أنتجت الحرب الروسية الأوكرانية سياقا وظرفا إقليميا ودوليا جديدا على صعيد سوق تداول الغاز، من شأنه أن يعيد ترسيم تحالفات الشرق الأوسط، وسط منافسة تصل إلى حد الصراع بين مصر وتركيا من أجل الفوز بالنصيب الأكبر من عمليات نقل الغاز إلى أوروبا.” في الوقت الذي تراجعت فيه إمدادات الغاز الروسي جراء العقوبات الغربية المفروضة على موسكو.

وبحسب الإحصاءات الرسمية تصدر روسيا ما يقرب من 110 ملايين متر مكعب عبر أوكرانيا يوميا، وحوالي 170 مليون متر مكعب في اليوم إلى ألمانيا عبر أنابيب “نورد ستريم 1”.

وبلغت صادرات الغاز الروسية إلى الاتحاد الأوروبي في 2021 حوالي 155 مليار متر مكعب، منها 140 مليار متر مكعب عبر خطوط الأنابيب.

القاهرة وأنقرة تسعيان لتكونا الناقل الرئيسي للغاز إلى أوروبا، من خلال التحول إلى مركز إقليمي للطاقة، عبر الاستحواذ على أكبر عدد من منتجي الغاز في إفريقيا ومنطقة شرق المتوسط ضمن قائمة عملائهما. يحدث هذا في الوقت الذي تتجه فيه أنظار القارة العجوز إلى تلك المنطقة التي تتمتع بمخزونات هائلة من الغاز. كذلك في ظل البحث الأوروبي عن بديل آمن للغاز الروسي.

اقرأ أيضا.. مشروع “القاهرة-تل أبيب”.. هل يعوض أوروبا عن حصة روسيا من الغاز؟

مصر تعزز موقفها

خريطة اكتشافات الغاز في شرق البحر المتوسط

في إطار تعزيز فرصها نحو التحول إلى مركز إقليمي لتداول الغاز الطبيعي، سعت مصر لتوظيف البنية التحتية اللازمة للتصدير والتي تمتلكها في مجال إسالة الغاز ممثلة في محطتي دمياط وإدكو. بالإضافة إلى خطوط الأنابيب الممتدة في محيطها الإقليمي. كذلك توظيف نفوذها السياسي في بعض الملفات التي تمتلك فيها مساحات تأثير لا بأس بها، لتوقيع عقود تضمن تحقيق تلك الرؤية، بالتزامن مع سعي الاتحاد الأوروبي إلى معاقبة روسيا والاستغناء عن إمداداتها من الغاز الطبيعي.

وتمتلك مصر بنية تحتية قوية لتسييل الغاز الطبيعي، ولديها محطتين للتسييل في إدكو بمحافظة البحيرة ومحافظة دمياط. حيث يمكنها استيراد الغاز من دول الجوار التي تنتج الغاز ولا تملك القدرة على تسييله بكميات كبيرة. وبالتالي يمكن تصديره بعد ذلك من خلال ناقلات الغاز المسال أو خطوط الأنابيب، وبذلك تحقق مصر استفادة أكبر من تصدير إنتاجها فقط.

وتستطيع كل محطة في مصر تصدير نحو 2 مليار قدم مكعب غاز يوميا، أو ما يعادل 12 مليون طن سنويا.

ووقعت مصر مع قبرص في سبتمبر/أيلول 2018، اتفاقا لإقامة مشروع خط أنابيب بحري مباشر، لنقل الغاز الطبيعي من حقل “أفروديت” القبرصي إلى محطات الإسالة بمصر، وإعادة تصديره إلى الأسواق المختلفة.

وبلغت صادرات مصر من الغاز الطبيعي والمسال مستوى غير مسبوق خلال العام الماضي 2021، والأشهر الأولى من العام الجاري 2022، إذ شهدت ارتفاعا بنسبة 770% العام الماضي، بعد إعادة تشغيل مصنعي إسالة الغاز بدمياط وإدكو. إذ يبلغ إنتاج مصر من الغاز الطبيعي بحسب البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة البترول، حوالي 190 مليون متر مكعب يوميا (69 مليار متر مكعب سنويا)، لتحتل المركز 13 عالميا والخامس إقليميا والثاني إفريقيا بعد الجزائر في إنتاج الغاز.

