هذا هو العنوان الذي اختاره الكاتب الأوروجوياني الراحل “إدواردو جاليانو” لكتابه الصادر عام 1998، ونشرت ترجمته العربية لبسام البزاز عن دار المدى العراقية هذا العام. ويلخص العنوان بطريقة عبقرية وموجزة -وفي ثلاث كلمات فقط- موضوع الكتاب ومحتواه.

هذا العالم مقلوب، يقف على رأسه، وقدماه إلى أعلى. العنوان الفرعي للكتاب هو “مدرسة العالم بالمقلوب”، ويعرّفُ الكاتب هذه المدرسة، بأنها المؤسسة التعليمية الأكثر ديموقراطية، فلا امتحان قبول ولا أجور تسجيل، والدروس فيها مجانية، للجميع، وفي كل مكان، في السماء، كما في الأرض. في هذه المدرسة، يتعلم الرصاص العوم ويتعلم الفلين الغوص، الأفاعي تتعلم الطيران، وتتعلم الغيوم الزحف على الطرقات.

العالم بالمقلوب، يجازي ويكافيء بالمقلوب، فهو يحتقر الأمانة ويعاقب العمل، يكافئ الكسل، ويغذي أكل لحوم البشر. أساتذته يفترون الكذب على الأرض. يقولون إن الظلم قانون “طبيعي”:

يشير ميلتون فريدمان إلى “معدل البطالة الطبيعي”. واستنادًا إلى القانون “الطبيعي”، يقرر آخرون أن السود في الدرك الأسفل من السلم الاجتماعي.

جون روكفلر، طالما سمعناه يقول، وهو يفسر النجاح الذي أصابه في أعماله التجارية، بأن “الطبيعة” تكافيء الأصلح وتعاقب من لا نفع فيه. وبعد أكثر من قرن من الزمان، ما زال الكثيرون من سادة العالم، يعتقدون أن “تشارلز داروين” ألف كتبه تكريمًا لهم. فهل هو بقاء الأصلح؟.

إن أكفأ المؤهلات التي تساعد على الديمومة والبقاء هي غريزة القتل، وهي خاصية يتسم بها البشر، حين تبتلع الشركات الكبرى الصغرى، وحين تلتهم البلدان القوية الضعيفة.

أما حين يخرج الفقير الجائع باحثًا عن طعام، حاملًا السكين في يده، فهو يقدم الدليل على وحشيته وهمجيته.

حين يقتل مجرم شخصًا يدين له بمال لم يسدده، يقولون إنها “تصفية حساب”، أما حين تقرر التكنوقراطيا العالمية تصفية بلد مدين وإعدامه، فإنهم يصفون الفعلة بأنها “خطة تكيف”.

تختطف العصابات المالية بلدانًا وتطحنها طحنًا إن لم تدفع فديتها. ويقدم لنا الاقتصاد العالمي أصدق تمثيل للجريمة المنظمة، فالهيئات والمنظمات الدولية، التي تتحكم بالنقد وبالتجارة والاعتمادات، تمارس إرهابها على البلدان الفقيرة، وعلى الفقراء في كل البلدان، ببرودة أعصاب وبقدرة على الإفلات من العقاب، لا يمتلكها أعتى مثيرى الفوضى والشغب.

إن فن خداع الآخرين، الذي يمارسه النصابون في الشوارع، يجد أوضح صوره حين يوظف بعض الساسة الناجحين فطنتهم ودهاءهم. في ضواحي العالم وأطرافه، يبيع رؤساء الدول فضلة بلدانهم وأشلاءها بسعر التصفية، كما يبيع اللصوص في الضواحي، ما نشلوا ونهبوا بسعر التراب.

