للذاكرة ألعابها، كما أن للسياسة ملاعيبها، تلعب الذاكرة معك لعبة الاسترجاع عبر التداعي، فتطفو على سطحها أحداث، وتعود إلى الحياة حوادث، وذكريات ومذكرات، وقراءات ونقاشات، يبعثها موقف ما، أو يستدعيها مشهد من رواية ممثلة، أو تعايشك لمسرحية هزلية، أو حين يطالعك وجه جامد يخطب في حماسة مصنوعة، أو وأنت تجلس متسمرًا أمام شاشة التلفزة تنقل إليك وقائع ما يجري في ملاعب السياسة.
هذا ما جرى بالضبط معي حين أعادت لي الذاكرة (وهي تلاعبني) وقائع روايتين قرأتهما أكثر من مرة، ووقائع قصة أخرى حقيقية كنتُ أحد شهودها، قبرص (التي سمعتُ للتو خبرًا عن ترسيم حدودها البحرية مع لبنان) تلعب دور المسرح الذي انزلقت على خشبته ما احتوته الذاكرة لتعيد إحياء مشاهد تلك القصص الثلاث.
**
أثناء عملي في قبرص أول التسعينيات من القرن الماضي، تعرفت على الأديب العراقي فاضل العزاوي، وكان يكتب لنا في مجلة “الموقف العربي” مقال الصفحة الأخيرة بلغة مكثفة، أقرب إلى الشعر، وفي عمق الفلسفة بأسئلتها المشرعة على العقل البشري منذ وجد الإنسان المفكر.
في تلك الأثناء كان الشاعر والروائي العراقي فاضل العزاوي يعكف على تعريب رائعة الروائي البرتغالي “جوزيه كاردوسو بيريس” المعنونة: “حضرة صاحب الفخامة الديناصور”، والتي كتبها في منفاه بلندن سنة 1971، وقد ظهرت ترجمتها بعد 24 سنة من كتابتها.
كانت تجربة ديكتاتور العراق صدام حسين قد اكتملت باكتمال مأساة العراق المعاصرة، ونزلت كلمة النهاية على فصلها الأخير، بينما كان العزاوي منهمكًا في ترجمة الرواية التي تذكرك أول ما تطالعها برواية جارسيا ماركيز “خريف البطريرك”، وسوف تتلمس في محتواها فحوى رواية “السيد الرئيس” التي كتبها “ميجل أنجل أستورياس” عام 1946 وحصل بفضلها على جائزة نوبل في الأدب عام 1967، ولن تجدها منقطعة الصلة برواية ” 1984″ لجورج أورويل.
صاحب الفخامة الديناصور
هي تحفة روائية بخيالها وعذوبتها ولغتها الشعرية، تحكي قصة دكتاتور التهم حاضر مملكته، ولم يوفر ماضيها، وأصبح هو عنوان حاضرها المقيم، وهي تتحدث عن الكيفية التي يصنع بها الديكتاتور، تقرأها فتشعر كأنها مكتوبة هنا، وفي هذه الأيام، ولهذا الواقع الذي نعيشه، هي قصة “الديكتاتور” عبر كل زمان، وفي كل مكان، تكاد تكون رواية يعرفها كل من عاش الخراب الذي يلحقه الاستبداد بالروح الإنسانية.
وهي –أيضًا- رواية عربية بامتياز، (ربما هذا ما دفع العزاوي إلى ترجمتها) تتحدث عن حكام عرب عاصرناهم، وآخرين ملأوا كتب التاريخ مظالم وظلمات يشيب لها الولدان، يمكن أن تقرأ فيها قصة الفرعنة المصرية المبثوثة في تاريخنا ولكن فرعنة على طريقة “انطونيو دي أوليفيرا سالازار” الذي حكم البرتغال لمدة 36 عاما و35 يوما.
**
انقرضت الديناصورات وبقيت الديكتاتوريات، حيث يقيم الطاغية مملكته على القهر والفقر والجهل، ويحيط نفسه بحاشية من الدجالين والمبرراتية المستعدين طول الوقت لتبرير كل قرار للزعيم، يُسَوِقون جهله على أنه الحكمة المصفاة، ويغذون فيه كل يوم غرائز التسلط والطغيان، يرفعون صوره في كل مكان، ويرفعونه إلى مصاف الذي لا يُسأل عما يفعل، يختصرون الوطن أولا في “مؤسساته الحاكمة”، ثم يختصرون “مؤسسات الحكم” في مؤسسة واحدة، ثم يختصرون تلك المؤسسة في شخص الديكتاتور.
