قبل نحو 60 عامًا ارتبط الأقباط بلقاء البابا الأسبوعي داخل الكاتدرائية المرقسية بالعباسية في القاهرة، كنافذة يطلون منها على العالم. وشحنة روحية تتجدد مساء الأربعاء بالاستماع مباشرة لـ”البطريرك”.

ويرجع تاريخ العظة الأسبوعية التي اتخذت كطقس كنسي إلى عام 1964 بعد إعلان البابا شنودة الثالث إلقاءها من ساحة الكاتدرائية بعد أن ألقاها لفترة من داخل الكلية الإكليركية.

وتجاوزت عظات البابا شنودة منذ وصوله إلى الكرسي المرقسي عام 1971 عدد 2000 عظة أسبوعية. بمتوسط 25 عظة سنويًا. حيث لم يكن يؤجلها إلا لمرض شديد أو سفر للخارج.

مرجعية العظة

البابا شنودة مخترع العظة الأسبوعية كطقس كنسي
البابا شنودة مبتكر العظة الأسبوعية كطقس كنسي (الصورة: وكالات)

يقول المستشار منصف سليمان -عضو المجلس الملي السابق والمستشار القانوني للكنيسة: “العظة الأسبوعية جاءت إثر محاضرة أسبوعية كان يلقيها البابا شنودة مع الشيخ أحمد حسن الباقوري رئيس جامعة الأزهر الأسبق بجمعية الاقتصاد والعلوم السياسية” بشارع رمسيس في القاهرة. وهو لقاء كان يشهد حضورًا جماهيريًا حتى مطلع الستينيات إلى أن قرر البطريرك عقد اجتماع أسبوعي بالكنيسة”.

واعتبرت العظة الأسبوعية نافذة لـ”البابا” على الشأن العام بجانب كونها منبرًا لتجديد الحياة الروحية.

وحظي لقاء “الأربعاء” الكنسي بتغطية إعلامية وحضور شعبي تراوح بين 5 و7 آلاف شخص من مختلف المحافظات حسب سعة الكاتدرائية.

ويحكي بولا رمسيس عن ذكرياته مع عظة البابا شنودة حين كان يسافر أسبوعيًا من مدينة بورسعيد إلى القاهرة. متجهًا مساء الأربعاء لـ”الكاتدرائية المرقسية”بالعباسية لحضور المحاضرة والاستئناس بصوت البطريرك الراحل وروحانياته: “وقت العظة كان يمر سريعًا. نظير إلمام البابا شنودة بجوانب الوعظ الروحية والثقافية والتاريخية. لذلك لم يكن لأحد من متابعيه أن يستعيض عن حضور اللقاء الأسبوعي داخل الكنيسة بمشاهدته عبر التلفاز”.

ومن موقعه الكائن قرابة المذبح الكنسي كان البابا يستغل حضور آلاف الأقباط وكثير من الصحف لإعلان موقفه في القضايا العامة. والرد على أسئلة الجماهير المباشرة قبل أن تطيح وسائل التواصل الاجتماعي بهذه الصفة المميزة للقاء الأسبوعي. وتقصره على تواصل إلكتروني عبر صفحة “البابا تواضروس” على موقع التواصل الاجتماعي –فيسبوك-منذ اعتلائه الكرسي المرقسي في نوفمبر/تشرين الثاني 2012.

تحول

تحول مسار العظة وفقدان جماهيريتها بسبب انتشار وسائل التواصل
تحول مسار العظة بسبب انتشار وسائل التواصل

أشار مستشار الكنيسة القانوني إلى تحول مسار العظة الأسبوعية. لافتًا إلى أنها فقدت وضعيتها السابقة  بسبب انتشار وسائل التواصل الاجتماعي.

فطوال 50 عاما كان الأقباط ينتظرون اللقاء الأسبوعي للذهاب إلى الكاتدرائية والتواصل المباشر مع “البابا”. وكانت له طقوسه في المنازل أيضًا. حيث كانت تعد مناسبة لاجتماع الأسر حول شاشات التلفزيون ومتابعة آراء البطريرك في القضايا الهامة. بجانب نوادره وأجوبته عن أسئلة الحضور.

