اختزل تاريخ الدكتور محمد حسين الذهبي في حادثة اغتياله، كأن الرجل وهب حياته للعلم ليس إلا، فلم يسع يوما إلى منصب ولا نافق، لذا اكتسب كعالم دين مصداقية كبيرة، وتابع ذلك بأنه كان مؤسسا في بدايات حياته لعلم تاريخ التفسير عبر كتابه الموسوعي التفسير والمفسرون الذي كان في أصله رسالته للدكتوراة في الأزهر الشريف عام 1946، إلى الآن هذا الكتاب يعد مرجعا لا غنى عنه للعاملين في الدراسات الإسلامية، هذا ما دفع الشيخ الذهبي إلى إعادة تأسيس علم التفسير وفق معطيات معاصرة، ثم تحليل ونقد عدد من تفاسير القرآن الكريم.. هو في منهجه هذا كان ثورة في الأزهر، ثورة فكرية وعلمية لم تأخذ حقها إلى الآن، بل جرى وأدها، شاركه هذه الثورة كل من الدكتور محمد علي السايس بكتابه “الفقه الاجتهادي” ثم بكتاب مشترك بين السايس والشيخ شلتوت عن مقارنة المذاهب الأربعة.
اقرأ أيضا.. الأرشيف المفقود للصحافة المصرية.. والمتحف المنسي
كان حضور الشيخ الذهبي قويا في حقل الدراسات الإسلامية على الساحة الدولية، فهو مرجع لا غنى عنه.. جرأته كانت سابقة، فألف “الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة بين مذاهب أهل السنة والشيعة”، “الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية.. دراسة مقارنة بين مذاهب أهل السنة ومذهب الجعفرية” بل كان له آراء جادة في كتابه “القرآن والعلم.. أراء الغلاة والمتطرفين”.
لم يكن الذهبي عالم دين معزول داخل جدران الجامعات، بل كان مدركا لمشكلات العصر التي تواجه الدعاة، لذا ألف دراسة تحت عنوان “مشاكل الدعوة والدعاة في العصر الحديث ووسائل التغلب عليها” هذا أيضا ما دفعه لتأليف دراسة ناقش فيها إشكالية العلاقة بين الدين والتدين، ثم بثاقب نظره أدرك مشكلات المساجد والدعوة والدين فطرح في دراسة “رسالة المسجد في العالم عبر التاريخ”.
أثر الذهبي في خمسة أجيال في الأزهر منذ الأربعينيات إلى استشهاده عام 1977، كان يتبعه ويتأثر به مئات الطلاب من مصر وخارجها لرسوخ علمه وفكره الثاقب، وممن تأثروا به الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر السابق، ألف طنطاوي تفسيرا للقرآن الكريم كان جانبا منه نتاجا لمناقشاته مع الشيخ الذهبي، بل وضع الذهبي تفسيرا لبعض أجزاء القرأن الكريم غير أن تفسيره لم يكتمل.
الدكتور محمد حسين الذهبي على الصعيد الإنساني رأيته عن قرب، فالشيخ ولد في ذات مدينتي مطوبس محافظة كفر الشيخ وذلك في عام 1915، وبالرغم من ترقيه العلمي والوظيفي، إلا أنه كان خدوما كريما، معطاء، فقد أعطى بعضا من وقته لقضاء حوائج الناس، وبعضا من وقته لتعليم الناس في مطوبس كان يجلس لتعليم الناس في مسجد سيدي عبد الوهاب، صار الشيخ مثلا وقدوة، لمست هذا بتفاخر الناس به، حين اختطف كان الوجوم يخيم على وجوه أهل مطوبس والذهول والحيرة تسيطر عليهم، وحين استشهد بكاه الجميع بلا استثناء.
كان لصلابته أثر حين تولى وزارة الأوقاف من 15 إبريل 1975 إلى نوفمبر 1976، فكان لتصديه للفساد في الوزارة صدى كبير، فكان إصلاحيا أردا إصلاح الوزارة بصورة شاملة غير أنه غادر المنصب دون أن يكمل هذه المهمة.