ولا تختلف مهمة القتلة المأجورين عن تلك التي يقوم بها الجنرالات الذين يتلقون الأوسمة والنياشين عن “مآثرهم العسكرية”، سوى أن أولئك يقتلون بالمفرد. وما ضربات النشالين، الذين يترصدون ضحاياهم على النواصي، إلا نسخة مصغرة من ضربات الحظ التي يسددها كبار المضاربين الذين يفرغون جيوب الناس بالكومبيوتر. وبمقارنة بسيطة، نرى أن أعتى السفاحين أطيب قلبًا من دراكولا النهار.

في عالمنا هذا، العالم بالمقلوب، تجد أن البلدان المسؤولة عن حفظ الأمن والسلام العالميين هي أكبر البلدان المصنعة والمصدرة للسلاح، وأن أكبر المصارف وأشهرها هي التي تغسل الأموال الناشئة عن تجارة المخدرات أكثر من سواها، وهي التي تقبل الودائع من الأموال المسروقة أكثر من غيرها، وأن أكثر الصناعات رواجًا هي أكثرها تلويثًا للكوكب، وأن الشركات التي ترفع شعار حماية البيئة هي أكثر الشركات تدميرًا للبيئة.

أما أولئك الذين يبيدون أكبر عدد من الناس في أقل وقت فلا يطالهم عقاب، بل ينالون التهنئة والثواب. ومثلهم الذين يكسبون أكبر قدر من المال بأقل جهد، والذين يتلفون أكبر مساحة من الطبيعة بأقل تكلفة. أما الجناة الذين ينتهكون حرمة الطبيعة وحقوق الإنسان على أفظع ما يكون الانتهاك، فلا يوضعون خلف القضبان، لأن مفاتيح السجون في جيوبهم.

بات السير في المدن الكبيرة مغامرة، واستنشاق الهواء مأثرة: هذه هي مدننا، مدن عالمنا بالمقلوب، من لم يسقط أسير الحاجة، يسقط أسير الخوف. ومن الناس من لا يذوق طعم النوم تلهفًا على امتلاك ما لا يملك. ومن الناس من لا ينام خوفًا على فقدان ما يملك. العالم بالمقلوب، يعلمنا أن نرى في الآخر خطرًا محدقًا، لا وعدًا منتظرًا، يحجزنا في وحدتنا، ثم يواسينا بالعقاقير ويسلينا بأصدقاء من العالم الافتراضي.

إننا محكومون بالموت جوعًا أو الموت خوفًا أو الموت ضجرًا، هذا إذا نجونا من رصاصة تائهة تقصر حياتنا وتختصر وجودنا. فهل من المعقول ألا نخير إلا بين واحدة من تلك النهايات المشؤومة؟

طبعًا. لأن العالم بالمقلوب يعلمنا أن نعاني من الواقع، لا أن نغيره. أن ننسى الماضي، لا أن نستمع إليه. أن نقبل بالمستقبل، لا أن نتخيله ونتصوره.

على امتداد القرن العشرين، غذى الإيمان بقوى العلم والتكنولوجيا أفكار التطور. وحين انتصف القرن، روجت بعض المنظمات الدولية لتطوير الدول النامية، عن طريق عن طريق تزويد أطفالها بالحليب المجفف ورش حقولها بالـ” دي دي تي”. لاحقًا صار معلوما أن إرضاع هؤلاء الأطفال الحليب المجفف بدلًا من حليب الأم، يعجل بموتهم في سن مبكرة، وأن الـ”دي دي تي” يسبب السرطان. وبعد أعوام، تكررت القصة: وضع التقنيون، باسم العلم، وصفات على حساب كرامة البشر وسلامة الطبيعة.

وُضع العلمُ والتكنولوجيا في خدمة السوق والحرب، فوضعتنا السوق والحرب في خدمتهما. أصبحنا أدوات لأدواتنا. بات العالم متاهة بلا مركز. ابتعدت الوسائل عن الغايات، وفق نفس النظام، الذي يبعد اليد العاملة عن ثمار كدها، ويفرض التباعد الدائم بين الأفعال والأقوال، ويفرغ الواقع من ذاكرته، ويجعل من كل شخص منافسًا وعدوًا للآخرين.