صاحب الفخامة الديكتاتور هو صاحب الرأي السديد وحده، وهو صاحب الكلمة المطاعة وحده، يتربع على رأس دولة من الأوهام يعيث فيها الخراب والفساد والنفاق والانتهازية ويتفشى فيها أسوأ الأمراض قاطبة، مرض عبادة الفرعون.
**
كل ما كان قبل الديناصور فراغ، كل ما سبقه قبضُ ريح، عنده يبدأ التاريخ، وينتهي بعده، ولا شيء يصير في المملكة بدون الديناصور، ولا أحد يعمل إلا بتوجيهات الديناصور، وكل الأنشطة العلنية منها والمخفية تجرى تحت رعاية الديناصور، “متأن في جميع قراراته، وتاريخي في جميع خطاباته” كما تقول قصيدة جمال بخيت الرائعة في وصف حال “سوهارتو”، الديناصور الذي ابتلع بلده.
وفخامة الديناصور هو مركز الأمة، ومحور حركتها، بل هو مركز الكون كله، ويبلغ به الجنون حد توجيه خطبه المسجلة إلى الكواكب الأخرى، فلم يعد يكفيه التهام مملكته وحدها، التي لم تشبع شهوة الالتهام التي تتلبسه، وينتهي الحال بالدكتاتور المخبول ملتصقا بكرسيه جثة بين الحياة والموت، تزكم رائحتها المملكة والعالم كله.
“الدنصرة” ليست فعلا في الماضي لم يعد له وجود مع انقراض الديناصورات التاريخية، ولكنها فعل الحاضر الذي يعيش فينا ويعيث فسادا وإفسادا في كثير من بلاد العالم المتخلف حيث يتم نفخ الفرد ليصبح في حجم البلد، وتصغر قيمة البلد لتكون في قيمة فرد، وتكون المملكة هي جورج الخامس، ويكون جورج الخامس هو البلد كلها.
اللوحة الأخيرة والمخجلة
كانت “الموقف العربي” مجلة عربية بامتياز، صدرت في نيقوسيا القبرصية بعيدًا عن كل عواصم العرب، وكانت لها “مواقف” تجاه أغلب النظم العربية، دخلت كل بلدان العرب في أوقات، ومنعت من كل عواصم العروبة في أوقات أخرى، وكان الموقف من “إسرائيل” هو البوصلة التي تلتزم بها المجلة التي التحقت بالعمل بها في سنتيها الأخيرتين سكرتيرًا للتحرير، وكان يرأس تحريرها وزير الاعلام الليبي الأسبق الأستاذ محمد الشويهدي، وهو رجل إذا رأيته حسبته إسكتلانديًا قُحًا، ولن يأتي على خاطرك أبدًا أنه من ليبيا الشقيقة، فقد كان أوربي المظهر، عروبي الجوهر والمسلك.
استدعاني مرة إلى مكتبه فوجدت عنده مدير التحرير وأغلق علينا الباب وأخرج من خزانة مكتبه لوحة للفنان التشكيلي السوري الشهير “يوسف عبدلكي” تظهر صورة جماعية للحكام العرب من الخلف، عارية أجسادهم تمامًا، ومؤخراتهم بارزة في قلب المشهد الذي بدا كأنه الصورة التذكارية لاجتماع قمة عربي للمؤخرات العارية.
في ضوء الحجرة الخافت تعالت ضحكاتنا والأستاذ الشويهدي يسألني عن العنوان الذي يصاحب تلك الرسمة على غلاف المجلة، فسارعت إلى القول: “أصحاب الفخامة العراة”، فقال: يصلح غلاف العدد الأخير في عمر المجلة، حين يخبروننا بالوصول إلى نقطة النهاية عندها نخرج العدد بهذه اللوحة على غلافه، وهذا العنوان الذي اقترحته فوقها.
وقمت من الجلسة الضاحكة الباكية وقد طغت على مخيلتي قصة “الملك لا يرتدي ملابسه” وسارعت إلى إعادة قراءتها لعلها توحي لي بعنوان أفضل لهذا الغلاف التاريخي الذي لم يحدث أبدًا.
هكذا تصنع الفنكوش
القصة للكاتب الدنماركي “هانس كريستيان أندرسون” عنوانها الأصلي: “ملابس الإمبراطور الجديدة”، وتروج لها عناوين كثيرة أشهرها “الملك العريان”، وقرأتها صغيرا تحت عنوان “فرعون وقلة عقله”.
