• بلغ عدد حالات الطلاق نحو 255 ألف حالة عام 2021، مقابل نحو 222 ألفا عام 2020، بزيادة قدرها 14.7%.
  • العنف بين أفراد الأسرة سواء جسدي بين الزوجين أو من الأبوين للأولاد قد زاد بنسبة 19% عام 2020 -خلال أزمة جائحة كورونا.
  • 25% من المصريين يعانون من “مشاكل نفسية” و0.4% منهم فقط يتلقون العلاج و43.7% من المصابين يعانون من الاكتئاب. كبار السن أكثر عرضه للانتكاسات النفسية، وأن نسبة مرضى اضطرابات تعاطي المخدرات بلغت 30.1%.
  • 99% من النساء المصريات تعرضن لصورة ما من صور التحرش الجنسى -وفق نتائج دراسة أجرتها هيئة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين.
  • نسبة الفقر في المجتمع المصري تبلغ حوالي 30%؜.
  • 30%؜ فقط من المصريين في 2019 يثقون في بعضهم البعض مقابل 55% في 2011.
  • استقطاب سياسي وثقافي/ديني حاد حول كل قضية وفي كل مجال.

يجادل هذا المقال -وهو واحد من سلسلة من المقالات التي اهتمت بتجديد تفكيرنا في السياسة- بأن هناك علاقة بين زيادة الطلاق والعنف الأسري، وشيوع التحرش الجنسي، وتفشي الأمراض النفسية، وكذا عدم الثقة بين أفراد المجتمع، وزيادة الاستقطاب السياسي والديني/الثقافي. والعنف الذي يحيط بالمصريين في كل مكان -عنف السلطة والمؤسسات والسوق النيوليبرالي وكذا عنف المجتمع وأفراده- وبين ظاهرة موت السياسة في مصر علي مدار السنوات الثماني الماضية.

قد يبدو لأول وهلة أننا بصدد عملية غير ممنهجة لعدم وجود رابط بين هذه الظواهر جميعا؛ فهي تتم في مجالات مختلفة ومن أطراف لا جامع بينها؛ ناهيك عن فهم علاقتها بالسياسة، ولكننا نؤكد -كما سيتضح حالًا- أن هذه الظواهر جميعا تصدر من معين واحد وهو: استمرار المصالح السياسية والاقتصادية والهيمنة الرمزية للقوي المختلفة التي تتعايش على إنشاء عوالم ممزقة ودوام استمرارها.

سعى الفاعلون المؤسسون المهيمنون في كل مجال من الدولة ببيروقراطيتها، إلى القطاع الخاص الكبير، إلى القوى والأحزاب السياسية. سعى هؤلاء جميعا بالإضافة إلى بني المجتمع من أسرة ومؤسسات دينية وتعليمية… إلخ، إلى الحفاظ على قوتهم الاقتصادية والسياسية والإدارية والرمزية وتعزيزها على حساب الفعل التواصلي الذي هو جوهر السياسة.

لقد سعوا إلى كسر الأشكال المختلفة للنشاط الاجتماعي والسياسي في مصر من خلال الاستمرار في ممارسة تدابير إقصائية عنيفة في المجال العام باستخدام العنف الجسدي أحيانًا والرمزي دائمًا، ونزع الإنسانية -كما يظهر في التعامل مع موت المخالفين، والاستقطاب، والقوانين القمعية وغيرها من الإجراءات.

السياسة في جوهرها فعل تواصلي لا انعزالي ولا فردي، وعليه فإننا نؤكد أنه لا يمكن استعادة السياسة في مصر إلا بترميم العوالم الممزقة التي نشأت في المجال الخاص -في الأسرة وبين الأفراد- كما تعمقت في المجال العام بالصدمات الاجتماعية والسياسية والاستقطاب. ولابد أن يمتد هذا الترميم ليشمل مواجهة عنف السوق النيوليبرالي الذي جعل لقمة عيش المصريين “مرار”؛ كما يشمل العنف الاسري وعنف السلطة والعنف تجاه النساء.

