يستطيع أي مهتم بالسياسة أن يدرك بسهولة أن بعض الأفعال يكون لها دلالة رمزية تتجاوز بكثير صفتها الظاهرة، أي أنها تكون في الغالب عبارة عن رسائل سياسية تتعلق بالمستقبل، وأن صاحب هذه الرسائل يشير إلى نواياه المستقبلية تجاه السلطة والمجال العام أكثر ما هي احتفال بذكرى عامة أو تكريم لشخصية تاريخية.

هكذا تفهم الدلالة الرمزية لقيام الأستاذ جمال مبارك هذا الشهر بزيارة قبر الرئيس السادات ونصب الجندي المجهول في الذكرى الـ49 لحرب السادس من أكتوبر، وبعد ساعات قليلة من زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي لهما.

اقرأ أيضا.. السد العالي: الجنرال المجهول في نصر أكتوبر

جمال مبارك -بدعم كامل من سلطة أبيه شبه المطلقة- لم يكن جملة عابرة في الحياة السياسية المصرية على الأقل في العشرين عاما الأخيرة عندما بزغ نجمه السياسي بتوليه لجنة السياسات التي كانت في السنوات العشر الأخيرة من حكم مبارك الأب هي الحكومة الفعلية التي تصنع السياسة العامة خاصة الجزء المتعلق بالسياسات الاقتصادية للبلاد.

جمال كان صانع سياسات نيوليبرالية، وكان أيضا مانح فرص لنخبة نيوليبرالية جديدة أطاحت في زمنها وبقسوة بنخبة قديمة متأرجحة في عقيدتها الأيدلوجية بين اليمين واليسار زاملت “مبارك” الأب في العقدين الأوليين من حكمه، وإن لم تمحها تماما من المسرح.

وهنا مربط الفرس إذ أن أكثر إنجاز كان يباهي به فريق جمال مبارك النيوليبرالي الذي يعرف أنه امتداد للرئيس السادات كمؤسس للمشروع (السياسي- الاقتصادي) أكثر مما هو امتداد لأبيه الذي كان مجرد منفذ له، أنهم خلال فترة هيمنتهم على الأمور هم الذين حولوا شعارات وسياسات السادات الاقتصادية العامة للانفتاح الاقتصادي والاندماج في الاقتصاد العالمي إلى ترسانة تشريعية كاملة تقنن تقليص دور الدولة في النشاط الاقتصادي وإعطاء دور القيادة للقطاع الخاص وتسريع عملية الخصخصة والتركيز على رفع معدل النمو حتى لو لم يصاحب هذا النمو أي نوع من التحسن في معضلة البطالة المستعصية أو أي نوع من التحسن في توزيع ثماره بعدالة على طبقات المجتمع. ترسانة تشريعية رآها فريق جمال نقطة انطلاق للاقتصاد المصري ورآها محللون منهم الأستاذ محمد حسنين هيكل “عملية تقنين للفساد”.

ارتبطت هذه الترسانة القانونية شديدة اليمينية مع ظاهرتين خطيرتين، الأولى لخصتها العبارة الشهيرة التي صكها الدبلوماسي والمثقف السياسي وأحد مستشاري مبارك الأب وهو الدكتور مصطفى الفقي ألا وهي ظاهرة “تزاوج الثروة بالسلطة”.

والظاهرة الثانية هي إنهاء الابن وفريقه لسلوك “مبارك” الأب الحذر، وللمقاومة النسبية التي أبداها على مدى عقدين لضغوط صندوق النقد الدولي.

إذ أن “مبارك” الأب كان قد شهد عن قرب كنائب للرئيس السادات كيف ارتعدت فرائص الحكم بسبب انتفاضة يناير 1977، بسبب نصائح الصندوق لدرجة أن السادات كان خائفا من أن يعود لمقر حكمه في القاهرة، وكأن مبارك يريد أن يتعلم من درس “رأس الذئب الطائر” في عدم الخضوع التام لشروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، لكنه وبتأثير من فريق جمال النيوليبرالي تخلى عن حذره، حذر الطيار الحربي الذي لم يكن يفارقه.

ومن مكر التاريخ أن هذا التنازل لشروط الصندوق كان على المدى الطويل بتراكمات في زيادة الفقر والفقراء في مصر خلال العشرية الأخيرة من حكمه كما كانت إحدى أسباب الانتفاضة الشعبية على السادات، كانت إحدى الأسباب الرئيسية لثورة وقعت في يناير أيضا ولكن بعد 34 سنة كاملة “25 يناير 2011″، كلّفته وجوده في السلطة التي قبع على قمتها ثلاثين عاما «بليدة» دفعت مصر فيها ثمنا فادحا، حيث تقدم فيها العالم كله خاصة في آسيا وبعض دول أمريكا اللاتينية التي كانت خلف مصر بمسافات وباتت مصر في آخر الركب في التنمية والصناعة ومستويات الدخول والمعيشة وتوازن توزيع الثروة الوطنية.

