تتجه الأنظار حاليًا إلى مدينة شرم الشيخ المصرية، التي تستضيف المؤتمر السابع والعشرين للدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة للمناخ، خلال الفترة من 6 إلى 18 نوفمبر الجاري. انعقد مؤتمر الأطراف الأول عام 1995 في برلين بألمانيا، وانعقد المؤتمر السادس والعشرين في العام الماضي في جلاسجو بالمملكة المتحدة.

وينعقد المؤتمر السابع والعشرون في ظل ظروف اقتصادية وسياسية صعبة يعاني منها العالم. فالاقتصاد العالمي لم يتعاف بعد من تداعيات جائحة كوفيد-19، وجاءت الحرب الروسية في أوكرانيا لتؤثر بشدة على إمدادات وأسعار الطاقة والأسمدة والغذاء، فضلًا عن اضطراب سلاسل الإمداد والتوزيع، ما أدى إلى تدهور واضح في مستوى معيشة الملايين في مختلف دول العالم.

وفقًا لجدول الأعمال، يناقش المؤتمر قضايا التمويل والمياه والطاقة والبحث العلمي والزراعة والتنوع الحيوي، كما يناقش قضايا الشباب والنوع الاجتماعي ومنظمات المجتمع المدني، بينما سقط الغذاء من جدول الأعمال، على الرغم من أن الزراعة وإنتاج الغذاء مسئولين عن ما يتراوح بين 25-30% من الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري.

فلماذا تتجاهل مؤتمرات الأمم المتحدة هذه القضية الهامة والحساسة على الرغم من أنها وثيقة الصلة بتغير المناخ؟ ولماذا لا تناقش الزراعة إلا في إطار التكيف؟ ولماذا ترفض الدول  المتقدمة تأسيس صندوق لتعويض الدول الفقيرة في الجنوب عن الخسائر والأضرار الناتجة عن تغير المناخ؟

ظهرت الأدلة المبكرة على مخاطر تغير المناخ في الدول الجزرية الصغيرة، وعلى الرغم من أن مساهمتها في الانبعاثات لا تكاد تذكر، تعاني هذه الدول من زيادة حدة ووتيرة الكوارث المناخية والظروف الجوية المتطرفة، مثل العواصف والفيضانات وموجات الحر والجفاف الطويل، كما يمثل ارتفاع مستوى سطح البحر، تهديدًا وجوديًا لبعض هذه الدول الجزر.

في أكتوبر عام 1987، وبعد فيضانات غير مسبوقة غمرت عاصمة بلاده، خاطب مأمون عبدالقيوم، رئيس المالديف آنذاك، قادة العالم بشأن ارتفاع درجة الحرارة وارتفاع مستوى سطح البحر، ووصف التهديد الذي يواجه بلاده بأنه “موت أمة”. وفي نوفمبر 1989، انعقد في عاصمة المالديف المؤتمر الأول من نوعه، عندما اجتمع المندوبون والوزراء من أربعة عشر دولة جزرية صغيرة، لمناقشة قضية ارتفاع مستوى سطح البحر.

وشهد المؤتمر إطلاق أول دعوة للعمل المناخي العالمي، “إعلان ماليه”. وتضمنت بنود الإعلان نداءً من قادة الجزر الصغيرة إلى جميع الأمم في العالم، للنظر في طرق ووسائل حماية الدول الأكثر عرضة لارتفاع مستوى سطح البحر. وإدراكًا منها للتحديات المشتركة التي تواجهها، ولد في العام التالي “تحالف الدول الجزرية الصغيرة” (Alliance of Small Island States) (AOSIS). وبعد انضمام دول أخرى للتحالف أصبح يضم حاليًا 39 دولة، ومنذ تأسيسه، أصبح التحالف القوة الدافعة الرئيسية وراء مناقشة التعويض عن الخسائر والأضرار التي تتعرض لها هذه الدول بسبب تغير المناخ.

وبينما كان العالم يستعد لإقرار أول اتفاقية دولية للمناخ، ظهرت أول إشارة إلى الخسائر والأضرار في اقتراح التحالف إدراج بند حول “التأمين” في الاتفاقية التي كان العالم يتفاوض بشأنها . وعلى غرار الاتفاقيات الحالية التي تنظم دفع تعويضات عن الخسائر والأضرار الناتجة عن الحوادث النووية والتسربات النفطية، تضمن الاقترح أن تدفع الدول الصناعية الكبرى ثمن “الخسائر والأضرار” على أساس مساهمتها في الانبعاثات وعلى أساس ناتجها المحلي الإجمالي. لكن شركات النفط والدول الصناعية المتقدمة رفضت الاقتراح.

