قبل أقل من عقد، عانت الجزائر انكفاءً داخليًا وجمودًا دبلوماسيًا مع مرض الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة. لكن عبد المجيد تبون الذي اعتلى رأس السلطة عام 2019 سعى لتحريك هذا الجمود والاتجاه نحو سياسة خارجية أكثر نشاطًا. ونصبّها جوهرًا لفعالياته السياسية؛ بحثًا عن شرعية داخلية -إثر قدومه عبر انتخابات ضعيفة المشاركة شعبيًا، واستغلالاً للظرف الدولي والإقليمي الذي تُعاد فيه هندسة العلاقات وبناء/إعادة ترميم التحالفات.
تجلى هذا النشاط الدبلوماسي بوضوح في استضافة الجزائر لقمة جامعة الدول العربية الـ31، وما سبقها من تحركات مكثفة نحو مختلف الدول العربية أملاً في إنجاح القمة أو منحها زخمًا إعلاميا لنيل ذاك الانطباع على الأقل. كما استبقتها باستضافة اجتماع لمختلف الفصائل الفلسطينية في محاولة خجولة لإنهاء الاقتسام.
استعادت الجزائر بعضًا من نشاطها فيما يتعلق بالأزمتين الليبية والمالية (نظرا للحدود المشتركة). ومحاولة التوسط بين القاهرة وأديس بابا في أزمة السد النهضة أو الأخيرة والسودان في الأزمة الحدودية بينهما. ودعم المسار السياسي “المُنفرد” للرئيس قيس سعيد في تونس. إضافة إلى إعلاء الخطاب القومي وإظهار الندية خلال توتر العلاقات مع فرنسا أو قطعها مع إسبانيا (إثر اعترافها بمغربية الصحراء).
وكذلك دفعتها الأزمة الدبلوماسية مع المغرب إلى التنافس الخارجي، والتقارب مع إيران في إطار المواجهة مع الحلف “المغربي-الإسرائيلي”. ولعبت دبلوماسية الغاز -في سياق الحرب الروسية الأوكرانية- دورًا في تسريع الاهتمام الغربي والأمريكي بتحسين العلاقات وتوقيع الاتفاقيات؛ باعتبار الجزائر أكبر مُصدر للغاز في أفريقيا.
اقرأ أيضا.. مخيم شعفاط.. غُصَّةٌ مقدسيةٌ في خاصرةِ الاحتلال الإسرائيلي
كيف استعاد تبون زمام الدبلوماسية؟
في عهد الرئيس السابق بوتفليقة، اقتصرت الجهود الدبلوماسية الجزائرية على التعاون في مكافحة الإرهاب. حتى في خضم الاضطرابات الإقليمية، لم تتدخل الجزائر في ليبيا ولا في مالي وفضلت دائمًا تسوية سياسية تبدو بعيدة المنال، بحسب الباحث الجزائري، زين العابدين غبولي، في تحليله على “معهد الشرق الأوسط” بواشنطن.
ومع تولي تبون السلطة، بدأت السياسة الخارجية الجزائرية في التغيّر بهدف “التحوّل لتحقيق حالة من التوازن بين المحاور الإقليمية والدولية، وتنويع الشركاء الدوليين، بما يحقق لها سياسة خارجية متوازنة”.
ويرى الكاتب الجزائري حسان زهار في مقال رأي على صحيفة “الشروق” الجزائرية أن “الدبلوماسية الجزائرية تخلصت بشكل كبير من بعض التأثيرات الخارجية، وعلى رأسها الخليجية”، في إشارة إلى تبعية بوتفليقة ونظامه للإمارات. والتخلص من هذه التبعية، جعل الدبلوماسية الجزائرية “بصدد صناعة مجدها من جديد، على أسس صحيحة”. وطموحات تبون في لعب دور إقليمي أكبر أظهرت استعدادًا لإعادة إشراك السلكين الدبلوماسي والعسكري. إذ ترى إدارته أن السياسة الخارجية أداة حاسمة لضمان استمراريتها.
تبدى ذلك في إعادة المخضرم في أدوار الوساطة، رمطان لعمامرة، على رأس الدبلوماسية الجزائري، وإجراء تعديلات دستورية -في 2020- سمحت للجيش لأول مرة بأداء بمهمات عسكرية خارج البلاد، بعدما كان غير ممكن في السابق. وذلك “في سياق جهود الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والجامعة العربية، لإحلال الأمن والسلم العالمي”. وبالتالي وفّر التعديل دعمًا لجهود الوساطة الجزائرية.