يُجرد الواقع من الجذور والروابط، ويتحول إلى مملكة للأسعار والاحتقار. الأسعار، التي تحتقرنا وتستهين بنا، هي ما يحدد قيمة الأشياء والأشخاص والبلدان. الأشياء الفاخرة تحرك الجشع في النفوس. وفي عالم يقاس فيه الاحترام بعدد بطاقات الائتمان التي تحملها، يخبرنا منظرو الضباب وكهان الظلامية، التي باتت موضة، أن الواقع لغز، لا يمكن فك شفرته، بمعنى أنه، يستحيل تغييره.

هكذا يمارس عالمنا الجريمة، وهكذا يوصي بممارستها. المواد الإلزامية في مدرسته، مدرسة الجريمة، هي العجز وفقدان الذاكرة والقبول بالأمر الواقع. لكن الثابت، هو أن لا نقمة من دون نعمة، ولا وجه من دون وجه آخر، ولا تراجع من دون اندفاع، ولا مدرسة إلا ولها مدرستها المضادة.

في سنوات الحرب الباردة، كان كل طرف يجد في الطرف الآخر حجة لجرائمه ومبررًا لفظائعه، وكان كل طرف يدعي أنه الأفضل، لأن الطرف الآخر هو الأسوأ. وحين سقط جدار برلين، وسقطت الأنظمة “الشيوعية” أو تغيرت كليًا، فقدت الرأسمالية حججها. مع ذلك، لم تتقلص مساحة الظلم، الذي هو محرك جميع الثورات في العالم، بل تضاعفت إلى درجة لا تصدقها إلا عيون من تقبله عادة ورضي به مصيرًا. ولا تجهل السلطة أن الظلم تمادى في غيه وازداد ظلمًا، وأن الخطر ازداد خطورة.

تحتفل الرأسمالية، وقد عدمت العدو فجأة، بانتصارها وتفردها وهيمنتها، وبدأت تشتط في استثمارها. كانت الرأسمالية قد أطلقت على نفسها اسم “اقتصاد السوق”، وعندما بدأت تظهر بوادر على أنها بدأت تخشى عاقبة أفعالها، وتكشف لها البعد “الاجتماعي” للاقتصاد، باعتباره تعويذة لإبعاد شياطين الغضب الشعبي، أطالت اللقب، وسافرت إلى الدول الفقيرة بجواز سفر “مزيف” كتب فيه اسمها الكامل: “اقتصاد السوق الاجتماعي”.

ينقل الكاتب عن الأسقف البرازيلي “هيلدير كامارا” قوله: “حين أعطي الفقراء طعامًا، يدعونني قديسًا، وحين أسألهم عن سبب فقرهم، يدعونني شيوعيا”. يؤمن الكاتب بالتضامن بين البشر، بدلا من الصدقة، ويرى أن أعمال البر والإحسان والصدقات يمكن أن تواسي وتخفف، لكنها لا تقبل السؤال والجدال. لذلك هو يؤمن بالتضامن- الأفقي- بين الأنداد، لأنه على العكس من الصدقة، التي تهبط عمودية، من أعلى إلى أسفل، لتذل الذين يتلقونها، ولا تمس الظلم وعلاقات التسلط قيد أنملة.

العولمة لا تعدنا إلا بالمذلة، وتعرف العولمة المواطن النموذجي بأنه ذلك الذي يرى الواقع أمرًا محتمًا وقضاءً مبرمًا. هو هكذا، لأنه خلق هكذا. وما دام خلق هكذا، فسيظل هكذا. قد توجد عدالة، لكنها ستكون في السماء، أما على الأرض، فإن أعمال البر، لا تؤثر في الظلم، بل تحاول التغطية عليه.