يشير مصطلح “الخسائر والأضرار” عادةً إلى الآثار المدمرة التي لارجعة فيها، والتي لا يمكن تجنبها، سواء عن طريق التخفيف عبر خفض الانبعاثات، أو عبر التكيف. وغالبًا ما يتم تقسيم الخسائر والأضرار إلى خسائر وأضرار اقتصادية، تشمل سبل العيش والممتلكات، وخسائر وأضرار غير اقتصادية، بما في ذلك الخسائر في الأرواح وخسائر التنوع الحيوي والتراث الثقافي. ومن الواضح، أن الخسائر والأضرار تحدث بالفعل، وعلى نطاق واسع، لا سيما في البلدان الأكثر تعرضًا، وسوف تتفاقم مع زيادة الاحتباس الحراري.

يؤدي ارتفاع درجة حرارة المحيطات إلى تغيير عادات وهجرة أسماك التونة في المحيط الهادي، ويمكن أن يكون لذلك تأثيرات مدمرة على حياة الناس في الدول الجزرية الصغيرة، التي تعتمد إمداداتها الغذائية واقتصادياتها على صيد أسماك التونة، ويقدر أن يتسبب في خسائر بنحو 140 مليون دولار في متوسط الإيرادات الحكومية سنويًا.

وفي منطقة بحيرة تشاد، ارتفعت درجات الحرارة بنحو درجتين أكثر مما كانت في الستينات من القرن الماضي. وتؤثر الظروف الجوية المتطرفة والقاسية، من الجفاف إلى الفيضانات، على سبل عيش 40 مليون شخص هناك، وساهم ذلك في انخفاض غلات الزراعة والثروة الحيوانية والأسماك، وضياع الثقافات المحلية بسبب تهجير المجتمعات والصراع على الأراضي الصالحة للزراعة.

وفي سبتمبر الماضي، غمرت المياه أكثر من ثلث أراضي باكستان بعد الفيضانات المفاجئة الناتجة عن الأمطار الموسمية غير المعتادة، قتلت الفيضانات أكثر من 1355 شخصًا، ونفق أكثر من 794 ألف رأس من الماشية، وتأثر حوالي مليوني فدان من المحاصيل المزروعة والبساتين، وفقدت ملايين الأسر مصدر عيشهم. وتضرر أكثر من مليون مبنى سكني، كليًا أو جزئيًا، ما أدى إلى نزوح أكثر من 50 مليون شخص من منازلهم. ومن المتوقع أن يضيف الفيضان خسائر تقدر بحوالي 10 مليارات دولار إلى اقتصاد البلاد المترنح بالفعل.

هذه الآثار هي بلا شك أحد أعراض تفاقم أزمة المناخ. على الرغم من أنها تنتج أقل من 1% من الانبعاثات العالمية، تتحمل باكستان بعض أسوأ عواقب أزمة المناخ على مستوى العالم. وعلى مدار العشرين عامًا الماضية، صنفت البلاد في مؤشر مخاطر المناخ العالمي على أنها من بين الدول العشر الأكثر ضعفاً في العالم. شعب باكستان هو آخر ضحايا أزمة عالمية لم يساهموا فيها بشيء تقريبًا- ويعزي سببها الرئيس إلى زيادة الانبعاثات من الدول الغنية والشركات الملوثة. هذا الظلم هو السبب الجذري لمطالبة باكستان ودول الجنوب الفقيرة بالتعويضات المناخية من الشركات والدول الصناعية والمتقدمة.

ليس من اليسير تقدير حجم الخسائر والأضرار العالمية بسبب تغير المناخ. وتقدر تكاليف الخسائر والأضرار الناتجة عن تغير المناخ في العالم حاليًا بحوالي 290 مليار دولار سنويًا، ويتوقع أن ترتفع لتصل إلى حوالي 580 مليار دولار بحلول عام 2030. ووفقًا للمعهد الملكي للشئون الدولية “تشاتام هاوس” خسرت اقتصاديات البلدان العشرين الأكثر تعرضًا لتغير المناخ حوالي 525 مليار دولار في العشرين عامًا الماضية، ومن المتوقع أن ترتفع الخسائر في العالم إلى حوالي تريليون دولار بحلول عام 2050.

