على الرغم من أن البرازيل لم يأتِ ذكرها صراحةً في وثيقة الأمن القومي الأمريكي التي صدرت منتصف الشهر الماضي، والتي حددت الإدارة الأمريكية فيها سياساتها بشكلٍ واضح إزاء دول بعينها من أمريكا الجنوبية كشيلي وكوبا وفنزويلا ونيكاراجوا، إلا أن تحركاتٍ على الأرض كانت تُشير إلى أن تغيرًا في النظرة الأمريكية للتعامل مع النظام السياسي الحاكم في البرازيل سيجد طريقه حتمًا للنور.
ربما لم ترغب الإدارة الأمريكية في الإشارة المباشرة إلى موقفها من نظام الرئيس “بولسونارو” باعتباره حليفًا أيديولوجيًا للولايات المتحدة، فتجنبت التعاطي معه على نحو يضعه في خانةٍ أخرى مُؤْثِرَةً عدم الإشارة إلى تخليها عنه بشكل صريح ومُوَثق لاعتباراتٍ تتعلق بحسابات الرأي العام وحتى لا تنفض يدها منه تمامًا إذ قد تحتاجه في المستقبل، فتركت الباب مواربًا لتفاهمات ومفاوضات أفضت إلى تغييرٍ يتسق مع ما جاء بوثيقة الأمن القومي من تعهداتٍ حفظًا لمصالحها وحتى يتم ذلك التغيير تحت أعينها وبمباركتها الضمنية.
كانت الإدارة الأمريكية قد تعهدت في إحدى فقرات الوثيقة المُتعلقة بتعزيز الديمقراطية والازدهار المُشترك في نصف الكرة الأرضية الغربي: “كما تستمد الولايات المتحدة فوائد أمنية واقتصادية من استقرار المنطقة ومؤسساتها الديمقراطية، حيث توفر قيمنا المشتركة أساسًا للتعاون وتسوية المنازعات بالوسائل السلمية. وللمساعدة في الحفاظ على هذه التقاليد وتعزيزها، سندعم الشركاء الذين يسعون جاهدين لبناء مؤسسات شفافة وشاملة وخاضعة للمساءلة. كما سندعم معًا الحكم الديمقراطي الفعال الذي يستجيب لاحتياجات المواطنين، والدفاع عن حقوق الإنسان ومكافحة العنف القائم على نوع الجنس، ومعالجة الفساد، والحماية من التدخل الخارجي أو الإكراه، من الصين أو روسيا أو إيران أو غيرهم”.
تركت الإدارة الأمريكية مسار الانتخابات البرازيلية يعمل من تلقاء نفسه بلا تدخل سافر لصالح حليفها اليميني، خصوصًا بعدما أشارت نتائج الجولة الأولى واستطلاعات الرأي إلى تزايد احتمالات فوز منافسه “لولا دا سيلفا” الذي كان قد تم إطلاق سراحه في مثل هذه الأيام منذ ثلاث سنوات بعد قضائه ما زاد عن الخمسمائة يوم خلف القضبان بتهمٍ للفساد أصدرت المحكمة العليا بالبرازيل حكمًا ببراءته منها في مارس 2021 مما مهد له طريق خوض الانتخابات الأخيرة.
شهدت فترة سجن “دا سيلفا” تضامنًا واسعًا معه من قِبَل العديد من الشخصيات اليسارية المؤثرة عالميًا مثل البريطاني جيريمي كوربين زعيم حزب العمال، والفرنسي جان لوك ميلونشون عضو البرلمان الأوروبي، ونعوم تشومسكي المفكر الأمريكي الشهير، إلا أن تضامنًا من عضو الكونجرس ورئيس لجنة الخطة والموازنة “بيرني ساندرز” صاحب الواحد والثمانين عامًا، كان الأهم والأكثر تأثيرًا حين كتب في تغريدة بحسابه على “تويتر” عند إطلاق سراح “دا سيلفا” وقبل صدور حكم المحكمة العليا ببراءته: “اضطلع لولا داسيلفا بالقيام بخفض هائل في معدلات الفقر بالبرازيل ومازال أكثر السياسيين شعبية هناك، وأشارك كل السياسيين والقادة الاشتراكيين بكل دول العالم مطالبة القضاء البرازيلي بتبرأته وإسقاط كل التهم الموجهة إليه”… وقد كان.