تؤكد الدراسات العديدة لعلم النفس السياسي على أن أحد أهداف العنف الذي يمارس تجاه الناشطين السياسيين هو تمويت السياسة في نفوسهم أولًا، وتمويتها عند الآخرين بإثارة الخوف لديهم، لكن الجديد الذي يناقشه هذا المقال هو: هل هناك علاقة بين العنف الفردي والمجتمعي بالإضافة إلى العنف السياسي وعنف السوق النيوليبرالي وبين موت السياسة؟ وما تأثير ذلك على قطع الأواصر بين المصريين والقضاء علي المجال التواصلي بينهم؛ الذي هو أحد متطلبات السياسة؟

الاستخدام العنيف للعقل الأداتي

يقصد بالعقل الأداتي في الفلسفة الاجتماعية ذلك النمط من التفكير الذي يعرف مشكلة ما ويسعى لحلها مباشرة دون تساؤل عن مضمون هذه الحلول والغايات، وما إذا كانت إنسانية أو معادية للإنسان. ويُنظر للعقلانية الأداتية كنوع معين من العقلانية يركز على أفضل وسيلة لتحقيق غاية ما، بغض النظر عن قيمة هذه الغاية دون الاهتمام بمدى انسانية هذه الغاية. تميل العقلية الأداتية للاهتمام بسؤال (كيف؟) وليس سؤال (لماذا؟).

تطلب التعامل مع “شبه الدولة” التي تم توصيفها بأنها “كهنة” سرعة الإنجاز الذي اتخذ شكل مشروعات كبرى في البنية الأساسية، اعتمادًا على المؤسسة العسكرية بدلًا من الجهاز الإداري للدولة لتحقيق ذلك، وتم إدراك أن مزيدًا من إشراك الناس في المناقشة والحوار حول هذه الأولويات من شأنه أن يعطل هذه الإنجازات ويؤخرها.

الدولة في سباق مع الزمن للتعامل مع الانهيار الذي طال كل مرفق. ويجب اتخاذ قرارات صعبة بغض النظر عن مدى تأثير ذلك على مستوى معيشة المواطن أو تآكل شعبية القيادة السياسية؛ فهي تضحي بها من أجل أن “تحيا مصر”.

ترسم لنا حفصة حلاوة في مقالها كيفية تشكيل الهوية الوطنية من خلال مشاريع البنية التحتية؛ فترى أنه “يتم تصنيع شكل جديد من الهوية الثقافية، حيث تصطدم الفوضى المعروفة في القاهرة بالتخطيط العمراني الذي يوحي بمحاولة من الدرجة الثانية لتقليد المدن الحديثة في دول الخليج”.

يؤدي تخطيط المدن الجديدة وشق الطرق الواسعة واستبدال الكباري والجسور بالميادين والتقاطعات، وإحلال مواقف السيارات بالمساحات الخضراء إلى تقليص المجال التواصلي بين المصريين.

تلفت حفصة نظرنا إلى ملمح مهم في هذا الصدد: “نظرًا لأن العديد من النخب أمضوا معظم السنوات العشر الماضية في الانتقال إلى مدن تابعة للقاهرة توفر مساحات خضراء وفيلات كبيرة، فإن الطرق السريعة الجديدة تزيد من عزلهم عن الطبقة الوسطى والفقيرة في القاهرة، حيث يجتازون الطرق السريعة في جميع أنحاء المدينة، دون أن يقتضي ذلك دخولهم بالفعل إلى هذه المناطق”.

تسعى إعادة التخطيط العمراني على نطاق واسع إلى تغيير علاقة المواطنين بالدولة وبهويتهم الخاصة، وهذا يصاحبه عنف مادي ومعنوي هدفه النهائي محو الماضي من الذاكرة (على حد قول حفصة) -ماضي الأفراد والأسر والمجتمع المحلي- بما يؤدي فعليًا إلى محوهم من الأماكن العامة.