بطل القصة رئيس من رؤساء ذلك الزمان الغابر، جعل مبلغ همه ارتداء مفتخر الثياب، والمواكب الفخيمة، والخيام المكيفة، والسجاجيد الحمراء، يمشي عليها بمركبته الرئاسية، ولم يكن يلق بالا لحال شعبه، يطوف في أنحاء البلاد ليستعرض العز الذي صار فيه، والأبهة التي حلت به، ويصبر مواطنيه على الأحوال التي هم فيها والمواجع التي تنهش عظامهم.
وكان يعشق عقد المؤتمرات التي يحضرها وفود من الخارج ويغشاها كثير من الغرباء، وذات مؤتمر وفد إلى عاصمة بلاده مستثمران زعما أنهما من النساجين المهرة، وأنهما سيعيدون صناعة النسيج إلى سابق عهدها، وقدموا “الكتالوجات” المبهرة، عن المنسوجات غير التقليدية، زاهية الألوان، متعددة الأغراض، والتي تتميز بخاصية عجيبة، فهي منسوجات لا يراها الأغبياء، ولا يدرك روعة جمالها هؤلاء الذين لا يستحقون الوظائف التي يتقلدونها.
**
استمع الرئيس إلى شرح المستثمرين وهو يهز رأسه، معجبًا ومتعجبًا من هذا الإنجاز غير المسبوق، والذي ربما يرفع سجل إنجازاته التي يحتفل بها كل شهر، ويزهو بها أمام مواطنيه، وأمر بالبدء فورا في العمل، وحين ماطل المستثمران في المدة التي يستغرقها بناء المنسجين الكبيرين، وأقسما على أنهما لا يستطيعان الانتهاء من العمل قبل ثلاث سنوات، أشاح الرئيس بوجهه عنهما، وأصدر فرمانه بألا تزيد المدة عن سنة مهما كلفهم الأمر من جهد وعرق وأموال.
وبدأ المستثمران في العمل بأن “نصبا” منسجا كبيرا، وراحا يطلبان من حين لآخر المزيد من خيوط الحرير والقطع الصغيرة من الذهب لتزيين ما ينسجانه، وكانا لا يتوقفان عن “العمل” في منسجهما الفارغ إلا ليضعا ما يحصلان عليه من خيوط الحرير وقطع الذهب في كيسين كبيرين يدفعان بهما إلى خارج البلاد بمعاونة سفير بلادهم.
ولم يطق فخامته صبرًا على انتظار انتهاء الرجلين من عملهما، ففكر في الذهاب لهما وهما ينسجان ذلك القماش العجيب، ولكنه تراجع في اللحظة الأخيرة حين واتته فكرة أن يضع رئيس وزرائه في الاختبار الأول، وذهب الرجل العجوز إلى المنسج فوجد الرجلين يعملان بهمة ونشاط باديين في غزل ونسج شيئا لا يراه، قال لنفسه: “لا أرى شيئا”، وحين رآه المستثمران صاحا يرحبان به وهما يقولان تفضل من هنا لترى بنفسك نوعية القماش العجيب الذي يتم نسجه.
لم يكن هناك قماش ولا خيوط ولا نسيج، ولكنه تساءل بين نفسه: هل أنا غبي؟، هل أنا عديم الكفاءة؟، هل لا أصلح لموقع رئيس الوزراء الذي خصني به فخامة الرئيس، وفاجأه سؤال أحد الرجلين عن رأيه في القماش، فوجد نفسه يقول: “رائع حقا، ألوانه مبهجة، وتصميمه جديد بالمرة، لم يحدث أن رأيت مثله من قبل”، تناوب الرجلان الحديث عن طريقة صناعة ذلك القماش وخصائصه وعجائب تصميمه وألوانه ومعالي رئيس الوزراء يستمع إليهما بشغف حتى لا تفوته كلمة.
طلب المستثمران الكثير من الطلبات، التي لبيت على الفور، بأمر الرئيس شخصيا، بعدما استمع إلى حديث رئيس وزرائه عن هذا الإنجاز الكبير الذي يتحقق على أرض بلاده، وكلما مر وقت أرسل إليهما من يستعجلهما فيحدث معه ما حدث مع رئيس الوزراء، ويرجع يقول نفس الكلام.
