يواصل الغرب إحباط كل المناورات الروسية أولا بأول من دون الانخراط المباشر في الحرب الدائرة على الأراضي الأوكرانية. ففي الوقت الذي تحاول فيه موسكو طرح المزيد من المشاكل والأزمات وتفجير القضايا القانونية والتشريعية وتشكيل اللجان والصيغ، وطرح المقاربات التاريخية والتقليب في التاريخ ومحاولة إحياء الإمبراطوريات الغابرة، من أجل إبعاد الأنظار عن القضية الأساسية الراهنة، ألا وهي الغزو الروسي لأوكرانيا، فشلت عمليا جميع المناورات الخاصة بتصنيع أوكرانيا قنبلة نووية قذرة، وأعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أنها لم تعثر على أي دلائل أو مؤشرات تشير إلى شروع أوكرانيا في تجارب نووية.

كما فشلت أيضا كل التهديدات التي أعلنت عنها موسكو بشأن انسحابها من الصفقة تارة، وتعليق مشاركتها تارة أخرى، والسعي الحثيث لرفع جزء من العقوبات المفروضة عليها تارة ثالثة. لقد حاولت موسكو استخدام ورقة تصدير القمح الأوكراني على عدة محاور ومسارات. وفي نهاية المطاف لم يتوقف تصدير القمح والأسمدة والمواد الغذائية الأوكرانية، ولم تنسحب روسيا أو تنجح في تعليق مشاركتها، لأنها ببساطة سوف تخسر ما تصدره من حبوب ومواد غذائية وأسمدة، وسوف تتضرر علاقاتها بالعديد من الأطراف المستفيدة من تلك الأزمة، خاصة وأن هذه الأطراف تساعد روسيا من الأبواب الخلفية على تجاوز بعض العقوبات والالتفاف عليها. وهذه الأطراف عبارة عن شركات ومؤسسات، وأجهزة استخبارات، وبعض الأنظمة السياسية. وهذا بطبيعة الحال ليس من دون مقابل. وفي الحقيقة، فروسيا تدفع بسخاء شديد، لأنها لا تزال تحتكم على مبالغ ضخمة، وتقدم الكثير من الوعود المستقبلية.

بعد حل أزمة القمح، وانصياع روسيا للرأي العام العالمي، ولمصالحها بالدرجة الأولى، أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنه تحدث مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين عن تصدير الأسمدة والحبوب للدول الفقيرة وخاصة الأفريقية، والبداية ستكون من جيبوتي والصومال والسودان. ومن الواضح أن أردوغان فهم بطريقته تصريحات بوتين التي قال فيها إنه على استعداد لتوريد القمح للدول الفقيرة مجانا. لكنه لم يحدد مفهومه للفقر أو مستواه، ولم يحدد الدول أيضا. لكن في تصريحات الكرملين والخارجية الروسية، اتضح أن هذه الدول أمام اختيارات شحيحة. فهي يمكنها بالفعل أن تحصل على القمح الروسي مجانا، ولكن عليها أن تقدم شيئا ما لروسيا.

البعض يرى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حوِّل نظيره التركي رجب طيب أردوغان إلى الناطق باسمه. فأردوغان بحاجة ماسة إلى بوتين تحديدا من أجل نجاحه ونجاح حزبه في انتخابات 2023، أي بعد عدة أشهر! والمعروف أن شعبية أردوغان تعاني من عثرات، والوضع الاقتصادي سيء للغاية وهناك مشاكل في قطاعات عديدة، على رأسها الاقتصاد والمال والسياحة. وبالتالي، فالشخص الوحيد القادر على انتشال أردوغان من هزيمة منكرة هو وحزبه، هو الرئيس بوتين حصرا.

ولذلك ليس مصادفة أن يتحول أردوغان إلى ناطق باسم بوتين، وسياسي مراوغ من الدرجة الأولى، بصرف النظر عن المكاسب والانتصارات الحقيقية على أرض الواقع. فأردوغان لا يستطيع مع كل هذا النشاط والحيوية والمناورات ولو مشكلة واحدة داخلية حتى الآن، ولا يمكنه أن يجد مخارج لأزماته الاقتصادية والمالية. فكل النجاحات على الورق وفي وسائل الإعلام وفي التحليلات السياسية على الأقل إلى الآن.