وهو ما ألمح إليه قائد أركان الجيش الجزائري، الفريق سعيد شنقريحة، بقوله “الحرص في المحصلة على ألا تعاد هيكلة العالم في كل مرة في غيابنا، وعلى حساب مصالحنا الحيوية، وعدم الاكتفاء بالاندماج السلبي في خريطة العالم الجديدة ونماذجها الاقتصادية والثقافية”.
وأعادت الجزائر انتشارها الخارجي من خلال تعيين مبعوثين على مستوى المناطق ومستوى الدوائر الجيوسياسية. وفي منتصف عام 2021، كان هناك إعادة انتشار لمبعوثين إلى المناطق العربية؛ مبعوثين دائمين على مستوى وزارة الخارجية للاتحاد الأفريقي، ولمنطقة المغرب العربي، ولجامعة الدول العربية، وحتى للقارة الأوروبية والعديد من المؤسسات التي ترتبط بالأمن القومي الجزائري.
يعد الحراك الدبلوماسي الحالي “بمثابة استجابة حتمية فرضتها التوجهات الجديدة للسياسة الخارجية الجزائرية، في ظل التحديات الأمنية التي تواجهها ومحيطها الإقليمي، الأمر الذي دفع بإدارة تبون إلى تجسيد مفهوم جديد لسياسة خارجية جزائرية نشطة واستباقية، جعلتها تسترجع دورها الحيوي في المحافل الدولية وتتموقع كقوة إقليمية فاعلة”، بحسب عبد النور تومي، المتخصص في دراسات شمال إفريقيا في مركز دراسات الشرق الأوسط (أورسام).
حيث نجح الرئيس الجزائري ووزير خارجيته لعمامرة -وفق ما يرى تومي- في إعادة تفعيل سمعة الدبلوماسية الجزائرية، التي ترتكز على إحلال السلم والأمن الدوليين، وأداء دور الوسيط الوثيق في القضايا الإقليمية والدولية. وهو الدور الذي كان معروفًا عن الجزائر في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
التحركات الجزائرية وإعادة الصياغة
استهل تبون ولايته بمحاولة كبح النفوذ الفرنسي سواء في الداخل أو في الجوار القريب وتحديدًا مالي. فمع انحسار الدور الفرنسي في منطقة الساحل، تنامى الدور الجزائري في إدارة ملفات أزمة مالي (الانقلاب العسكري)، لاسيما أن البلدين يرتبطان بحدود شاسعة تبلغ حوالي 1376 كيلومتر، ما يجعلهما يُمثلان عمقًا استراتيجيًا بالنسبة لبعضهما البعض.
ولعبت الجزائر دورًا في الوساطة بين الحكومة والحركات الانفصالية المسلحة في الشمال ومكافحة الإرهاب والمساعدة في مواجهة العقوبات الاقتصادية بعد قرار المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (الإيكواس) بفرض عقوبات مالية واقتصادية، بحسب ما تشير إليه الباحثة في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، آمنة فايد. كما أنها داعم رئيسي للدور الأمني الذي تلعبه شركة “فاجنر” الروسية.
وفي ليبيا تحفظت الجزائر على التدخل في بدايات الأزمة، ولكنها ألقت بثقلها في متابعة تنفيذ خريطة الطريق التي أٌقرَّت في برلين عام 2020، والتي تقوم على ضرورة إجراء الانتخابات العامة بإشراف الأمم المتحدة. وقد طلب رئيس حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا، عبدالحميد الدبيبة، من الرئيس الجزائري، تبون، في أواخر مايو/أيار الماضي، دعم تحقيق المصالحة بين الأطراف كافة باعتبارها طرفًا محايدًا. إلا أنها تتقارب بشكل كبير مع الموقف التركي، وهو ما يُباعدها عن مصر في هذا الملف.
وتقول فايد “تصدرت الجزائر مؤخرًا المشهد كفاعل أفريقي حيوي ومؤثر، سواء بالنسبة لجيرانها الحدوديين، وبالأخص مالي، أو بالنسبة لأوروبا، وذلك بالاعتماد على موقعها الاستراتيجي المُتميز، الذي جعلها إحدى البوابات الرئيسية، والأكثر أمنًا للقارة الأفريقية، كونها الدولة الوحيدة التي تربط دول شمال المتوسط، بعمق القارة الأفريقية، حيث الصحراء الكبرى ودول الساحل الأفريقي الغنية بالموارد الطبيعية”.