الآن -حسب قوله- لم يعد الشغف ذاته حاضرًا بسبب انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. والتي مكنت الناس من متابعة اللقاء في أي مكان عبر صفحة الكنيسة الرسمية. دون حرص من أحد على الذهاب إلى الكاتدرائية أو الالتفاف العائلي حول جهاز التلفاز.

وألقى البابا شنودة الثالث آلاف العظات داخل الكاتدرائية المرقسية بالعباسية. ولم يكن يؤجل هذا الطقس إلا لمرض شديد أو سفر للخارج. حتى آخر عظاته التي بدا فيها منهكًا ورغم تحذيرات الأطباء بعدم الخروج للناس أصر على إلقائها.

رسائل البابا

العظة الأسبوعية كانت فرصة لبث رسائل للأقباط أو الخارج
العظة الأسبوعية كانت فرصة لبث رسائل للأقباط أو الخارج

شهدت العظة الأخيرة للبابا شنودة التي ألقاها في 7 مارس/آذار 2012 حضورًا شعبيًا استثنائيًا. فضلا عن هتافات للأقباط لدعمه وتأييده بعد تداول أنباء عن تراجع حالته الصحية. ورد البابا -وصوته لا يكاد يصل جراء إعياء شديد: “أرجوكم اهدؤوا لكي نبدأ الاجتماع”.

كانت العظة الأسبوعية فرصة لبث رسائل مباشرة أو ضمنية للأقباط أو الخارج. واستمر البابا في إرسال رسائله حتى آخر عظة. حيث قال -وقد تم تداول أخبار عن تسمية خليفته على الكرسي البابوي: “الذكاء ليس كل شيء لأن هناك طباعا تعطل الذكاء”.

وفي عام 2010 وبعد حادث نجع حمادي الذي أسفر عن مقتل 5 أفراد تزامنًا مع خروجهم من الكنيسة ليلة عيد الميلاد تجمهر أقباط في ساحة الكاتدرائية المرقسية. وأطلقوا صيحات وهتافات قرب المقر البابوي. وبعد أن فتحت الكاتدرائية أبوابها لدى وصول البطريرك لإلقاء عظته دوى هتاف في ساحتها الداخلية وصخب غير مسبوق لم يستطع أمن الكنيسة السيطرة عليه وبنظرة بابوية تجمع بين الحدة والوداعة قال: “الرصاص لم يصب أبنائي فقط أمام كنيستهم. وإنما تسلل إلى جسدي أولًا”.

وحل صمت مطبق أعقبته زغاريد وتصفيق حاد من الحضور. فاسترسل البابا شنودة: “نحيي ونعزي أبناءنا الحاضرين معنا من نجع حمادي. ونجع حمادي الآن دخلت التاريخ. وأصبحت مدينة الشهداء. ولا شك أن أبناءنا الأحباء الذين قتلوا في هذا الحادث يمكن اعتبارهم شهداء في الحقيقة. ونحيي زميلهم المجند المسلم الذي اختلطت دماؤه بدمائهم. ربنا يعزي أسرته”.

لكل عصر لغته

أما البابا تواضروس الثاني -البطريرك رقم 118 بين بطاركة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية- فقد ألقى أولى عظاته في 30 يناير/كانون الثاني 2013. بعد نحو شهرين من وصوله إلى الكرسي المرقسي. غير أن ما لبثت لقاءاته أن دخلت دائرة التوقف. وتم إلقاؤها من داخل كنيسة الأنبا بيشوي بالمقر البابوي بسبب ظروف “فيروس كورونا”.

وأعلنت الكنيسة توقف العظة الأسبوعية لمدة 3 سنوات نظير إغلاق الكاتدرائية المرقسية بالعباسية. وخضوع أيقوناتها للترميم. وهو التوقف الأطول في فترة البابا تواضروس.

كان آخر توقف لعظة البابا تواضروس في 17 مارس/آذار 2020. واستمر نحو 6 أشهر. وبلغت عظاته في 10 سنوات نحو 234 عظة.

ورفض المستشار منصف سليمان –عضو المجلس الملي السابق- عقد مقارنة بين أداء البطريرك الراحل ونظيره الحالي. لافتًا إلى أن البابا تواضروس ملأ الفراغ بعظات تناسب عصره.