في هذه المرحلة كان تكليف حكومة أحمد نظيف المرتبطة كليا بـ”جمال” ولجنة السياسات وبتوزير رجال أعمال متنفذين كأعضاء فيها، نقطة تحول جعلت مصر منذ ذلك الوقت تابعة تماما لسياسات الصندوق والبنك.

جمال مبارك بزيارته لقبر الرئيس السادات رمز التحول الرأسمالي ومؤسس طبقة الـ10%؜ المسيطرة على ثروات مصر منذ السبعينيات، ربما يجول بخاطره إنه إذا كان المؤتمر الاقتصادي الذي دعا إليه رئيس الحكومة مصطفى مدبولي (وهو عضو سابق في لجنة السياسات)، بعضوية يقودها رجال أعمال على رأسهم صهر الأستاذ جمال مبارك نفسه وهو الأستاذ محمود الجمال إنما يستهدف إقرار وثيقة ملكية الدولة التي هي دون تغيير في حرف واحد سياسة جمال مبارك في الخصخصة، وتدليل القطاع الخاص فهو أولى بالسادات من غيره، خاصة وأنه هو الذي حول شعارات السادات العامة في السبعينيات من القرن الماضي إلى قوانين راسخة في العشرية الأولى من الألفية الثالثة لتحكم الدولة ومصائر المواطنين.

فإذا كانت الشرعية السياسية هي شرعية الانفتاح فهو ربما يرى أنه ممثلها الأول، وإذا كانت القوانين المنظمة للحياة الاقتصادية تتحكم في توزيع الغني للقلة والفقر للأغلبية هي ترسانة قوانين الانفتاح فهو صانعها، وإذا كانت النخبة التي تقترح الحلول الآن هي النخبة المشاركة في المؤتمر الاقتصادي الجاري فهو من انتقى في السابق كثير من عناصر هذه النخبة، وهو من جعلها تحصل أو سهل لها الحصول على الأدوار والوظائف التي تتمتع بها في القطاع المصرفي وقطاع الأعمال العام مرورا بالاستثمار ونهاية بالبورصة.

في الأول من شهر ديسمبر 2017 وقبل انتخابات 2018 الرئاسية تساءل تحقيق لصحيفة “اليوم السابع”، عما إذا كان جمال مبارك يفكر في الرجوع للحياة السياسية أو حتى الترشح للرئاسة في 2018، وهو ما أكد قانونيون أنه ممكن في حال قبول طعنه على الحكم الصادر بسجنه 4 سنوات في قضية القصور الرئاسية.

جمال مبارك

حسمت محكمة النقض الأمر، وأيدت في نهاية 2018 حكم سجن مبارك الابن في قضية القصور الرئاسية، وهو ما يلزم معه إجراءات قانونية وقضائية لرد اعتباره حتى يتاح له مباشرة حقوقه السياسية، لكن على كل الأحوال، إن تحقق وعاد “جمال” للحياة السياسية، فالأكيد أنه لن يشعر بغربة عن المشهد السياسي الحالي، حيث سيجد الكثير من الرجال الذين كان يرأسهم في لجنة السياسات ما زالوا يمسكون بالكثير من خيوط اللعبة الاقتصادية في مصر.

ما الذي يجعل طموحا سياسيا إزاحته ثورة عظيمة مازال قائما حتى الآن؟ وما الذي يجعل تساؤلات عن ترشح جمال مبارك للرئاسة مستمرة وملحة رغم كل التغيرات التي شهدتها مصر منذ ذلك التاريخ؟

قد يرى البعض أن الإجابة بديهية وهي أن جوهر السياسات الكبرى في مصر خلال الخمسين عاما الأخيرة لم يتغير، وأن الطريق هو نفسه الذي اختطه السادات لمصر تابعة للغرب.. مصر رأسمالية مرتبطة بالاقتصاد الرأسمالي العالمي وفيه أسواقها مرهونة لمصالح الشركات الكبرى متعددة الجنسيات وطبقة المستوردين المحليين المرتبطة بهذه الشركات حيث يتم إغراق البلاد بالواردات الأجنبية على حساب الصناعة والزراعة الوطنية معتمدة على مصادر دخل ريعية غير مستقرة تجعل اقتصادها كالريشة في مهب الريح عند حدوث كل أزمة عالمية مالية أو سياسية مثلما هو حاصل الآن من أزمة خانقة بعد حرب أوكرانيا. لدرجة أن صندوق النقد الدولي نفسه الذي تعاني مصر ما تعانيه بسبب خضوعها لشروطه وسياساته يلعب دور “الشيطان يعظ” وانتقد ضعف مرونة الاقتصاد المصري وأنه يحتاج لأن يكون أكثر قدرة على تحمل الصدمات والأزمات!!