كان التمويل مشكلة منذ اليوم الأول، وكانت أحكام التمويل الواردة في المادتين 4.3 و 4.4 من الاتفاقية محلًا للنزاع، ومع أن الإتفاقية تشير إلى “التهديدات بأضرار جسيمة أو لا رجعة فيها”، وتشير المادة 4.8 إلى “التأمين” كوسيلة ممكنة للمساعدة في تلبية احتياجات الدول النامية، لكن قضية التعويضات عن الخسائر والأضرار دفنت لسنوات.ومع أن بروتوكول كيوتو تضمن تأسيس صندوق لتمويل مشروعات التكيف، وأشار  إلى “التأمين” كآلية لتقليل الآثار السلبية لتغير المناخ.

لكن الدول الكبرى لم تلتزم بخفض الانبعاثات، ما دفع الدول النامية إلى تجديد مطلبها بالتركيز على الخسائر والأضرار في مؤتمر الأطراف السابع في مراكش بالمغرب عام 2001. ومع أن الوثيقة النهائية تضمنت قرارًا بالنظر في الإجراءات المتعلقة بالتأمين، لكن قضية تمويل الخسائر والأضرار تم تجاهلها لسنوات، ولم تظهر مرة أخرى إلا في عام 2007 في إطار “خطة عمل بالي”.

قبل مؤتمر الأطراف الخامس عشر في كوبنهاجن بالدانمارك، انضمت المجموعة الأفريقية إلى تحالف الدول الجزرية الصغيرة في الدعوة إلى “آلية دولية لمعالجة الخسائر والأضرار التي لا مفر منها”. وقدمت الهند والبرازيل وبنجلاديش وكوستاريكا وبنما أيضًا نصًا بشأن الخسائر والأضرار، مما يوضح أن هذه لم تعد مجرد مشكلة تتعلق بالدول الجزرية الصغيرة. لكن المؤتمر انتهى إلى حالة من الفوضى والاشتباكات بين الدول النامية والدول المتقدمة، وحذفت الإشارة إلى الخسائر والأضرار من النص النهائي.

بعدها اكتسبت القضية زخمًا إضافيًا في عام 2013، عندما اتفقت الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة على إنشاء “آلية وارسو” الدولية للخسائر والأضرار(WIM). في مؤتمر الأطراف الحادي والعشرين في باريس عام 2015، عندما نجحت الدول النامية في إدراج بند في الإتفاقية ينص على الحد من ارتفاع درجات الحرارة دون 1.5 درجة مئوية، وقدمت نصًا للتفاوض يتضمن اعتراف الدول الكبرى بالمسئولية عن تغير المناخ، والتعويض عن الخسائر والأضرار، لكن الولايات المتحدة الأمريكية، ودول أخرى من مجموعة “أمبريلا جروب”، قدمت مقترحًا يتجاهل الإشارة إلى الموضوع تمامًا.

ومع أن الاتفاقية تنص على أن الخسائر والأضرار هي الركيزة الثالثة للعمل المناخي، مع التخفيف والتكيف، فإن المادة 8 المخصصة للخسائر والأضرار لا تتحدث صراحة عن التمويل أو التعويض، وأصرت البلدان المتقدمة أن يتضمن النص النهائي إشارة واضحة على أن الخسائر والأضرار “لا ينطويان ولا يوفران أساسًا لأية مسئولية أو تعويضات”. وهكذا، بموجب اتفاقية باريس، أصبحت المطالبة بالتعويض عن الخسائر والأضرار غير ممكنة.

في مؤتمر الأطراف الخامس والعشرين في مدريد، إسبانيا عام 2019، ومع بدء المراجعة الثانية لآلية وارسو، ووجود نص في قرار تشكيلها يشير إلى إمكانية إعادة هيكلة “صندوق المناخ الأخضر”، بحيث يمكن أن يتضمن تمويل الخسائر والأضرار، طالبت مجموعة ال77 والصين بتمويل جديد وإضافي للخسائر والأضرار، لكن الدول الكبرى رفضت، ووافقت على تشكيل لجنة خبراء للدراسة، وإطلاق “شبكة سانتياجو” للمساعدة في تقديم الخبرة والدعم الفني للبلدان النامية.

وفي مؤتمر الأطراف السادس والعشرين في جلاسجو العام الماضي، أصرت الدول الكبرى على رفض اقتراح إنشاء مرفق جديد لتمويل الخسائر والأضرار، وتضمنت الوثيقة النهائية للمؤتمر الدعوة إلى “حوار” جديد- “حوار جلاسجو”. ومع فشل البلدان المتقدمة في الوفاء بتعهداتها السابقة في توفير 100 مليار دولار سنويًا لتمويل المناخ، ورفضها المتكرر لتمويل خاص ومستقل للخسائر والأضرار، تخشى الدول النامية من أن تستمر الحوارات والمناقشات إلى الأبد.