طريقة التفكير في المشكلات وكيفية حلها وفق العقل الأداتي تقوم على الإنجاز السريع دون تساؤل عن التكلفة الإنسانية ولا المجتمعية التي يتحملها الفرد باعتباره إنسانا ولا المجتمع باعتباره مجتمعًا؛ وإن نشأت تداعيات فيتم التعامل معها باعتبارها أعراضًا جانبية يمكن السيطرة عليها ببعض الإجراءات والقرارات.

صدمات بعضها فوق بعض

تشكل الصدمات الفردية والاجتماعية والسياسية مثلث الصدمة الذي استخدمته بشكل استراتيجي القوى المهيمنة في السوق والسياسة والدين للحفاظ على سلطتهم السياسية والاقتصادية والرمزية من خلال تدمير الأجساد المادية بالتعذيب وسلب الحرية، وتفكيك العلاقات الاجتماعية واستقطابها، والإغلاق العنيف للمجال السياسي العام والمجال الديني التعددي… إلخ.

قمعت هذه الجهات الفاعلة إمكانات التحول نحو مجال تواصلي بين المصريين جميعا؛ خاصة أنه صاحبه تغلغل مستويات عالية من العنف في جميع جوانب المجتمع المصري وولدت صدمات فردية وجماعية موسعة.

لا ينبغي فهم الصدمة في الحالة المصرية فقط من منظور نفسي فردي أو من منظور اجتماعي، ولكن بالأحرى يتم تشكيلها من قبل السلطة السياسية وسعيها الاستراتيجي العنيف إلى العقل الأداتي.

يصاحب الصدمة في الحالة المصرية قدر كبير من الإنهاك والإجهاد الذي يستشعره غالب المصريين الآن. الصدمة ليست حدثًا منفردًا أو سلسلة قصيرة من الأحداث الصادمة، ولكنها تظهر بسبب نظام مستمر من الإساءة والعنف. ليس فقط العنف الجسدي المباشر من قبل المعتدي هو ما يسبب الصدمة؛ ولكن مثل هذه الانتهاكات تترافق أيضًا مع التواطؤ والترخيص بمزيد من الانتهاكات على المستوى المنهجي.

هل يمكن أن نفهم الآن لماذا لا تجرى محاسبة من يقترف العنف الأسري ومن يباشر التحرش؛ وأيضًا من يمارس التعذيب في مقرات السلطة؟!

في الحالات التي ننتقل فيها من الصدمة إلي الإجهاد والإنهاك فإننا نلحظ أن الأنظمة المصممة لخلق شعور بالمساءلة وتقليل الضرر الذي يلحق بالمواطنين غير فعالة، أو غير كفؤة في أحسن الأحوال، وفي أسوأها فهي فاسدة أو متواطئة مع أنظمة السلطة غير الرسمية.

في السياقات الاستبدادية لا يوجد راحة من التهديد المستمر بالعنف، وتؤدي ثقافة الخوف والشك إلى تفتيت الناس وتشظيهم، بينما يظل الجناة الرئيسيون محصنين من المساءلة العامة بسبب المجال العام المغلق أو المقيّد بشدة.

نقطة أخيرة وهي: ما تخص الصدمة السياسية التي تتحقق نتيجة خيانة توقعات الناس خاصة في جانب القيم والمعايير.

يلاحظ أن الجميع ومنذ يناير قد خانوا توقعات المصريين؛ فقد وعدوا بالحرية والكرامة والعيش في يناير؛ ولم يتحقق منها شيئ -لا علي يد الثوار ولا من الاخوان، وفي أعقاب 2013 وعدوا بالمن والسلوى والعسل، ولكن الدولة قدمت لهم اقتصاد سوق شرس بلا ضمانات -وإن جرى تغطيته ببرامج حماية اجتماعية غير فعالة، وتدهورت فيه الخدمات العامة من صحة وتعليم.
تظهر المظالم الهيكلية التي يعاني منها الأفراد والمجتمع الخيانة المؤلمة للمعايير والقيم التي يجب أن يستند إليها المجتمع وتؤدي إلى تفتيته.

