إذا انتخب الشعب في لحظة استثنائية رئيس شعبوي متطرف، فإن الديمقراطية تضمن تصحيح المسار وتتيح للشعب فرصة انتخاب بديلا له. صحيح أن هذا لم يحدث مع النازية والفاشية في بدايات القرن الماضي، فقد وصلا للسلطة بآليات ديمقراطية نسفوها بعد ذلك، إلا أن العالم قد تغير، وترسخت الديمقراطية في كثير من البلدان، ولم تعد طبعة أحزاب اليمين القومي المتطرف هي نفسها الطبعة الدموية النازية التي عرفها العالم من قبل، وأصبحت النظم الديمقراطية هي الضامن لتهذيب جانب كبير من تطرف هذه الأحزاب وضمان التداول السلمي للسلطة.

والحقيقة، أن التجربة السياسية البرازيلية المعاصرة كانت في أحد جوانبها الرئيسية نتيجة نضال القوي السياسية والحزبية والنقابات ضد الديكتاتورية العسكرية التي وصلت إلى السلطة عام 1964واستمرت حتى عام 1985.

وقد بدأت السلطة العسكرية بوجه ناعم سرعان ما تحول مع إصدار “القانون المؤسسي الخامس” في عام 1968 إلى ديكتاتورية خشنة وقاسية، واجهت ليس فقط السياسيين المعارضين وإنما أيضا الفنانين والصحفيين وغيرهم من مكونات المجتمع المدني من نقابات وروابط شعبية عن طريق “عملية كوندور” سيئة السمعة.

واللافت وكما جرى في بعض دول أمريكا الجنوبية مثل شيلي وغيرها، أن هذه النظم حققت بعض النجاحات في المجال الاقتصادي، حيث جذبت كثير من أهل العلم، واعتمدت على آراء خبراء اقتصاديين كبار ساهموا في إحداث طفرة تنموية مؤقتة.

وبدأت البرازيل تعرف عودة مضطربة للحكم المدني الذي صاغ في عام 1988 الدستور الحالي للبلاد، وذلك عقب تولي جوسيه سارني الرئاسة، لكنه فقد شعبيته بسبب فشله في السيطرة على الأزمة الاقتصادية والتضخم المفرط الذي ورثه من النظام العسكري، ثم انتخب فيرناندو كولور في عام 1989، والذي عزله الكونجرس الوطني لاحقًا في عام 1990 حتى جاء الرئيس اليميني الديمقراطي الشهير ” “كاردوسو” الذي فاز في الانتخابات لمدتين في عام 1994، و1998 وحقق نجاحات واضحة.

ويمكن القول إن البرازيل عرفت التعميق الثاني لتجربتها الديمقراطية عقب انتخاب” لولا دي سيلفا” (انتخب مرتين من 2002 إلى 2010) كرئيس اشتراكي طبق سياسات ناجحة في مواجهة الفقر، وحقق معدلات نمو كبيرة ونجاحات في مجالي الصناعة والزراعة.

ولم تستطع خليفته “دليما روسيف” تحقيق نجاحات تذكر وعرف حكمها إضرابات واحتجاجات كثيرة حتى عزلها “الكونجرس البرازيلي” في منتصف ولايتها الثانية في 2016.

وكما يحدث في تجارب كثيرة، فإن تعثر اليسار يأتي باليمين، وتعثر حكم يميني يأتي بحكم يساري، وهذا التداول السلمي للسلطة لا تضمنه إلا فقط النظم والمؤسسات الديمقراطية. فقد وصل للسلطة “جايير بولسنارو” عقب تعثر حكم حزب العمال الاشتراكي، كأول رئيس من اليمين المتطرف يحكم البلاد، في بلد عرف “هوا يساري” عارض عادة منذ بداية الانتقال الديمقراطي حكم يميني ليبرالي وليس متطرف.