وفي يونيو الماضي انعقدت في بون أولى جلسات حوار جلاسجو. في الجلسة قال كبير مفاوضي تحالف الدول الجزرية الصغيرة أنهم قدموا التنازل وقبلوا بالحوار، بشرط أن يتوج في النهاية بمرفق مالي، وأعلن عن رغبة دول التحالف في إضافة تمويل الخسائر والأضرار كبند منفصل على جدول أعمال مؤتمر الأطراف السابع والعشرين في شرم الشيخ. وأضاف إننا لن نتمكن من حل أزمة المناخ بمجرد الحديث عنها، و”من المخجل أن تقول الولايات المتحدة أن حوار جلاسجو كافٍ”. لكن ممثل الولايات المتحدة الأمريكية قال أن بلاده ما زالت تعتقد أن الخسائر والأضرار لا تتطلب صندوقًا جديدًا، مشيرًا إلى أن المصادر الحالية لتمويل المناخ والمساعدات الإنسانية تفي بالغرض. وفي ختام الجلسة، أعلنت الأمينة التنفيذية لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، باتريشيا إسبينوزا (التي تم استبدالها مؤخرًا بسيمون ستيل من جرينادا) أن “المسائل المتعلقة بترتيبات التمويل لمعالجة الخسائر والأضرار”ستكون على جدول الأعمال المؤقت”.

في الشهر الماضي، أثار المبعوث الرئاسي الأمريكي للمناخ ضجة كبرى، عندما قال للصحفيين في نيويورك تايمز، “إن التركيز على منع تغير المناخ في المستقبل والتكيف مع عالم أكثر حرارة، أهم من التركيز على تعويض الخسائر والأضرار التي حدثت بالفعل”. وفي الأسبوع الماضي، بدا وكأن كيري قد غير كلامه، عندما صرح للصحفيين، أن الولايات المتحدة لن تعرقل مناقشة الخسائر والأضرار في شرم الشيخ، وتؤيد معالجة الخسائر والأضرار في إطار عملية الأمم المتحدة ومؤتمرات الأطراف”.

ربما يعتقد أن هناك تحول ملموس في موقف الولايات المتحدة، لكن تصريحات المسئولين الأمريكيين تبدو مصممة بعناية لتمكين المفاوضين الأمريكيين لتأجيل القضية إلى الأبد. تريد الولايات المتحدة-المسئولة وحدها عن 20% من الانبعاثات- احتواء محادثات شرم الشيخ في إطار “حوار جلاسجو”، ويقولون أن الولايات المتحدة مهتمة بالنظر في مجموعة متنوعة من الحلول المالية المختلفة، بما في ذلك الأموال الموجودة في صندوق التكيف وصندوق المناخ الأخضر، مع أن هذه القنوات مصممة بعناية لضمان المناقشة فقط، بدلًا من التقدم نحو التدابير العملية. وتخشى الدول الفقيرة والنامية، من أن يتم تمويل الخسائر والأضرار من هذه الصناديق القائمة والتي لا تكفي بالفعل، كما تخشى أن تأتي هذه الأموال في صورة قروض، من شأنها أن تثقل ميزانيات هذه الدول الفقيرة والمثقلة بالديون.

عشرات المؤتمرات والاجتماعات، على مدى ثلاثة عقود، لم تسفر إلا عن كثير من الأوراق والمناقشات واللجان والبرامج، وفشلت في تحقيق الهدف الأساسي للدول الفقيرة والنامية، لأن الشركات والدول الكبرى ترفض الاعتراف بمسئوليتها عن الانبعاثات وتغير المناخ، لأن هذا الاعتراف قد يفتح الباب أمام الدول الفقيرة للمطالبة بتعويضات عن الخسائر والأضرار. وترفض الاعتراف بحقيقة أنه لا يمكن تحقيق خفض كبير في الانبعاثات خلال فترة زمنية معقولة، دون تقليل الاعتماد على النفط والوقود الأحفوري، وتهرب إلى الأمام، من خلال الترويج لأوهام حول سوق عالمية “خضراء” للتجارة في الانبعاثات، ومبادلة الديون بالانبعاثات، من خلال ما يسمى سوق سندات الكربون.

على مدى ثلاثة عقود تطالب الدول الفقيرة والنامية بالتعويض عن الخسائر والأضرار المرتبطة بتغير المناخ، لكن الدول الكبرى لا تعرض إلا الحوار، لكن الحوار لن يوفر الغذاء للجوعي ولا المأوى للمشردين.

فهل يكون مؤتمر شرم الشيخ خطوة للأمام نحو العدالة المناخية المفقودة؟ أم إعادة إنتاج لحوار جديد ومستمر؟!