مع تراجع حظوظه السياسية وسط الانهيار الاقتصادي في لبنان، والفساد المستشري في البلاد، حاول حزب الله إعادة نفسه في صورة اللاعب القوى في مواجهة إسرائيل، والذي يحافظ على مصالح الشعب اللبناني. فاستغل أزمة الخلاف على الحدود البحرية الإسرائيلية- اللبنانية. وأرسل ثلاث طائرات دون طيار فوق حقل غاز كاريش في يوليو/تموز الماضي. ثم هدد بالضرب إذا لم يتم حل هذا الخلاف.
رغم مناوشات حزب الله، كان هناك اتجاه يرى أنه يتجنب التصعيد مع إسرائيل. ويكتفي بالتهديد باستخدام صواريخه وطائراته المسيرة. وهذا قد يحقق نتائج أكثر من الأسلحة نفسها. وأن حربا أخرى يمكن أن تكون لها تداعيات أسوأ على الحزب من تقديم تنازلات لعدوه اللدود. لكن، كانت حملة زعيم التنظيم، حسن نصر الله، متكاملة في الأشهر الأخيرة. ومليئة بالخطوات الإدراكية “أي ترسيخ صورة ذهنية معينة” والدبلوماسية والحركية والاقتصادية.
لذلك، مع إقرار اتفاقية الحدود البحرية بين الجانبين، أعلن نصر الله انتصارًا نسبه أساسًا إلى “المقاومة المسلحة”. بينما البعض في إسرائيل صار معتادا على قبول ادعاءات نصر الله بأن حزب الله ظهر بيده العليا في هذه المفاوضات. في مواجهة هذا التحدي، تساءل عدد من خبراء معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي INSS. حول كيف يجب على إسرائيل ردع حزب الله عن اكتساب الإحساس بالنصر المتضخم والشعور بالردع الإسرائيلي المتآكل؟
يرى هؤلاء الخبراء. وهم يورام شفايتسر، رئيس برنامج INSS حول الإرهاب والصراع منخفض الكثافة. وعنات شابيرا، الباحثة المشاركة في برنامج الإرهاب والصراع منخفض الكثافة في المعهد الوطني للعلوم الاجتماعية. وديفيد سيمان، نائب رئيس معهد أبحاث منهجية الاستخبارات. أنه “من الصعب تحديد من كانت إنجازاته الاستراتيجية أكبر في المعركة الحالية على الحدود البحرية وضخ الغاز، بما في ذلك الحملة من أجل الصورة الذهنية والـتأثير على الرأي العام. بالنظر إلى أن كل جانب مقتنع بإنجازاته ويقدم تبريرات مختلفة لموقفه”. في الوقت نفسه، هناك من يرى في إسرائيل أن نتائج المفاوضات هو “خسارة” للدولة العبرية.
اقرأ أيضا: ترسيم الحدود البحرية: إسرائيل تحوز “تريليونات الواقع”.. ولبنان ينتظر “غاز المجهول”
حملة متكاملة لجمهورين
يرى التحليل أن “الحملة الإدراكية والحركية والدبلوماسية والاقتصادية المشتركة. التي شنها حزب الله، منذ يونيو/ حزيران 2022، حول ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. استهدفت جمهورين رئيسيين، هما الجمهور اللبناني والجمهور الإسرائيلي”.
يقول: انطلقت الحملة التي تستهدف الجمهور اللبناني على خلفية أزمة سياسية واقتصادية حادة. وازدادت الانتقادات العلنية للتنظيم باعتباره أحد الأطراف المسؤولة عن الأزمة. في الخطاب العام اللبناني، اتهم حزب الله بأنه يعطي الأولوية للمصالح الإيرانية على المصالح اللبنانية، وأنه من الناحية العملية يملي السياسة الخارجية والأمنية اللبنانية.
وأضاف: كما وُجهت انتقادات شديدة لحزب الله، بسبب احتفاظه بقوته العسكرية. في ضوء هذا الانتقاد، كان على حزب الله تبرير استمراره في الاحتفاظ بترسانة أسلحة، وتعزيز نفوذه السياسي في مواجهة خصومه، وإثبات صحة ادعائه بأنه “المدافع عن لبنان”.
وتابع التحليل أنه “بالنسبة لإسرائيل، سعى حزب الله إلى تعزيز عنصر الردع، وأعلن أنه لا يخشى المواجهة ومستعد للقيام بأعمال عسكرية إذا لزم الأمر. هنا، تهدف الحملة -التي كان العنصر المعرفي فيها مهيمنًا- إلى خلق شعور بالإلحاح والتهديد الحاد في إسرائيل. من خلال التأكيد على قدرة التنظيم على إلحاق الضرر بأهداف استراتيجية في جميع أنحاء الدولة العبرية، بما في ذلك حقل غاز كاريش وما وراءه”.
وأوضح التحليل أنه “تم شن الحملة في المقام الأول من خلال الخطب والمقابلات، التي ألقاها نصر الله وشخصيات بارزة أخرى، لوسائل الإعلام الداعمة في لبنان، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي”.
