تشكل نظام 30 يونيو وهو يضم بين جنباته الحكم والمعارضة، لم يكن النظام كتلة واحدة من البداية، التحالف الوقتي الذي تم بين الدولة والتيار المدني لمواجهة الإخوان، كان يبدو أنه لن يدوم طويلا، ظهر الشقاق تدريجيا في مواقف مثل الاعتراض على قانون التظاهر، والحملات الإعلامية التي استهدفت ثورة يناير ورموز التيار المدني، ثم انتهى الشقاق بالقطيعة الكاملة عقب اعتراض التيار المدني على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع المملكة السعودية، ثم كان الصدام الكبير بعد رفض المدنيين لتعديل دستور 2014 والذي جرى الاستفتاء عليه في عام 2019.

استخدم الرئيس مصطلح “القوة الغاشمة” لوصف خطته لمواجهة الإرهاب، ولكن يبدو أن القوة الغاشمة لم تكن في مواجهة الإرهابيين فقط، حيث تم القبض على الآلاف منذ صدور قانون مكافحة الإرهاب في 2017 وحتى هذه اللحظة، طالت تهمة الإرهاب الجميع باختلاف تنويعاتهم السياسية وأسباب القبض عليهم، حتى تحول كل معارض للنظام الحالي إلى متهم بالإرهاب، وتحول كل نشاط معارض هو مشاركة للإرهاب في تحقيق أهدافه.

أخطأ نظام 30 يونيو خطأ تاريخيا في مساواته بين المعارضين من خارج النظام والمعارضة من الدخل، كان من الطبيعي أن يحمل النظام الجديد معارضته معه وقد كانت المعارضة جاهزة لتقوم بدورها، ولكن رفض النظام للمعارضين من حلف 30 يونيو، جعل من تلك المعارضة طريدة وتظهر وكأنها في كفة واحدة مع جماعة الإخوان التي خرجت على النظام الجديد من أول لحظة.
رغم ما تحدثنا عنه سابقا من نجاحات حققتها استراتيجية النظام للردع العام لصالح استقرار كرسي الحكم، وما نتج عنها من آثار جانبية تعاني منها الدولة والمجتمع على قدم سواء، فقد بات من الواضح الآن أن تلك الاستراتيجية لم تعد صالحة للاستمرار، فمن جانب باتت الآثار الجانبية تمثل خطورة على النظام ذاته، ومن جانب آخر فقد حققت الاستراتيجية أقصى درجات النجاح الممكن تحقيقها.

من الطبيعي في هذه اللحظة أن تستبدل الدولة استراتيجيتها القديمة بأخرى أكثر ملاءمة للواقع، وأن يكون الاستيعاب بديلا للردع، أو على الأقل كخطوة تالية ومكملة له.

خلال حديثه في إفطار الأسرة المصرية في إبريل الماضي، تحدث السيسي بجمل واضحة عن استيعاب المعارضين، مستخدما في سبيل ذلك جملا واضحة مثل “الوطن يتسع للجميع” و”الاختلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية”.

كما كان السيسي واضحا في توضيح استراتيجية النظام القديمة، حين تحدث عن القوة الغاشمة في مواجهة الإرهاب على كافة المحاور، والحديث مرات عن “السوشيال ميديا” وما تمثله من تهديد على أمن النظام، وأنه لا وقت للاختلاف ويجب أن نكون يدا واحدة. كان بنفس درجة الوضوح في إعلان الاستراتيجية الجديدة، وهدفها الأساسي “الاستيعاب” وترتكز على عدة محاور أهمها الحوار والإفراج عن سجناء الرأي وتخارج الدولة من الاقتصاد.

بالطبع الاستراتيجية الجديدة لا تعني المصالحة أو التفاوض، وهو ما يظنه بعض المعارضين، ولكنها تتحدث عن الاستيعاب داخل النظام الجديد، وربما إجراء بعض التعديلات في بنية النظام السياسية حتى تلائم الاستراتيجية الجديدة، وهو ما أعتقد أنه الهدف الرئيسي للحوار الوطني.

أعتقد أنه في سبيل ذلك الاستيعاب فإن الدولة على استعداد لتقديم بعضا مما تملك للمعارضة، فمن الممكن أن يقدم النظام عددا من مقاعد البرلمان والمحليات، بعض النوافذ الإعلامية، مساحة للمنظمات الحقوقية، وبعض المرونة في عمل الأحزاب، ولكنها بالطبع لن تشارك السلطة، كما أن الاستراتيجية لا تعني الانفتاح والتحول الديمقراطي والتخلي عن القوة، ما نتحدث عنه هوالاستيعاب فقط الاستيعاب.

تواجه الاستراتيجية الجديدة عدة تحديات تجعل تطبيقها أكثر صعوبة من استراتيجية الردع السابقة، أبرز تلك التحديات هو المقاومة من داخل النظام نفسه، فان استراتيجية الردع قد عززت من قوة الأجهزة التنفيذية في الدولة، وبسطت سيطرتها على المجتمع ككل، هل من المعقول أن تتنازل تلك الأجهزة عن بعض من صلاحياتها وأن تقبل بممارسات كانت تعتبرها من قبل “إثارية”؟!

بالتأكيد سوف يتسع عمل استراتيجية الاستيعاب ليشمل المجتمع ككل، كما شمل الردع الجميع، ولكن استيعاب المجتمع أصبح أكثر صعوبة وخطورة من استيعاب المعارضة، فإن الأزمة الاقتصادية قد زادت من صعوبة تقديم الرشا الاجتماعية، كما أن منافذ التنفيس المجتمعي قد تم سدها جميعا خلال السنوات الماضية، ولا يرى المجتمع أي باب للتغيير أو الإصلاح.

كما تعتبر ترسانة التشريعات التي أصدرها البرلمان عقبة كبيرة في الطريق، ويستلزم تعديلها سنوات أخرى من النقاش والإقناع، بالإضافة إلى المشاكل البنيوية داخل المعارضة في غياب التنظيمات والكوادر بعد سنوات من الهجوم، والتي تجعل عملية استيعابها أكثر صعوبة.

والأهم من ذلك أن عملية الاستيعاب بالتأكيد تحمل قدرا من الخطورة على النظام، وخصوصا في ظل حالة الاحتقان التي خلقتها السنوات الماضية، يجب أن تكون الخطوات محسوبة بدقة ولا يوجد وقت يسمح بالحسابات، الجميع ينتظر منذ سنوات ويضغط للتعجيل بالتنفيذ.

أتصور أن النظام كان يعي منذ اللحظة الأولى أنه بعد أن يحقق هدفه من الردع سوف ينتقل إلى الاستيعاب، ولكن لا أعتقد أبدا أنه قد وضع في حسبانه جميع التحديات التي سوف يواجهها في سبيل ذلك، وهو ما يتسبب في التناقضات التي نراها، جلسات للحوار السياسي بالتزامن مع حملات توقيف عشوائي وتفتيش للهواتف، وإفراجات تتزامن مع اعتقالات جديدة، طرح شركات الدولة للبيع مع الإعلان عن تأسيس شركات أخرى.

ورغم كل ما سبق فإن أبرز التحديات وأخطرها: هل يمكن أن تقوم على تنفيذ استراتيجية “الاستيعاب” نفس الوجوه التي نفذت استراتيجية “الردع العام”؟!