**
وأخيرا قرر الملك الذهاب بنفسه في نفر من حاشيته، ومع كل الذين أوفدهم من قبل لرؤية القماش وهو في منسجه، فوجد المستثمرين على حالهما المعتاد غارقين في العمل دون وجود أثر لخيط واحد في المنسج، بادر رئيس الوزراء إلى القول وهو يشير للقماش الذي لا يراه ويتصور أن كل الموجدين يرونه، “تفضل فخامتك في معاينة هذا الإنجاز الضخم الذي جرى في زمن قياسي وبروعة أداء يشهد لهذين الرجلين بها”.
كانت صدمه فخامته كبيرة، قال في نفسه: “غبي أنا لهذه الدرجة؟، أم أنني لا أصلح كي أكون الحاكم الذي تدين له البلاد، ويلهج باسمه العباد؟”، وسارع الرجلان يستعرضان أمامه القماش الذي لا يراه، وهو يقول: “رائع حقا، إنه إنجاز كبير فعلا، إنجاز غير مسبوق”، صفق الحاضرون جميعا بحماس شديد، وهتفوا يحيا الرئيس ثلاث مرات، واقترح رئيس البرلمان أن يكون الرئيس هو أول من يرتدي هذا النوع النادر من القماش، ويعرضه على الناس بنفسه في أول موكب رئاسي، ونال الاقتراح تصفيقا حادا، وتملك الحماس من الرئيس فأمر بمنح النساجين وسامًا سماه “فارس الترزية”.
رأيتُ الرئيس عاريًا
في يوم الزينة دعا الرئيس المواطنين للخروج على الطرقات، وخرج عليهم في موكب مهيب، حتى وصل إلى المنسج الكبير وتلقاه المستثمران وهما يتظاهران برفع جزء مما نسجاه ويقولان له: “هذا هو الجزء العلوي من الثوب، وهذا ما ستلبسه في الجزء الأسفل، وهذا هو الشال المصاحب للرداء…” وهمس كبيرهم في أذنه: “ستبدو فخامتك وكأنك لا ترتدي شيئا، وهذا هو بالضبط موطن الجمال في هذا الثوب الرائع”، وانحنى الآخر أمامه وهو يقول: “هلا تفضلتم فخامتكم بخلع ملابسكم حتى نلبسكم ثوبكم الجديد أمام هذه المرآة العملاقة”، فخلع الرئيس ملابسه، وهما يناولانه قطع ثوبه الجديد واحدة بعد الأخرى، ومن حين لآخر يساعدانه على ربط شيء في الثوب، أو تعديل وضع آخر، ثم اختتما مهرجان “التلبيس” وسألاه: “كيف يجد فخامة الرئيس ثوبه الجديد؟”، وقبل أن يفتح فمه هتف الحضور بصوت واحد: “ثوب رائع، وألوان جذابة”.
خرج الرئيس في زينته عاريًا في موكبه يحيط به حراسه وتتبعه حاشيته وتسابقوا جميعا في حمل ما يتصورون أنه ذيل الثوب الفضفاض، واندمج الملك في اللعبة وهو يسير وسط الناس يسمع هتافاتهم المؤيدة، وبدأ يزهو بنفسه ودخله الأمان والاطمئنان إلى ما هو فيه، ومضى الموكب وسط هياج الجمهور وصرخات الاستحسان، حتى كاد النهار أن يرحل، وقبل نهاية الاستعراض الكبير انطلق صوت فتى يصيح وسط الجموع:
“ولكنه لا يرتدى شيئًا”
حاول البعض إسكات الفتى، وهمهم آخرون وهم يتساءلون: أين هذه الثياب التي يتحدثون عنها، وانقسم الناس بين راغب في إسكات الفتى والتشويش على الهمهمات، وبين متطلع إلى “الرئيس العاري” وهو يحاول أن يكذب عينه، ولا يستطيع أن يسكت أصوات الهمهمات التي تقترب شيئا فشيئا إلى أذنيه.
**
مَنْ كبس زر الذاكرة فأيقظها، وكيف تجولت بي في فيافيها حتى وصلت إلى هذه المشاهد، وكيف طفت على سطحها هذه اللوحة الكارتونية لحكام العرب ملوكا ورؤساء عرايا كما ولدتهم أمهاتهم فاقدي عذريتهم، وذلك الحاكم العريان وموكبه وسط منافقيه؟
لست أدري، لكني أدرك أن للذاكرة ألاعيبها التي لا تخفى على كل لبيب.