إن الوحشية القاسية للحرمان الاجتماعي والنضال اليومي من أجل البقاء لا يكون فقط مؤلمًا بشكل فردي من حيث أنه دمر الرفاهية الجسدية والعقلية للناس فحسب، بل كان أيضًا مؤلمًا اجتماعيًا وسياسيًا لأنه عزل الناس ودمر إمكانية وجود تضامن فيما بينهم أو حتى صوت سياسي لهم.

الخلاصة: أن هناك علاقة بين الصدمات الفردية والاجتماعية وبين تحطيم الإمكانات السياسية، بما يؤدي إلى انسحاب الناس من المجال العام.

الصدمات تأتي من العنف الأسري، كما تأتي من عنف الحصول على لقمة العيش، كما تأتي من عنف الدولة، كما يظهر في التخطيط العمراني، وتجاه المعتقلين الذي استمرت الانتهاكات في حقهم ولا تزال لسنوات دون توقف.

الخيانة المعيارية

أشرت إليها سريعًا في النقطة السابقة لكني أحب أن أفصل فيها قليلًا هنا.

إن الانسان اجتماعي بطبعه لأنه يعتقد منذ سن مبكرة بأن العالم من حوله خيرًا، وأن العلاقات الاجتماعية ذات مغزى.

من المنطقي أننا نعلم أن هذه مجرد افتراضات، ولكننا نعتمد عليها عاطفيًا لبناء والحفاظ على عالم مستقر وقابل للتنبؤ يمكننا من العمل بشكل إيجابي على أساس يومي.

كيف تظهر الخيانة المعيارية؟

إنها الحنث بالوعود من الجميع؛ من الثورة المباركة، ومن المؤسسات السياسية، ومن الأحزاب والتنظيمات السياسية، وبين الفرقاء وبعضهم البعض، وبين شركاء الأسرة… إلخ. الكل خان الجميع، ومن هنا تأتي أهمية التضامن على أرضية حقوق الانسان الجارية الآن.

الخيانة المعيارية تظهر في التسريبات، ليس باعتبار أن الجميع مهدد بالتسريب له، ولكن لأن المؤسسات التي كان يجب أن تحافظ علي هذه الخصوصية خانتها أيضًا.

كان السياسيون وعلماء الدين والنخب الثقافية يحاولون توجيه الناس؛ وهم يسيئون استخدام الكلمات، ويسيئون استخدام دين الناس، ويسيئون استخدام أحلام الناس، ويسيئون استخدام احتياجات الناس؛ عندئذ تمت تجزأة المجال السياسي وأصبحت السياسة أرضًا مقسمة قابلة للتلاعب حيث تجاهل الفاعلون من كل نوع مطالب الشعب وسعوا إلى استغلال المجال العام لأغراض تأمين القوة السياسية والاقتصادية والرمزية والحفاظ عليها.

إن التجربة العاطفية “لاستعمار العالم الحي” -والتعبير لعالم الاجتماع هابرماس- القائم على التواصل لا الانعزال من خلال أشكال متعددة الطبقات من الخيانة المؤلمة التي امتدت من الطلاق إلي التحرش مرورًا بالعنف الاسري، وأخيرا التلاعب بالمجال العام، هي أمر حاسم بالنسبة للرؤى العملية والنظرية للمشاركة السياسية. مثل هذه التجارب العاطفية عندما تُترك دون معالجة قد يتم التعبير عنها من خلال اللامبالاة السياسية والاغتراب الاجتماعي واللا معنى الذي يصعب التغلب عليه وهي أمور حاسمة في الممارسة السياسية.