ولكن من جهة أخرى، فإن أردوغان يمتلك نظريا عددا من الأوراق الضارة بروسيا، وعلى رأسها سوريا، والعراق، ومجموعة دول العالم التركي التي تشكل في الأساس جزءا ملموسا ومؤثرا من حديقة روسيا الخلفية، وعلى رأسها أذربيجان وأوزبكستان وكازاخستان. ولا يمكن إغفال النفوذ التركي في جمهورية تتارستان ذات الحكم الذاتي في إطار روسيا الاتحادية أو بين تتار القرم الذين يشكلون نسبة ضخمة من سكان شبه جزيرة القرم. هذا مع العلم بأن جمهورية تتارستان الروسية هي أول جمهورية أعلنت رغبتها في الاستقلال عن روسيا، وتحركت القوى القومية التتارية هناك مع بدء انهيار الاتحاد السوفيتي بقوة من أجل الاستقلال عن روسيا. ما أجبر الكرملين آنذاك على منحها صلاحيات إضافية مقابل أن تبقى في إطار روسيا، ضمن جمهورياتها ذاتية الحكم.

كل هذه الأوراق الموجودة بيد الرئيس أردوغان لا يمكن استخدامها من دون التعاون والتنسيق مع الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية المتنفذة، وليس من دون دعم الغرب عموما، لأن أردوغان يمكن أن يتعرض لضربات روسية مفاجئة ومؤثرة من جانب بوتين. فهل يمكن أن يستمر أردوغان في الحفاظ على حركته بين روسيا والولايات المتحدة، وهل سينجح في إطالة أمد الحرب في أوكرانيا لكي يحصل على أكبر فائدة ممكنة لاقتصاده، ولدعم طموحاته الأوروبية، ولابتزاز أوروبا والولايات المتحدة، وروسيا أيضا؟! وهل يمكن أن تحدث تحولات ما تدفع أردوغان لأحضان الغرب مرة أخرى (أي في مستوى سنوات ما قبل عام 2010)، أم يمكن أن تحدث تحولات عكسية تؤثر على علاقة تركيا بحلف الناتو نفسه، وتتخذ أنقرة خطوات عدائية تدفعها إلى المزيد من التقارب مع روسيا؟! كل هذه أسئلة من الصعب الإجابة عليها، لأنها خاضعة لتحولات وتحركات في السياسة وفي المواقف والمصالح الكبرى، بل وعلى مستوى الاستعداد لاستقبال الملامح الأولى للمنظومة العالمية الجديدة المتوقعة.

بالعودة إلى نص تصريحات أردوغان التي أكد فيها بـ “أنه تحدث مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين عن تصدير الأسمدة والحبوب للدول الفقيرة وخاصة الأفريقية، والبداية ستكون من جيبوتي والصومال والسودان”، فإن اهتمام روسيا في الحقيقة بجيبوتي والسودان والصومال ليس بريئا تماما، وليس بريئا إطلاقا، وليس مجانيا كما تدعي موسكو وتحاول أن تحول نفسها إلى جمعية خيرية، بينما الأمر على العكس تماما. فمن المعروف أن روسيا تحاول منذ 20 عاما الحصول على قاعدة في جيبوتي، لكن كل الطرق مغلقة تماما أمامها. وهي في الوقت الراهن تستخدم مقاتلي شركة “فاجنر” لإثارة الشقاقات والانقسامات في عدد من الدول الإفريقية، ودفع الأوضاع إلى الحافة في داخل تلك الدول، وبينها وبين الدول المجاورة، لكي تؤسس لأمر واقع يسمح بوجود قوات روسية تحت أي مسمى من جهة، وتمهد لوجود روسي في أشكال مختلفة، سواء كان بحريا أو بريا أو لوجستيا أو في شكل قواعد عسكرية من جهة أخرى. ولا يمكن هنا أن نتجاهل، أن روسيا تعطي انطباعا لحلفائها بأن نفوذها يتسع في أفريقيا وأنها باتت بديلا لفرنسا في مالي على سبيل المثال. وفي الوقت نفسه تنكر علاقتها بشركة “فاجنر”!

