائب بجانب التوسع في المعارض المُجمعة.

يضيف “جاب الله” أن المواطن عليه في ظل الموجة التضخمية الحالية التي جاءت قبل التعويم بسبب ارتفاع الأسعار عالميًا تأجيل القرارات الشرائية لكل السلع غير الأساسية. فضلا عن البحث عن البدائل للسلع الأساسية حال وجود أنشطة تخزينية من التجار.

تمثل قرارات التعويم مشكلة اقتصادية للحكومات بسبب الأعباء التي تترتب عليها. وهو أمر تكشفه دراسة لـ”جي . فرانكل” تشير إلى أن احتمال أن يفقد رئيس الوزراء منصبه خلال ستة أشهر من انهيار العملة المحلية جراء التعويم يزداد بـ1.7 ضعف. والأمر نفسه ينطبق على محافظ البنك المركزي ووزير المالية اللذين فقدا منصبيهما خلال عام من انهيار العملة في 58.3% من الحالات التي تم درسها.