وبينما تسعى أوروبا للتخلص التدريجي من واردات الغاز الروسي وتنويع مصادر إمدادات الطاقة، وجدت الجزائر الفرصة سانحة لتصدر المشهد العالمي من خلال لعب دور محوري ورئيسي في توفير الغاز الطبيعي لأوروبا، لاسيما أن الانظار بالفعل اتجهت نحوها، كونها أكبر مُصدر للغاز في أفريقيا، بنحو 55.2 مليار متر مكعب في عام 2021، وتعتبر من أهم مُصدري الغاز الطبيعي لدول الاتحاد الأوروبي.
وأعلن وزراء الطاقة بالجزائر والنيجر ونيجيريا توقيع مذكرة تفاهم لوضع اللبنات الأولى لمشروع خط لنقل الغاز من نيجيريا إلى الجزائر مرورًا بالنيجر إلى أوروبا عبر خطوط أنابيب جزائرية. إضافة إلي توقيع كل من شركة “إيني” الإيطالية و”سوناطراك” الجزائرية المملوكة للدولة -في أبريل/نيسان 2022- على اتفاقية جديدة لزيادة حجم الغاز المُصدر عبر خط أنبوب الغاز (ترانسمد)، الذي يربط البلدين عبر تونس والبحر الأبيض المتوسط، وتسريع وتيرة تطوير مشروعات إنتاج الغاز الطبيعي بين البلدين.
تسعى الجزائر من خلال سياستها تجاه ملفات أزمتي مالي والطاقة، إلى إدارة ملف الصحراء، بما يضمن مصالحها وأهدافها، في ضوء محاولة موازنة علاقتها بين كل من الجانب الأوروبي والروسي، واستغلال تلك العلاقات كأوراق مساومة لكسب دعم الطرفين في قضية الصحراء، بحسب آمنة فايد.
وساعد ذلك على تبني الجزائر سياسة خارجية نشطة لعب فيها انتعاش اقتصادها دورًا، على اعتبارها دولة ريعية، تعتمد منذ استقلالها في تمويل سياساتها التنموية المختلفة على عائدات صادراتها من هذه الموارد.
دور مشابه للدور الهندي
على الصعيد الاقتصادي، تنامت العلاقات التجارية والاستثمارية والعسكرية مع الصين بشكل غير مسبوق. إذ نجحت الصين مؤخرا في إزاحة فرنسا عن صدارة المصدرين للجزائر. كما تمكنت من انتزاع صفة الشريك التجاري الأول للجزائر من الولايات المتحدة. ذلك في إطار “شراكة استراتيجية شاملة”، وهي الشراكة الوحيدة من نوعها للصين في المغرب العربي.
وتعمقت العلاقات التجارية والسياسية مع تركيا، وتقاربت مع إيران على أرضية مواجهة اتفاقيات التطبيع بالمنطقة. وظلت على متانتها مع روسيا خاصة على صعيد استيراد السلاح. فالجزائر ثالث مستوردي السلاح الروسي (بعد الهند والصين). وتُقدر نسبة المعدات العسكرية التي استوردتها من روسيا خلال الثلاث سنوات الماضية بحوالي 81% من إجمالي وارداتها من السلاح.
وهو الأمر الذي يجعل الجزائر شريكًا اقتصاديًا استراتيجيًا بالنسبة لروسيا خاصة في الوقت الحالي، سواء بالنسبة لوضع روسيا المُضطرب، أو بالنسبة للانتعاشة الاقتصادية التي من المُتـوقع أن تشهدها الجزائر خلال الفترة القادمة على خلفية تنامي حجم ووتيرة استثماراتها في صادرات الطاقة.
وأعلنت الجزائر عن إمكانية انضمامها إلى منظمة “بريكس” الاقتصادية (تتزعمها روسيا والصين)، لكونها “قوة اقتصادية وسياسية”. واعتبر تبون أن الانضمام للمجموعة سيبعد الجزائر عن “تجاذب القطبين”.
تقول مؤسسة “فنك” الهولندية المعنية بشؤون الشرق الأوسط “في نهاية المطاف، فإنّ المسألة الأهم التي يتوجب على السياسة الخارجية (الجزائرية) أخذها بعين الاعتبار في الفترة المقبلة هو ضمان تحقيق التوازن بين المعسكرين الأوروبي والروسي على الأصعدة الدبلوماسية والأمنية والاقتصادية”.
ولكن وفق “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى” فإن تدهور العلاقات مع أمريكا نتيجة اعتراف دونالد ترامب بمغربية الصحراء وعدم تعديل بايدن لذلك المسار دفعها للارتماء أكثر في أحضان ما وصفه بالمعسكر التعديلي -أي روسيا والصين.