وأضاف لـ”مصر360″ أن نوافذ إبداء الرأي في القضايا العامة صارت أوسع وأكثر من الزمن الماضي. كما أن زخم العظة والنوادر التي كانت تجري على لسان “البابا شنودة” تناسبت مع عصره. مشيرًا إلى أن طرق الوصول إلى البابا حاليًا تعددت عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات. ما سهل طرح الأسئلة يوميا دون انتظار “لقاء الأربعاء”.

مشهد تاريخي

تذكر عضو المجلس الملي السابق أشهر عظات البابا شنودة التي جاءت عقب أزمة “صدور حكم قضائي يلزم الكنيسة منح تصاريح زواج ثان على خلفية دعوى قضائية في مايو 2010”.

واستطرد: “كنت جالسًا بالقرب من البابا وأبلغته أثناء العظة بقرار المحكمة الدستورية الذي قضى بإلغاء إلزام الكنيسة منح تصاريح زواج ثان. وبعدها قال البابا: جاءني الآن خبر منصف. يقول إن المحكمة الدستورية ألغت الحكم الصادر ضد الكنيسة”.

وفضّل البابا تواضروس الثاني انتظام عظاته الأسبوعية في سلاسل علمية روحية. من بينها سلسلة “دروس الحكمة” و”مفردات التفاهم الحسن”. دون إخلال بإعلان مواقفه في القضايا العامة ونظيرتها التي تخص الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.

ومع بداية جائحة كورونا لجأ البابا تواضروس الثاني -بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية- إلى إلقاء العظة الأسبوعية عبر منصات التواصل الاجتماعي الكنسية دون حضور شعبي.

طرق الوصول إلى البابا حاليًا تعددت عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات
طرق الوصول إلى البابا حاليًا تعددت عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات

وتبدأ العظة الأسبوعية بصلاة قصيرة يحضرها عدد من أساقفة المجمع المقدس والكهنة.

وفي فترة البابا شنودة حرص على حضورها عدد من المفكرين والشخصيات العامة الإسلامية والمسيحية. وكان الكاتب الصحفي أنيس منصور دائم الحضور لعظات البابا شنودة.

وحرصت مجموعات كنسية على تسجيل العظة الأسبوعية على شرائط كاسيت متداولة بالكنائس لمن لم يتمكن من حضور العظة. أما حاليا فتنقل العظة عبر قنوات الكنيسة الرسمية وصفحة المتحدث الرسمي باسم الكنيسة على فيسبوك وباقي منصات التواصل الاجتماعي. فيما تشهد العظة الأسبوعية مؤخرا حضور قبطي قليل. لكنها تبقى طقسًا كنسيًا ينتظره بسطاء الأقباط على شاشات التلفاز ممن لم تختطفهم بعد وسائل التواصل الاجتماعي.

وجبة ثقافية

من جانبه قال الدكتور رامي عطا -الباحث في شؤون المواطنة: “البطريرك الراحل لم يقف عند حد الواعظ الديني. وإنما أسهم بثقافته الواسعة في تحويل عظته الأسبوعية إلى وجبة مكتملة العناصر (ثقافية-تاريخية-وطنية-شاعرية وروحية). آخذًا في الاعتبار تباين عقليات الجمهور.

وأضاف لـ”مصر360” أن الفكاهة الحاضرة دائمًا في عظته الأسبوعية شجعت البسطاء على الحضور من محافظات مختلفة لمعايشة دقائق الوعظ المرن. مراوحًا بين ثقافة عربية موسوعية ومرجعية قبطية. وهو مزيج جعل اللقاء الأسبوعي وجهة لمثقفين ومفكرين -مسلمين وأقباطا. بجانب كون العظة منبرًا لإعلان مواقفه من القضايا العامة.

يشار إلى أن العظة الأسبوعية للبابا شنودة كانت مصدر دخل للمكتبات الكنسية نظير تسجيلها وتدوينها وبيعها لمن يريد الاحتفاظ بها. وذلك قبل زحف منصات التواصل الاجتماعي في فترة البابا تواضروس الثاني وتسهيل الاحتفاظ بها مباشرة بعد إلقائها على أجهزة الهواتف الذكية.