وقد عاد “لولا دي سيلفا” لحكم البرازيل مرة أخرى عقب فوزه في الجولة الثانية من انتخابات الأحد الماضي، بفارق ضئيل عن “بولسونارو” 50.9%، وبعد أن تمت تبرئته من تهم فساد حبس بسببها عام كامل، وأعيدت له كامل حقوقه السياسية.

صحيح، أنه على طريقة ترامب والزعماء الشعبويين لم يعترف “بولسونارو” علنًا بالهزيمة، كما شهدنا أنصاره يدعون إلى تدخل الجيش لمنع لولا دي سيلفا من الحكم مرة ثالثة، كما اعتبروا أن الانتخابات قد زورت وأغلق بعض أنصاره العديد من الطرق بالشاحنات احتجاجا على خسارته.

ورغم أن الديمقراطية البرازيلية عمرها ما يقرب من 40 عاما إلا أنها نجحت في أن تحدث تداول سلمي للسلطة مرتين، وعزلت مؤسساتها التشريعية رئيسين سابقين. صحيح أنها عرفت قضاه “سيسوا” أحكامهم القضائية، إلا أنها عرفت قضاة أكثر منهم طبقوا الدستور والقانون بضمير حي.

لقد أوضح مسار الديمقراطية البرازيلية وجود إرادتين متكاملتين: الأولى هي إرادة الشعب الحرة الذي اختار الديمقراطية وانتخب مرشحا يساريا ثلاث مرات، ومرشح في أقصي اليمين مرة واحدة، بإرادته الحرة، والثانية هي إرادة المؤسسات الديمقراطية من قضاء وصحافة وشرطة وجيش وجهاز إداري، الذين يتلزمون بالدستور والقانون.

من المتوقع أن تنجح المؤسسات البرازيلية المحايدة والمهنية، حتى ولو بالمعني النسبي، أن تحمي الديمقراطية الناشئة في البلاد، وأن تجبر الرئيس البرازيلي المنتهية ولايته على مغادرة السلطة في نهاية هذا العالم، وتقديم رسالة أن الديمقراطية ودولة القانون لا تطلب فقط انتخابات حرة وأحزابًا قوية إنما أيضا مؤسسات محايدة ونزيهة قادرة على أن تواجه التطرف والشطط والكلام الأهوج لأي متطرف سواء جاء من أقصي اليمين أو اليسار، بصرامة تطبيق القانون.

إن حفاظ مؤسسات الدولة على استقلالها عن السلطة التنفيذية، وضمان مهنيتها واحترافية أدائها يجعل وصول تيارات أقصى اليمين للحكم تحديًا كبيرًا، ولكن يمكن التغلب عليه في حال إذا كان هناك قضاء مستقل وجيش وشرطة وإدارة غير تابعة لتوجه سيأسى وحزبي معين، ولا ترفع شعار ” خيالات الرئيس أوامر”، إنما يكون ولاؤها للدستور والقانون.

رسالة البرازيل مثل شيلي مثل كثير من دول أمريكا الجنوبية تقول إن الديمقراطية ليست حكرا على الغرب الأوربي والأمريكي وإن تجربة الهند وكثير من البلدان الآسيوية تقول إن طريق بناء دولة القانون ليس سهلا وغير مفروش بالورود ولكنه هو الطريق الوحيد لضمان تداول سلمي للسلطة ومواجهة العنف والتطرف ومحاربة الفقر.

فباستثناء الصين ومسارها السياسي الخاص والمتفرد، لا توجد تجربة نجاح واحدة بين الدول النامية إلا وكان نظامها السياسي يتراوح بين الديمقراطية الكاملة أو المقيدة وفشلت كل الديكتاتوريات شمالا وجنوبا في تحقيق نجاح اقتصادي وسياسي يذكر، وجاءت البرازيل لتؤكد أن الديمقراطية ضمنت انتقال سلمي للسلطة، لأنه بدونها لتحول الانقسام السياسي الجاري في البلاد إلى مواجهات عنيفة وشهدنا الدماء في الشوارع.