حتى أفضل الأوقات لا تخلو من لحظات عصيبة، إنها الطبيعة المزدوجة والمألوفة للحياة، لم يتعارض استمتاعي بخوض تجربة المشاركة في البرنامج الدولي للكتابة (iwp) في ولاية آيوا الأمريكية، مع مروري في بعض الأوقات بلحظات عايشت فيها ضغوطا عصبية أو سوء حظ، لكني لا أنوي هنا استعراض أسباب هذه اللحظات وإنما تجربة معايشتها والتخلص منها، ويمكن القول إن أكثر من 90% من أسباب نجاحي في التخلص من هذه الضغوط، تتلخص في كلمة واحدة: الشوارع!
اقرأ أيضا.. ثقافة غير افتراضية في العالم الحر (رسالة آيوا)
الشوارع، التفكير فيها وتخطيطها، العمل على إنشائها وشقّها، تهيئتها للمارة والعربات (وأحيانا الحيوانات) والدراجات، تحويلها إلى تجربة مناسبة – بل حتى منعشة – للبشر على مختلف اهتماماتهم واحتياجاتهم، الحرص على أن تكون – إضافة إلى كل ما سبق – محفزا على الانتعاش الاقتصادي، ومرونة الحركة منها وإليها وعبرها، وفوق كل ذلك معبرة عن ثقافة المكان الذي تنتمي إليه. كل ذلك وأكثر، هو الخطوة الأولى في إنشاء الفارق بين مرحلة المدنية الحضرية وما قبلها. بين المدينة/ البلدة والغابة. بين قرى العصور الوسطى ومراكز الحياة الحديثة.
بالنسبة إليّ، كان الأمر أبسط من ذلك. حتى لو كانت البساطة خادعة (إذ تخفي البساطة الكفؤة دائما عملا كبيرا مختبئا خلفها، تماما كالنص الأدبي المبدع). كنت كلما شعرت بالضيق لسبب أو لآخرـ أخرج للتمشية في شوارع مدينة آيوا – الهادئة، صغيرة الحجم، الشبابية، مقارنة بالمدن الكبرى كنيويورك وشيكاجو. بعد دقائق، مهما كان حجم الضيق، يبدأ في التبخر، يتطاير مع النسمات الباردة، يتلاشى وسط أوراق الأشجار الكثيفة، متباينة الألوان خاصة في فصل الخريف.
ليس الحديث هنا عن الفارق بيننا وبينهم في حجم وكثافة الخُضرة والأشجار، ولا حتى الحديث عن الطريقة التي نعامل بها أشجارنا القليلة، فإني أعرف كم هو فادح الفارق بين حجم الخضرة هنا وهناك، إنه أمر شاءته الجغرافيا وحددته الطبيعة، تبلغ الأراض المزروعة في الولايات المتحدة حوالي مليون و600 ألف كيلومتر مربع، ومثلها صالح للزراعة، ما يساوي حوالي 400 مليون فدان مزروع (المركز الأول عالميا)، بينما يبلغ عدد أراضينا المزروعة ما لايزيد عن 30 ألف كيلومتر مربع (حوالي 7 مليون فدان) (المركز 64 عالميا) وأقل منها صالح للاستزراع، ولكن هذا قدرنا الصحراوي، أن نعيش على أقل من 4% من مساحة بلدنا، وأن نعلم أنه حتى هذا الشريط بالغ الضيق لم يكن ممكنا لولا النيل.
لهذا فإن الأشجار في الطرق، على أهميتها وعلى ضرورة عدم التنازل نهائيا عن تواجدها، ليست هي العامل الوحيد الذي يجعل من الطريق العام جزءا حيويا من الحاضر العصري للمدينة، وعاملا ملازما لرفاهية سكانها، العقلية والنفسية قبل الجسدية والمهنية.
الأرصفة، في آيوا الصغيرة، واسعة بطبيعتها، متناسبة مع حجم الطريق المخصص للعربات. ليس الرصيف شريطا ضيقا يطل على “أوتوستراد عريض” و لا العكس “شريطا واسعا على ممر ضيق”، يبدو الشارع كأنه مقسم إلى ثلاثة أو أربعة أقسام، قسمان منها دائما لرصيف المشاة (وأحيانا الدراجات، فهي فوق الرصيف أحيانا بمسار محدد، أو تحته بخطوط فسفورية واضحة)، وبين هذه وذلك ثمة إشارات للمشاة إضافة إلى إشارات السيارات، وأزرار تتيح للمارة الضغط عليها ومن ثم إيقاف إشارة السيارات لو لزم الأمر.