في القرن الثاني عشر، رسم الإدريسي، وكان عالم الجغرافيا الرسمي لمملكة صقلية، خريطة للعالم الذي كانت تعرفه أوربا آنذاك، والذي يظهر جنوبه إلى الأعلى وشماله إلى الأسفل. كان ذلك شائعًا في رسم الخرائط وقتئذٍ.. فإذا بات عالمنا مقلوبًا رأسًا على عقب، أفليس من الواجب إعادته إلى نصابه ليقف على قدميه؟.

في عام 1948 وعام 1976، أعلنت الأمم المتحدة عن قوائم طويلة لحقوق الإنسان، لكن أغلب الناس لا يتمتعون إلا بحق أن يروا ويسمعوا ويسكتوا. فما رأيكم أن نبدأ بممارسة حقنا في أن نحلم، وهو حق لم يذكر يومًا بين الحقوق؟ ما رأيكم لو هذينا برهة؟

من حقنا أن نحلم، وأن نركز أنظارنا فيما هو أبعد من الدناءة والكذب، ولنتصور عالمًا آخر ممكنًا: سيكون الهواء خاليًا من السموم. في الشوارع، ستسحق الكلاب السيارات. لن توجه السيارات الناس، ولن تبرمجهم الكومبيوترات، ولن تشتريهم الأسواق. لن يشاهدهم التلفزيون، لن يكون جهاز التلفزيون أهم فرد في العائلة، بل سيعامل معاملة المكواة أو الغسالة.

سيعمل البشر ليعيشوا، وليس العكس. وستضاف إلى قانون العقوبات جريمة يطلق عليها اسم “جريمة الغباء”، بحق أولئك الذين يعيشون من أجل أن يربحوا أو يملكوا، بدلا من أن يعيشوا من أجل العيش، كما يغني الطير وهو لا يدري أنه يغني، وكما يلعب الطفل وهو لا يدرك أنه يلعب.

سيفقد الموت والمال قوتهما السحرية، ولن يجعل الموت ولا المال من السافل فاضلًا. لن يطلق الاقتصاديون مصطلح “مستوى المعيشة” على مستوى الاستهلاك، ولا مصطلح “جودة الحياة” على كمية الأشياء. لن يشن العالم حربًا على الفقراء، بل على الفقر، ولن تجد صناعة الأسلحة بدًا من إشهار إفلاسها.

لن يموت أحد من الجوع، ولن يموت أحد من التخمة. لن يكون الطعام سلعة، ولا الإعلام تجارة، لأن الطعام والإعلام من حقوق الإنسان. لن يعامل أطفال الشوارع على أنهم زبالة، ولن يعامل أطفال الأغنياء على أنهم أموال، بعد أن لن يكون هناك أطفال شوارع وأطفال أغنياء. لن يكون التعليم امتيازًا مقصورًا على من يستطيع الدفع. لن تكون الشرطةُ لعنةً على من لا يستطيع شراءها.

ستصبح امرأة سوداءً رئيسة للبرازيل، وامرأة سوداء أخرى رئيسة للولايات المتحدة، وستحكم امرأة من السكان الأصليين، جواتيمالا والبيرو. ستصحح الكنيسة الأخطاء المطبعية في وصايا موسى العشر، وستأمر في الوصية السادسة بالاحتفاء بالجسد.. وستضيف وصية أخرى، فات الرب ذكرها: “أحبب الطبيعة، التي تنتمي إليها”.

ستُشجِّر صحارى العالم وصحارى الروح. سيجد اليائسون من الانتظار من ينتظرهم، وسيعثر الباحثون على الضائعين، أولئك الذين ضلوا الطريق وأصابهم اليأس من طولِ ما انتظروا. سنكون مواطني بلد واحد، مع كل الذين يمتلكون إرادة العدالة والجمال، أينما ولدنا وأينما عشنا، من دون أن يكون للحدود وللزمن، أدنى أهمية. سيظل الكمالُ امتيازًا مملًا للآلهة، أما في هذا العالم البائس الأخرق، فسنعيش كلِّ ليلةٍ كما لو كانت الليلة الأخيرة، وسنعيش كل نهار ٍ كما لو كان النهار الأول.