كما أن إرسال الحبوب إلى السودان أيضا ليس مجانا كما تزعم موسكو. فروسيا طوال السنوات العشر الأخيرة تحاول بكل الطرق الحصول على موطئ قدم عسكري- بحري في السودان على البحر الأحمر. واستغلت موسكو ورطة الرئيس السوداني المخلوع حسن البشير لتبتزه من جهة، وتعده بالمساعدة من جهة أخرى، مقابل منحها قاعدة عسكرية بحرية، أو قاعدة للصيانة والتموين واستراحة طواقم سفنها، أو حتى تسهيلات عسكرية- بحرية على البحر الأحمر، كمقدمة لغرس أقدامها هناك ويمكنها فيما بعد أن تحول قاعدة الصيانة والتموين أو الاستراحة إلى قاعدة عسكرية، كما فعلت مع قاعدة طرطوس السورية التي أصبحت روسية لعشرات السنين المقبلة. ولكن بعد رحيل البشير، أعلنت الحكومة السودانية عدم اعترافها بكل تلك الاتفاقات الأولية المبرمة مع روسيا، ورفضت التوقيع على أي وثائق تلزم الخرطوم بتقديم تسهيلات أو قواعد عسكرية لموسكو.

أما موضوع الصومال فهو قديم ومعروف، لأن روسيا كانت من أكثر الدول التي روَّجت بشكل مبالغ فيه لخطر الصومال ومخاطر القراصنة الصوماليين، وتهديدات القرصنة الصومالية في البحر الأحمر والمحيط الهندي. وكانت تستهدف من البروباجندا التي قامت بها، بث المزيد من المخاوف وإثارة الرعب في المجتمعات الإفريقية وبين الأنظمة السياسية للدول الأفريقية الفقيرة على حد سواء، ومن ثم ظهور الحاجة إلى القوات البحرية الروسية والأساطيل الروسية لحماية دول البحر الأحمر وشرق إفريقيا والدول المطلة على المحيط الهندي. ولكنها فشلت أيضا بنتيجة وجود العديد من القوات البحرية التابعة لدول كبرى، ولدول المنطقة، وأيضا لوجود قواعد عسكرية لكل دول العالم تقريبا في جيبوتي، بما فيها الصين وقطر والإمارات.

لقد جاءت أزمة الحبوب على هوى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتحقق له آماله في تحسين وضعه الانتخابي، ووضع حزبه المتضعضع، ولو حتى إعلاميا لكي يستمر في السلطة هو والحزب. غير أن دول أوروبا في العموم مصدرة للقمح والغذاء، ولن تجوع شعوب أوروبا. كل ما هنالك أن روسيا وتركيا تنفخان في أزمة الحبوب لنشر الرعب في نفوس شعوب “دول الغبار البشري” التي تدهور بها الوضع للبحث حتى عن غذائها.

ولا شك أن نفخ بوتين وأردوغان في أزمة القمح تهدف أيضا إلى إبقاء “دول الغبار البشري” في حالة اعتماد دائم على القمح الروسي، وربطها بأزمة أوكرانيا، ووضعها أمام خيار واحد ووحيد: دعم الغزو الروسي، والتعامل بعدمية مع العمليات العسكرية الروسية في الأراضي الأوكرانية، مقابل الحصول على غذائها. وهذا في الحقيقة من شأنه تعطيل زراعة القمح وبقية الحبوب، وتعطيل عملية إنتاج الأسمدة، في تلك الدول لتخفيف اعتمادها على دول أخرى لديها مشاكل وأزمات وصراعات وتوازنات دولية وإقليمية.

والأخطر هو أن غالبية الخيارات الروسية المقدمة لأنظمة “دول الغبار البشري” تتضمن إحراج هذه الأنظمة والإشارة إلى فشلها في إدارة شؤون بلادها لدرجة عدم القدرة على إطعام شعوبها، ومن جهة أخرى تشجع هذه الأنظمة على قمع شعوبها وتغييب الحريات والقانون وتبرير الفقر والفساد، وتمجيد كراهية الغرب والإخلال بتوازنات هذه الدول وبمصالحها مع الأطراف الأخرى.