وأزمة الطاقة في أوروبا “فرصة قُدّمت إلى الجزائر على طبق من فضة لتستعيد أهميتها في نظر الولايات المتحدة مع إبقاء قنوات التواصل مفتوحة مع روسيا والصين وإيران في الوقت نفسه. بعبارة أخرى، يمكن للجزائر اعتماد سياسة خارجية شبيهةً بتلك التي استخدمتها الهند بنجاح، أي غير مقيّدة وغير منحازة”. وعليه ستكسب أهمية في أجندة واشنطن كشريك أساسي يحقق مساعي أوروبا إلى الاستقلالية الطاقوية، وهو أمر لطالما اندرج ضمن أولويات الولايات المتحدة.
“الجزائر ربما تعيش أهم لحظة في تاريخها الدبلوماسي منذ نهاية الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي. وهي تواجه تحديات ملحة من جهة وفرصًا ناتجة عن البيئة الجيوسياسية الحالية من جهة أخرى. وعلى الجزائر الإقرار بذلك وبأنه في ظل مواصلة الحرب في أوكرانيا إعادة رسم معالم العلاقات المتعددة الأطراف الأشمل، عليها أن تقرر ما إذا كانت تريد التمسك بالحياد أو الانحياز أكثر نحو المعسكر التعديلي -وهو قرار سيؤثر على مكانتها في الأنظمة الإقليمية والدولية على السواء”، يقول الباحث فاسيليس بتروبولوس، الذي تركز أبحاثه على حل النزاعات والوساطة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
التحديات الداخلية كعائق
تمكنت الجزائر من السيطرة على الوضع الداخلي بعد حراك شعبي سلمي دام لأشهر، تلتها أزمة صحية عالمية (جائحة كوفيد-19)، مما جعل الجزائر تحقق مكسبًا لأمنها واستقرار نظامها الداخلي. ما أسهم في تفعيل حراك دبلوماسيتها اليوم وفق عقيدة سياسة خارجية جديدة، تبعًا لما يذهب إليه عبد النور تومي.
لكن الكاتب الجزائري، يونس سليماني، يعتقد أن السياسة الخارجية للجزائر، رغم هويّتها، تبدو في تراجع مقارنة بتألقها التاريخي، أولاً بسبب المشاكل الداخلية وثانيًا لأنها لا تزال حبيسة العمل التقليدي “إنها تبدو متأخرة عن توظيف أدوات القوة الناعمة في التأثير، وهو التوجه المتنامي إقليميًا ودوليًا”.
وهو ذات ما يلفت إليه الباحث في مركز “المستقبل“، محمود عبد العال، بإشارته إلى عدم ارتباط الوساطة الجزائرية بأدوار تنموية وإغاثية فاعلة في بؤر الصراع التي تحتاج إلى معالجات اقتصادية وتنموية على غرار الأزمات في أفريقيا. وعلى الرغم من إنشاء الجزائر منظمة إغاثية مؤخرًا، فإن دورها “لا يزال ضعيفًا ويحتاج إلى مضاعفة الجهود”.
سيساعد الاستثمار في مجال صناعة الطاقة في الإصلاحات مستقبلاً ولكنه لا يقدم الكثير اليوم لمعظم الجزائريين، الذين يبلغ عددهم خمسة وأربعين مليونًا ويعانون من نقص المواد الغذائية الأساسية والتضخم الكبير في الأسعار وانقطاع المياه وغير ذلك من المخاوف اليومية، بحسب “المجلس الأطلنطي“. فبدافع اليأس، يواصل الجزائريون الهجرة غير النظامية إلى أوروبا بأعداد كبيرة، وتتوسع شرائح المجتمع المستعدة للمخاطرة بركوب القوارب الخطرة.
واستعادة الدور الإقليمي والدولي سيظل معقدًا دون شرعية شعبية جادة لتمكين المسؤولين. ستواصل الجزائر العمل كشريك أمني قابل للحياة وموثوق به للمجتمع الدولي. وستقدم المساعدة والدعم الدبلوماسي. وقد تحاول حتى جذب المزيد من المستثمرين إلى سوق الطاقة الواعد. ومع ذلك “ستظل الجزائر ضعيفة إذا لم تحل مشاكلها الداخلية. ولن يكون التأثير الإقليمي مستدامًا إلا إذا كان مدعومًا بمؤسسات قابلة للحياة ومستقرة -وهو هدف منعته تحديات الجزائر العديدة حتى الآن من التحقق”.