بالطبع، فإن إشارات خطوط المشاة متكررة وواضحة، موجودة دائما على “ناصية” الشارع وتقاطعاته، والأولوية للمشاة دائما، البديهي هو أن تتوقف السيارة لأجل عبور المارة وليس العكس.
هل من داع للحديث عن درجة انحدار الرصيف المنضبطة، التي تتيح سهولة الحركة خاصة للكراسي المدولبة لأصحاب الاحتياجات الخاصة (يتمتعون هنا باستقلالية فردية كبرى بفضل مراعاة احتياجاتهم في كل مكان؛ في الشارع، في الرصيف، في الكاراج، في المحلات، دورات المياه، دور السينما..إلخ). لكن هذا الانحدار المصمم للرصيف مضبوط الزاوية بحيث لا يتسبب في انزلاق المارة، فقط يسمح بمرور العجلات المدولبة، الدراجات، وكذلك مرور قطرات المطر إلى البالوعات المخصصة لها.
ومثل البساطة الخادعة التي تحدثنا عنها تكمن التكنولوجيا في دقة هندسة الطرق (يقول الخبراء إن 70% من طرق منع الحوادث تكمن في طريقة تصميم الطريق من الأصل).
هكذا قد ترى الرصيف أمامك بسيطا، حجريا، مزدهرا بالتماع المطر وأوراق الأشجار المتساقطة في الخريف والهدوء النابع من انعدام “ثقافة الكلاكس”، لكن خلف كل هذا دقة ونظام أعطى لكل شيء حقه في التصميم و -الأهم – المتابعة والصيانة. قد تدلف إلى أحد المباني الجامعية في مدينة آيوا فتنسجم من التصميمات البسيطة لكن كل شيء هنا مدار بالتكنولوجيا، استئجار قاعة للعرض لا يتطلب وجود موظف يفتحها ويغلقها، فالأبواب والقاعات تفتح بشفرة إلكترونية يتم حجزها حسب المدة التي تطلبها لشغل القاعة، وتنغلق إلكترونيا بعد ذلك، فلا مكان للزحام فيما قبل ولا التلكؤ فيما بعد، وإنما قاعات، مبان، شوارع ينساب فيها الوجود البشري بهدوء ودقة من دون مجهود وعرق لأن كل شيء مصمم في “السيستم” من البداية. وهكذا قد تجد نفسك من دون أن تنتبه قد مشيت العديد من الكيلومترات، وأصبحت –بالتدريج– أفضل صحة، أطيب نفسا، أهدأ أعصاباـ بالطبع فإن نيويورك سيتي، على سبيل المثال، ليست كذلك، قل فيها ما شئت، المدينة المجنونة، المتنوعة، سريعة الإيقاع، لو توقفت لحظة خلال المشي لاصطدمت بك الجموع المتعجلة، لكنك رغم ذلك قادر على الاستمتاع بكل ما فيها، بالتصميمات المتناسبة مع تلك الروح العصرية، بناطحات السحاب التي لم تمنح ثروات أصحابها – وأعني الثروات الحقيقة بتريليونات الدولارات – الحق لهم في الخروج على الطراز العام لمعمار المدينة، الواجهات الزجاجية هائلة الارتفاع في مانهاتن تختلف عن جدران المنازل الحجرية المهيمنة على بروكلين، والأشجار الخضراء العتيقة في سنترال بارك تختلف مع شاشات الألوان المذهلة على بعد 20 دقيقة مشيا في شارع بروداي، وفي المباني الجامعية في قلب نيويورك سيتي حيث حضرنا اللقاء مع صاحب نوبل أورهان باموق عن روايته الأخيرة “ليالي الوباء” فوجئنا بأن أجهزة هواتفنا التقطت الإنترنت الجامعي المجاني بنفس كلمة السر التي كنا نستخدمها في آيوا على بعد أكثر من 1000 ميل.
بين الخُضرة والهدوء والأنهار في آيوا، وتناغم ناطحات السحاب مع المسارح والفنون في نيويورك سيتي، وانسجام التنوع وقوة الرياح والجولات البحرية في شيكاجو، ليست الثروة والإمكانات –على أهميتها- هي المعيار الأول، وإنما التفكير في الإنسان على أنه الكيان الذي يصمم الشارع من أجله على كل المستويات، المرورية والترفيهية والصحية والنفسية، فيكون “الخروج”، أو “تجربة الوجود في الخارج”، جزء من أسباب حب المكان؛ حب المدينة؛ حب الوطن. وألا يكون عكس كل ذلك؛ تجربة مستهلكة للجهد مدمرة للأعصاب، يعيشها المرء كأنه يقضي عقوبة.