وهذه الإجابة صحيحة تماما لكنها إجابة عامة لا تتعامل مع تفاصيل مهمة ومنها واقع أن السلطة السياسية المصرية الحالية -ودون قصد- لم تفعل شيئا أكثر من جعل آمال جمال في العودة للسياسة وربما للحكم حية وقائمة، خاصة أنه ليس هناك من ينكر أن لجمال شعبية وقاعدة قوة اجتماعية وسط طبقة الـ10% المهيمنة اقتصاديا، وهي شعبية تنتقل حتى إلى بعض الشرائح الاجتماعية في الطبقة الوسطى التي لم تترنح اجتماعيا وتعاني معيشيا كما باتت تترنح وبقسوة في السنوات الثماني الأخيرة خاصة العام الحالي.

وباتت تقول: “ولا يوم من أيامك يا مبارك” وهي مقولة يذهب رصيدها إلى “مبارك” الابن بنسب الدم ومشاركته الفعلية لأبيه في حكم البلاد في العشرية الأخيرة خاصة في قرارات الاقتصاد وحياة الناس اليومية.

فبسبب نصائح هدفت فيما يبدو لضمان عدم السماح بتكرار (25 يناير) مرة أخرى جرى الحرص على الحيلولة دون حدوث محاكمة سياسية لعهد مبارك، كما جرى الحرص على أن يكون ما هو مقدم للنظام القضائي عن جرائم فساد لمبارك ومعظم رجاله لا يؤهل لأحكام إدانة قطعية، وحتى ما كان صعبا تجاهله من وقائع فساد وتم الحكم القطعي فيه جرى حله بالتصالح المالي.

باختصار انتهت الأمور إلى تبرئة مبارك وأسرته ورجال حكمه إلا فيما ندر -صفوت الشريف مثالا- وحتى قضايا استرداد الأموال الطائلة للأسرة في الخارج والتي يصعب تصور أنها كانت نتيجة عمل مشروع وأنها لم تكن نتيجة تضارب مصالح واستغلال نفوذ، لم تقدم الحكومة المصرية من الأدلة ما يطمئن الشركاء الدوليين لإبقاء وضع “التحفظ عليها” الذي تم بعد ثورة يناير.

ولم يفلت من مهرجان البراءات إلا حكم القصور الرئاسية على الرئيس الأسبق ونجليه لكنه كحكم ماس بالشرف كان كافيا لمنع جمال من ممارسة الحقوق السياسية.

وعلى عكس ما بدا الأمر بعد الحكم المذكور والمناخ العام في السنوات الأولى لثورة يناير من أن فرص جمال في التواجد على المسرح السياسي لمصر، قد تم القضاء عليها تماما وإلى الأبد.. على عكس ذلك انتعشت مجددا آمال جمال التي كانت قد تضاءلت إلى مجرد البقاء بعيدا عن السجن ليداعب خياله مرة أخرى حلم أن يعود يوما إلى القصر الرئاسي الذي عاش معظم شبابه بين جنباته.

من مكر التاريخ أيضا أن جمال مبارك قد يحمد أخيرا شيئا ما لثورة 25 يناير التي أطاحت نهائيا بحكم أبيه ومؤقتا بأحلامه في حكم مصر. وهو أنها أزاحت من أمام طريقه المتخيل إلى “الاتحادية” الحاجز النفسي الكبير وبينه وبين حكم مصر وهي مسألة “التوريث” إذ لو تولى الحكم من أبيه كان سيصبح توريث مباشر من الأب للابن، وهو ما يتعارض مع النظام الجمهوري مهما قيل من حجج ومهما بذل ترزية القوانين من جهد في تعديلات في الدستور جرت وقتها تفصيلا عليه عامي 2005 و2007 وعلى مرتين للمادة 76 سيئة السمعة.

إذ ليس بمقدور أحد أن يقول الآن إنه توريث فقد تولى حكم مصر منذ يناير أربعة رؤساء، (المجلس العسكري ممثلا في المشير الراحل حسين طنطاوي، ثم الرئيس محمد مرسي، وبعد 30 يونيو الرئيس المؤقت عدلي منصور حتى 2014، ثم الرئيس المنتخب عبد الفتاح السيسي منذ ذلك الوقت في انتخابات 2014 و2018).