وتصدر مصر الغاز بالفعل لعدة دول أوروبية منها تركيا، بقيمة 906 مليون دولار، وحصة مصر في السوق التركية 23.28%، وإلى إيطاليا بقيمة 408 ملايين دولار، بحصة بلغت 10.48% من السوق الإيطالية. كذلك إسبانيا، بقيمة 349 مليون دولار، بحصة تصل إلى 9%. كما تستورد فرنسا أيضا الغاز من مصر بقيمة 314 مليون دولار، بحصة في السوق الفرنسية بلغت 8.06 %.

3 اتفاقيات تخدم مصر

حقل غاز غزة مارين

شهد العام الجاري ثلاث اتفاقات إقليمية مهمة من شأنها خدمة الرؤية المصرية في التحول لمركز إقليمي لتجارة وتداول الغاز. أول تلك الاتفاقيات، هو الاتفاق الثلاثي بين الاتحاد الأوروبي ومصر وإسرائيل، الذي جاء بموجب مذكرة تفاهم جرى التوقيع عليها في الخامس عشر من يونيو/ حزيران الماضي.

وتمتد الاتفاقية إلى 3 سنوات قابلة للتجديد تلقائيا لمدة عامين، وتنص على نقل الغاز الطبيعي من إسرائيل إلى محطات الإسالة في مصر (إدكو ودمياط ). ومن ثم يشحن شمالا إلى السوق الأوروبية.

ومن المنتظر أن تعوض الاتفاقية نحو 10% من الغاز الروسي إلى أوروبا، كما أن من شأنها جذب المزيد من الاستثمارات في قطاعات نقل وإسالة الغاز وتنشيط المواني في مصر.

ثاني الاتفاقيات كان الاتفاق الأولي بين مصر والسلطة الفلسطينية وإسرائيل لتطوير حقل الغاز الطبيعي “غزة مارين” المكتشف في تسعينيات القرن الماضي. الذي يبعد 36 كيلومترا غرب غزة في مياه المتوسط، في وقت تعمل فيه مصر على التوصل لاتفاق لترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل والسلطة الفلسطينية.

وفي مطلع شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي وقعت الشركتان الفلسطينيتان مالكتا رخصة تطوير حقل غاز “غزة مارين” اتفاق مبادئ مع الشركة المصرية القابضة للغازات “إيجاس” الحكومية لتطوير الحقل واستخراج الغاز منه. الاتفاق صادقت عليه الحكومة ويتضمن الخطة الفنية والمالية الأولية لتطوير الحقل بهدف استخراج الغاز منه ونقله ومعالجته في شبه جزيرة سيناء.

ويشمل الاتفاق استعداد شركة (إيجاس) لشراء الغاز المنتج بما يضمن تحقيق الجدوى الاقتصادية وتوفير الغاز لشركات توليد الكهرباء الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة، إضافة إلى تغطية التمويل اللازم لتطوير المشروع.

ويقدّر احتياطي الغاز في الحقل بـ1.1 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، أي 32 مليار متر مكعب، بما يعادل طاقة إنتاجية قدرها 1.5 مليار متر مكعب سنويا لمدة 20 سنة.

أما ثالث الاتفاقيات التي من شأنها أن تؤثر إيجابيا من خلال انعكاساتها على المساعي المصرية، اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. الاتفاق وافق عليه مجلس الوزراء الإسرائيلي في الثاني عشر من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. في إطار المضي قدما في اتفاقٍ جديد لترسيم الحدود البحرية الدائمة مع لبنان، بعدما كانت تلك الحدود طيلة الفترة الماضية، عبارة عن خطوط مؤقتة وضعتها إسرائيل.

استكشاف لبنان الغاز بموجب الاتفاقية الموقعة التي تمت بوساطة أمريكية، ومن ثم استخراجه بكميات تجارية، من شأنه أن يضيف عميلا جديدا لمحطات الإسالة المصرية في إطار استغلال الكميات المستخرجة وتوجيهها إلى أوروبا.

الاتفاق ربما يعزز فرص مصر الرامية للتحول إلى مركز إقليمي للطاقة من خلال تسييل الغاز اللبناني المرتقب. إذ يوفر خط الأنابيب العربي فرصة لتنقل مصر بموجبه نحو 650 مليون قدم مكعب من الغاز للبنان عبر سوريا بعد اتفاق تم التوقيع عليه العام الجاري.