هذا كله جري اختزاله في حادثة اختطافه ثم استشهاده، فعبر سنوات اختزل الشيخ في حادثة الاستشهاد، فاغتيل مرتين: مرة حين جرى اغتياله، ومرة حين حصرت حياته في هذه الحادثة، ثم في تجاهل جل مؤلفاته عدا كتاب التفسير والمفسرون، كانت جرأته في الحجاج والمواجهة الفكرية سببا في تأليفه كتاب “قبس من هدي الإسلام” الذي فند به الفكر المتطرف لجماعة شكري مصطفي فكان ما فيه من مناقشات رصينة وقدرة على تفنيد الآراء المتطرفة الموغلة في التطرف، أصاب الشيخ الذهبي المتطرفين في مقتل حتى هدده أحدهم علنا في مؤتمر علمي، لكنه لم يأبه وكان رده أن الحوار والمناقشة سبيل للوصول للحق، رفض الذهبي منهج التكفير، وهذا ما أصبح منهج الأزهر إلى الآن، يقول الذهبي في مقدمة قبس من هدي الإسلام: “يبدو أن فريقا من المتطرفين الذين يسعون في الأرض فسادا، ولا يريدون لمصر استقرارا، قد استغلوا في هذا الشباب حماس الدين، فأتوهم من هذا الجانب، وصوروا لهم المجتمع الذين يعيشون فيه بأنه مجتمع كافر، تجب مقاومته ولا تجوز معايشته، فلجأ منهم من لجأ إلي الثورة والعنف، واعتزل منهم من اعتزل جماعة المسلمين، وآووا إلى المغارات والكهوف، ورفض هؤلاء وأولئك المجتمع الذي ينتمون إليه لأنه في نظرهم كافر”.
شدد الذهبي في كتابه على أن “مرتكب الكبيرة ليس كافرا، فعلى الذين يوزعون الإيمان والكفر على النناس، أن يراجعوا أنفسهم مرات ومرات، وإلا باءوا بإثم ما رموا به غيرهم، عملا بقول الرسول الكريم: لا يرمي رجل رجلا بالفسق أو يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك.. وإذ إن من أهم أسس الدعوة الإسلامية، أن يتحسس الداعي أدواء المجتمع وينصت لشكاياته ولا يضيق بها ولا ييأس من علاجها، ولذلك فإن فراره من الميدان هروب من الواجب، وتلك نقيصة لا تقبل من أصحاب الدعوات وجريمة في حق المجتمع لا يرضي عنها الله، وأن من أسس الدعوة الإسلامية أيضا الموعظة الحسنة، فهي لون من ألوان الحكمة ومظهر من مظاهرها، وأن هذه الأفكار ضالة وخاطئة، وأن هؤلاء شباب حديثو السن وقليلو المعرفة والخبرة، ولا يجوز أن نحاربهم، وإنما يتعين أن نهديهم إلى سواء السبيل، وأن نعلمهم حقيقة الإسلام”.
كان الدكتور محمد حسين الذهبي مؤمنا بالمناظرات الفكرية.. وعلم المناظرة علم ترسخ في الحضارة الإسلامية وحمى المسلمين في كثير من الأحيان من الشطط، بل قادهم إلى طرح قضايا في المستقبل في تحدي المناظر لمُناظره، وهؤلاء كانوا أصحاب الرأي الذين يطرحون قضايا جريئة حتى إن آراءهم هذه صارت من الفقه.
الذهبي صار فكرا فضاء للعديد من الدراسات حول العالم، خاصة في أوربا، ومؤخرا تنبه له عدد من الباحثين كان منهم الباحث عمرو عبد المنعم الذي أنجز رسالة دكتوراة ركزت على التجديد الفقهي عند الذهبي وموقف جماعات الإسلام السياسي منها، وهي تعد من أفضل الأطروحات التي قدمت بعدا فكريا متماسكا حول الشيخ الذهبي.