التبرئة السياسية وشبه القانونية لجمال مبارك وأسرته خوفا من بقاء جذوة الثورة ومطالبها في دولة مدنية ديمقراطية حديثة، وتعطيل الدستور الذي عبر عن الحد الأدنى من هذه المطالب ثم إدخال تعديلات أفرغته من مضمونه لم تكن هي فقط هدايا النصائح الأمنية غير السياسية لجمال مبارك ومعسكره ولكن تم أيضا إزالة عقبات أخرى من طريق طموحه:

– تمت تصفية حلف (25/30) ومحاصرة الشباب بالحبس الاحتياطي ورموز المعارضة بالاغتيال المعنوي والتشهير ومحاصرة الحياة الحزبية بـ”إماتة السياسة” وتخليق أحزاب في المعمل على مقاس الحزب الوطني المنحل بل أحيانا ببعض وجوهه القديمة.

– أيضا وتحت استنتاج خاطئ تماما يزعم أن هامش الحرية النسبي الذي أتاحه مبارك ونجله في السنوات الست السابقة على 25 يناير كان السبب الأساسي لسقوط مبارك، وليس السبب الحقيقي المتمثل في الظلم الاجتماعي وتدهور التعليم والصحة وممارسات الشرطة في عهده.

تحت هذا الاستنتاج تمت نصيحة الحكومات منذ 2014 بوضع الإعلام عبر التنظيم الإعلامي وعبر الاستحواذ المالي تحت هيمنتها، وصار مما يترحم عليه من مرحلة ما قبل الثورة إضافة الى مستوى زيادة الأسعار التدريجي في عهد مبارك قياسا على مستوى الزيادة الصاروخي منذ التعويم في 2016 صار يتم الترحم أيضا على هامش الحرية الإعلامي وحركة المجتمع المدني في السنوات الست الأخيرة لعهد مبارك.

– هذه الهدايا السياسية غير المخطط لها من السلطة الحاكمة تضاعفت جوائزها لمبارك الابن مع عودة استعانتها بشكل مكثف بالعديد من وجوه نخبة ارتبطت بمرحلة جمال مبارك ولجنة سياساته الشهيرة سواء في الحوار الوطني والمؤتمر الاقتصادي أو مؤتمر المناخ -استثني من ذلك وللانصاف بعض الكوادر التي ظهرت في مرحلة جمال كما ظهرت في مراحل سياسية أخرى سابقة عليه ليس ولاء له ولكن ولاء لفكرة في التاريخ المصري الحديث يعتنقها تيار من النخبة غير قليل يرى أن الإصلاح والنهضة ممكنة فقط من داخل الدولة المركزية النهرية وليس بالانقلاب أو الثورة عليها.

لقد بدا أن أحزابا مثل “مستقبل وطن” هي أحزاب غير مقنعة، وأن كوادر شابة مثل كوادر “التنسيقية” و”الأكاديمية الوطنية للتدريب” مازالت تحتاج لوقت حتى تثبت نفسها كنخبة للسلطة الحالية، فجرت العودة أوتوماتيكيا للدفاتر القديمة ولسجلات أقرب نخبة تكون متفقة مع السياسات العامة المطبقة، وهو تقليد من تقاليد الدولة المصرية عندما تواجه أزمة شديدة وهي غير مستعدة لمواجهتها.

باختصار ربما يوجد رهان الآن على أن الضائقة الاقتصادية التي تمر بها الدولة في مصر، وتقيد نسبيا من قدرتها على مقاومة ضغوط مستمرة من الدول الغربية المانحة لإجراء مزيد من الانفتاح السياسي وإجراء انتخابات رئاسية -أكثر تنافسية- من انتخابات 2018، قد تقود -خاصة مع ضرورة خروج الحوار الوطني بنتائج ما- إلى مناخ عام يقوم فيه جمال مبارك -الذي مازال له أصدقاء مهمين في الغرب- برفع قضية لرد اعتباره واستعادة حقوقه السياسية وعنده آمال أكبر في أن يحكم القضاء لصالحه في مثل هذا المناخ.

إذا حدث هذا وهو مستبعد نسبيا -بحقائق القوة والسلطة- لكنه ليس مستحيلا تماما فقد لا يتردد جمال مبارك مدعوما بجيش من رجال الأعمال ونخبة مصرفية ومالية وبعض رجال الإعلام “المباركيين” في التفكير الجدي في المنافسة في انتخابات العام 2024 على رئاسة مصر.