وقال: شددوا في هذه التصريحات على البعد الاستراتيجي لقضية الغاز، وأهميته في حل مشاكل لبنان الاقتصادية. وروجوا لفكرة أن “المقاومة المسلحة” لحزب الله، هي وحدها القادرة على الدفاع عن مصالح لبنان، ودفع إسرائيل إلى إعادة ما هو حق للبنان في البحر المتوسط”.
ولفت إلى قيام رجال حزب الله بنشر -في جملة أمور- مقاطع فيديو ورسوم كاريكاتورية، تظهر خوف إسرائيل من التعرض للهجوم، بما في ذلك في منصة كاريش. كما زارت شخصيات بارزة في حزب الله الحدود الإسرائيلية.
إلى حافة الهاوية
بالإضافة إلى المواد الدعائية المرئية، أدخل حزب الله أدوات حركية في حملته. في مناسبتين، أطلق التنظيم طائرات مسيرة غير مسلحة باتجاه منصة كاريش (يونيو/حزيران – يوليو/ تموز 2022).
يلفت التحليل إلى أن عمليات الإطلاق أظهرت قدرة حزب الله العسكرية “مما يدل على أن ترسانته من الأسلحة الدقيقة يمكن أن تضر بإسرائيل إذا استمرت في تجاهل المصالح اللبنانية في البحر أو في أي مكان آخر”. وأنه “إلى جانب التهديدات الكلامية الشديدة، استخدم حزب الله الطائرات بدون طيار لإثبات استعداده للتصعيد”.
أيضا، أرسلت قيادات التنظيم أسطولًا رمزيًا من ساحل طرابلس باتجاه المياه الإقليمية لإسرائيل، كتحدي للحدود البحرية. كما عزز حزب الله انتشار القوات على طول الحدود، وأقام نقاط مراقبة إضافية، وقام مقاتلوه باستفزاز قوات الجيش الإسرائيلي على طول السياج. وفي احتجاج رمزي، ألقى السياسيون اللبنانيون الذين زاروا السياج الحجارة على الأراضي الإسرائيلية. كما أرسل حزب الله رسائل تهديد عبر القنوات الدبلوماسية.
يشير المحللون الإسرائيليون الثلاثة إلى أن هناك عددا من الظروف الخلفية أثرت على إدارة إسرائيل وحزب الله للأزمة في المفاوضات. وساهمت في الضغط، الذي دفع إسرائيل ولبنان للتوصل إلى اتفاق لخدمة مصلحتهما، في الحد من خطر الانزلاق إلى المواجهة.
يقولون: واجهت كل من إسرائيل ولبنان ساعات سياسية موقوتة. في إسرائيل انتخابات الكنيست، وفي لبنان نهاية ولاية الرئيس ميشيل عون. كما دفع الحفر في كاريش حزب الله للتهديد بعرقلة الخطة.
وأضافوا: تأثر الجانب الإسرائيلي -بشكل كبير- بضغوط الإدارة الأمريكية للتوصل إلى اتفاق. حيث أكدت الولايات المتحدة على أزمة الطاقة العالمية، وفهم الإسرائيليون أن هذه الاتفاقية من المرجح أن تدمج لبنان في إنتاج الغاز في المستقبل. مما يمنح المنطقة الاستقرار الاستراتيجي، ويعطي لبنان مستقبل اقتصادي أفضل، ويصعب على حزب الله اتخاذ خطوات عسكرية ضد إنتاج الغاز الإسرائيلي، في ظل الثمن الذي سيدفعه لبنان والتنظيم مقابل هذه الخطوات.
وأكدوا أن حزب الله “أدار حملته إلى حافة الهاوية”.
اقرأ أيضا: الصراع على “كاريش”.. جولة خطرة من سياسة حافة الهاوية بين إسرائيل وحزب الله
تفاهمات مستقبلية
يلفت المحللون إلى أن نصر الله “كان يعتقد أن إسرائيل معنية بالاتفاق وليس التصعيد”. فقد أعلن أنه “مستعد للمخاطرة بمواجهة عسكرية”. لهذا السبب، أطلق التنظيم طائرات مسيرة غير مسلحة، وصعد من لهجته، وقدم إنذارًا، وهدد بتصعيد نشاطه الحركي.
ورغم امتناعه عن تنفيذ ذلك التهديد، أكد نصر الله مرارًا تفضيله لحل تفاوضي على الحرب، وكان حريصًا على التأكيد على أنه سيحترم اتفاقًا مستقبليًا توافق عليه الحكومة اللبنانية. وبالتالي، التحوط من المخاطر، والسماح لنفسه بالحصول على الفضل في الاتفاق الذي تم التوصل إليه.
من وجهة نظر حزب الله “كان نصرًا بالتهديد بالحرب وليس انتصارًا بالحرب”، كما يرى التحليل، الذي أشار إلى أن الحملة “تمت إدارة استراتيجيتها على أنها معركة إدراك ودعاية، مدعومة بالتهديدات والقدرات الحركية”.