قبل بدء سباق الانتخابات البرازيلية بأشهر معدودة، وبترتيب من مكتب “واشطنون-البرازيل Washington Brazil Office” وهو مركز بحثي تقدمي يهدف إلى توثيق العلاقات بين البرازيل والولايات المتحدة وكذا المؤسسات الدولية التي تقع مراكزها الرئيسية بالولايات المتحدة، التقى وفد من النشطاء البرازيليين الذين يعملون في مجالات البيئة ومكافحة التمييز ببعض موظفي الإدارة الأمريكية ورجال الكونجرس وعلى رأسهم “بيرني ساندرز” حيث قاموا بِحَث الكونجرس للتنبه لأفعال “بولسونارو” وتحركاته الرامية إلى تقويض العملية الديمقراطية والتوازنات السياسية وممارسة ضغوط متزايدة على القضاء ومؤسسات العمل المدني بالبرازيل بغرض تأمين فوزه في الانتخابات، ما دعى “ساندرز” إلى التعليق بأنه سيقدم بيان تضامن للكونجرس يدعم فيه إجراء انتخابات نزيهة في البرازيل ثم ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بقوله إنه سيدعو الإدارة الأمريكية لقطع العلاقات مع البرازيل إن كان يقودها نظام غير شرعي.
تدارك “ساندرز” المسألة خشية اتهامه -كبرلماني- بالتورط في الشأن الداخلي لدولة أجنبية ليعود فيُصرِح: “على الشعب البرازيلي أن يدرك أننا نقف بجانبه، بجانب الديمقراطية” ثم زاد الأمر توضيحًا حين قال: “التضامن ليس ممارسة للإمبريالية كما يظن البعض، بل هو نقيضها حيث إنه من غير المقبول للولايات المتحدة أن تعترف ومن ثم تعمل مع حكومة خسرت الانتخابات إذ سيكون ذلك بمثابة كارثة للشعب البرازيلي ورسالة مروعة للعالم كله بشأن قوة الديمقراطية”.
وقد كان بعض المسئولين الأمريكيين الذين طلبوا عدم الإفصاح عن أسمائهم قد صرحوا في مايو الماضي لرويترز أن ويليام بيرنز مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية قد طلب في اجتماع مغلق ضرورة أن يتوقف الرئيس “بولسونارو” عن التشكيك في قدرات بلاده على إجراء انتخابات حرة ونزيهة. وعلى الرغم من أن ما نُشِر في رويترز قد تم نفيه بعد ذلك من الطرفين الأمريكي والبرازيلي، إلا أن مجرد تداوله مُسَرَبًا -حتى وإن كان على سبيل تحسس ردود الأفعال- هو أمر لا يمكن التغافل عنه في سياقٍ عامٍ لاحق حددت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي أبعاده وحققته إرادة الناخب البرازيلي يوم 30 أكتوبر2022.
بعد فوز مرشح اليسار التاريخي صاحب السبعة والسبعين عامًا “لويس إيناسيو لولا دا سيلفا”، غَرَد “ساندرز” قائلًا: “صَوَت الشعب البرازيلي للديمقراطية وحقوق العمال والتعقل البيئي. أهنئ لولا دا سيلفا على انتصاره الذي خاض لتحقيقه معركة مضنية، وأتطلع لعلاقة قوية ومزدهرة بين الولايات المتحدة والبرازيل”. فهل يشهد العالم، بمساهمة من الثنائي العجوز “ساندرز- داسليفا”، تدشين نواة لتأسيسٍ جبهة عالمية جديدة لليسار الديمقراطي لرسم مستقبل البشرية بحقبة ما بعد الأزمة الأوكرانية في إطارٍ أكثر عدلًا وأعمق ديمقراطيةً بُغية التخفيف من غلواء الظلم الاجتماعي والتلوث البيئي اللذين خلقتهما العولمة ورسختهما ممارسات العنصرية والتطرف المُتطورِ سلبًا لما هو أقرب إلى الفاشية؟ هذا ما سَيُقَدِم الواقع العالمي إجاباتٍ عنه في قادم الأيام.