تحركات تركية موازية

وزيرة خارجية ليبيا نجلاء المنقوش ونظيرها التركي مولود جاويش أوغلو بعد توقيع اتفاق 3 أكتوبر 2022
وزيرة خارجية ليبيا نجلاء المنقوش ونظيرها التركي مولود جاويش أوغلو بعد توقيع اتفاق 3 أكتوبر 2022

وفي مقابل المحاولات المصرية، للتحول إلى مركز إقليمي لتداول وتجارة الغاز، تتحرك تركيا على الصعيد ذاته عبر آليات مماثلة. إذ توظف أنقرة نفوذها السياسي لدى بعض الدول المنتجة للغاز وتلك التي تمتلك احتياطيات كبيرة منه، من أجل الدخول في شراكات تجعلها موردا رئيسيا للطاقة إلى أوروبا.

ومؤخرا اقترح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على نظيره التركي رجب طيب أردوغان، تحويل تركيا إلى مركز إقليمي للغاز الطبيعي، على هامش انعقاد القمة السادسة لمؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا (سيكا)، التي انعقدت في كازاخستان، في الثالث عشر من أكتوبر/تشرين أول الماضي. كما أضاف أن أنقرة هي الشريك الأكثر موثوقية لتوصيل الغاز إلى الاتحاد الأوروبي، في ضوء تعذر نقل الغاز باستخدام خطوط نورد ستريم من بحر البلطيق إلى البحر الأسود.

وفي اليوم التالي للقائه ببوتين وجه الرئيس التركي، وزير الطاقة في بلاده، فاتح دونماز رآه، بالعمل فورا على تنفيذ المُقترح الروسي ببناء مركز إقليمي في تركيا يقوم بنقل الغاز الروسي إلى أوروبا من دون تأخر.

ويتلاقى المقترح الروسي مع رغبة أردوغان في تحقيق حلمه بتحويل تركيا إلى دولة عبور للطاقة إلى أوروبا، وسعى في السابق، إلى إقناع الجانب الإسرائيلي لاعتماد مشروع لنقل الغاز إلى أوروبا عبر تركيا وليس اليونان. لاسيما بعد تراجع الدعم الأمريكي لمشروع “إيست ميد”، والذي كان يهدف لنقل الغاز الطبيعي من إسرائيل إلى أوروبا عبر قبرص واليونان، من دون المرور بتركيا. غير أن إخفاق أنقرة في هذا المسعى، حتى الآن، سيجعل أنقرة تدعم فكرة أن تتحول إلى مركز لنقل الغاز الروسي.

المقترح الروسي من شأنه أن يدفع دولا أخرى مثل قطر للتعاون مع تركيا، والتي تتمتع بخبرة في مجال تسييل الغاز. ولعل زيارة أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، في 13 أكتوبر /تشرين أول الماضي، أتت في هذا السياق. خاصة أن وزيري الخارجية التركي والقطري، اتفقا في المؤتمر الصحفي الذي جمعهما على هامش الزيارة، على أهمية العمل معا من أجل تدشين المشروع المقترح.

من بين التحركات التركية أيضا في هذا الصدد، الاتفاقية التي وقعتها مع حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا، والمسيطرة على العاصمة طرابلس، والتي تحصل بموجبها أنقرة على حقوق التنقيب عن الغاز والنفط في المياه الاقتصادية الليبية.

ورغم أن الاتفاقية قوبلت برفض من جانب مصر واليونان والاتحاد الإوروبي فور توقيعها، إلا أن أنقرة تدرك جيدا أن أوروبا ستصمت في النهاية مقابل توفير الغاز.

إضافة إلى ذلك دخلت تركيا على خط الغاز في إفريقيا، في محاولة للاستفادة من الخلافات بين الجزائر والمغرب، لجعل خط الأنبوب الذي من المقرر أن ينقل 30 مليار متر مكعب من الغاز من نيجيريا إلى أوروبا يمر عبر ليبيا بدل الجزائر أو المغرب. إذ يمكنها من أن تكون وسيطا ينقل الغاز من نيجيريا إلى أوروبا مثلما تسعى لأن تكون حلقة وسطى في غاز المتوسط وكذلك غاز آسيا الوسطى.

كذلك تراهن تركيا، التي تسيطر على قرار حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا، على ميزة أفضلية في حالة مرور الخط النيجيري من ليبيا، تتمثل في أن المسافة بين آبار الغاز في نيجيريا نحو الأسواق الأوروبية تقل بألف كلم على الأقل، مقارنة بمشروعي أنبوبي الغاز المارين عبر الأراضي الجزائرية أو المغربية.