هذا الأمر تم التعبير عنه بوضوح في خطابات نصر الله في 27 و29 أكتوبر/ تشرين الأول. فالانتصار الكبير بكلماته يعود إلى “الحكومة والشعب والمقاومة”.
يقول التحليل: الحملة التي شنتها منظمته كانت تهدف إلى الدفاع عن حقوق اللبنانيين، مدعومة بالتهديد بسلاح المقاومة، وردع إسرائيل عن استخدام القوة ضد لبنان. وانتهت باتفاق لم يطلب من لبنان الالتزام بالتطبيع مع إسرائيل.
كان نجاح حزب الله الأساسي في الرأي العام اللبناني. حيث عزز زعمه بأنه منظمة وطنية تدافع عن لبنان بقوتها العسكرية، وتساعد في تحقيق المصالح اللبنانية، مع اتباع نهج مسئول. حتى أن الرئيس اللبناني ميشيل عون قد أشاد بها على ذلك، وعلى مساهمتها في إنجاح المفاوضات.
في الوقت نفسه، نجحت المنظمة -من وجهة نظرها- في الحفاظ على معادلة الردع في مواجهة إسرائيل. بل وتعزيزها، بما في ذلك على الحدود البحرية.
من ناحية أخرى، من وجهة نظر إسرائيل، تم الإبقاء على الردع المتبادل “لم تنفذ تهديدات حزب الله، ولم تحدث مواجهة عسكرية، ولم تقع خسائر في الأرواح أو أضرار في البنية التحتية”. لذلك “قبلت الأغلبية في إسرائيل المكاسب الاقتصادية المستقبلية، وتقليل مخاطر التصعيد، واحتمال وجود بيئة أمنية هادئة حول إنتاج الغاز. مع زرع بذور التفاهمات السياسية والأمنية مع لبنان في المستقبل”.
إنجاز حزب الله
في الوقت نفسه، يلفت المحللون إلى أن “النشاط المعرفي الإسرائيلي الصريح كان ضئيلاً ولم يستغل، على ما يبدو، إمكانية تشويه صورة حزب الله داخل لبنان وخارجه، من خلال التأكيد على دوره كمشجع لحرب كان من الممكن أن يتسبب في كارثة على لبنان المنهار بالفعل”.
يقول التحليل: كان من الممكن التأكيد على الدور السلبي لحزب الله، في منع لبنان من الحصول على مساعدات اقتصادية دولية. اكتفت إسرائيل بتحذيرات لحزب الله من وزير الدفاع بيني جانتس والقائد الشمالي المنتهية ولايته الجنرال أمير برعام، بأنه لا ينبغي اختبار إسرائيل وبدء الحرب. وفي حديث رئيس الوزراء يائير لابيد فوق منصة النفط في كاريش.
أيضا، يتوقع المحللون أنه “قد يكون رد إسرائيل المحسوب على تهديدات حزب الله جزءًا من استراتيجية اتصالات مدروسة. تهدف إلى تعظيم فرص التوصل إلى اتفاق وإنجاز استراتيجي اقتصادي، من وجهة نظر إسرائيل. حتى على حساب السماح لـ ”حزب الله ” بتقديم الاتفاقية على أنها إنجاز خاص به.
ومع ذلك “في نظر الكثيرين في لبنان وأنصار حزب الله في “محور المقاومة” الإقليمي، سمح هذا النهج للتنظيم بالظهور وكأنه يفوز بالحملة الإدراكية والصورة الذهنية لدى الجمهور، وحتى في إسرائيل. لخلق شعور بأن المنظمة خرجت من الأزمة باليد العليا”.
بالفعل، تقبل بعض القوى السياسية في إسرائيل وجهة النظر التي قدمها حزب الله، بأن “فرض” الاتفاق على إسرائيل هو إنجاز للمنظمة. ووفقًا لهؤلاء المنتقدين، ربما تكون إسرائيل قد ربحت نقاطًا مهمة في الحملة الحالية تجاه حزب الله، وفي السياق الإقليمي الواسع، لكنها قد تدفع ثمنًا طويل الأمد للسماح لنصر الله بالاعتقاد بأن التهديدات ضد إسرائيل كانت هي السبب الذي دفعها إلى الاتفاق.
يقول التحليل: إذا صدق “أي نصر الله” ذلك، فسوف يستنتج أن الضغوط والتهديدات من المرجح أن تعمل ضد إسرائيل في المستقبل. من وجهة النظر هذه، خاطرت إسرائيل، لأن إحساس حزب الله بالنصر قد يغذي صورة خاطئة عن القوة المفرطة، في ضوء ما تعتبره ضعفًا إسرائيليًا. مما سيشجعه على تصعيد الاستفزازات ضد إسرائيل، والمضي قدمًا في منحدر زلق نحو العنف.
ويبقى سؤال قد يكون هو المحوري والأكثر أهمية من كل ما عداه، بعيدا عن تحليل المحللين الإسرائيليين الثلاثة أو مع الإقرار بما يشيرون إليه بأن حزب الله قد كسب معركة الدعاية، السؤال هو هل ربح لبنان فعلا معركة الغاز؟