الزمن الحاضر -لنا نحن المصريين- يشكل لحظة ممتدة بدأت من النصف الثاني من القرن الثامن عشر ومازالت مستمرة حتى اليوم والغد، هذه اللحظة -بهذا الاتساع- هي حاضرنا الذي نعيشه، هذه الفترة كلها هي حاضرنا الماثل تحت أقدامنا والظاهر أمام أبصارنا والذي يطرق أسماعنا والذي يحيطنا من كل جانب، هذا الحاضر وحدة واحدة وإناء واحد ووعاء واحد تنضوي فيه وتنطوي تحت جناحيه كافة مساعينا نحو الحداثة، بما في هذه المساعي من نقاط إضاءة خاطفة، وبما فيها من إخفاقات متكررة.

آفة الدولة الحديثة -والتي تجعلها في الحقيقة دولة غير حديثة- هي أنه من محمد علي باشا وحتى الرئيس عبد الفتاح السيسي دون استثناء واحد، كل من حكموا مصر كان لهم مدخل معروف الكيفية والتوقيت، لكن لم يحدث ولو في حالة واحدة أن كان معروفا كيف ومتى يكون مخرجه من السلطة، كلها مداخل لكن كلها بلا مخارج، فرغم أن زعماء الشعب الذين اختاروا محمد علي باشا شرطوا عليه الحكم بالعدل والشرع وإلا عزلوه فإنه -في الواقع- هو من تخلص منهم وتخلد في الحكم نصف قرن، وبقيت ذريته من بعد تحكم مصر ضيعة خاصة يملكونها ويحكمونها، ورغم أن دساتير النظام الجمهوري بعد ثورة 23 يوليو 1952 تجعل فترات رئيس الجمهورية محددة إلا أن ذلك لم يحدث على أرض الواقع، فالرؤساء من عبد الناصر إلى السادات إلى مبارك إلى السيسي يتلاعبون في الدساتير ويضربون الاستفتاءات ويزورون الانتخابات ويبقون في السلطة كما يشاؤون لهم إليها مداخل معروفة ولكن بدون مخارج معلومة.

غياب المخارج المعروفة من السلطة جعل الدولة الحديثة ليست أكثر من رهينة لفكر وتقاليد الحكم الديكتاتوري في العصور الوسيطة وجعلها تدور حول نفسها في متاهات تتكرر مع نهايات عهد كل حاكم من محمد علي باشا وحتى عبد الفتاح السيسي.

هذه المعضلة هي المشكلة بل العقبة الأكبر في طريق تطور الدولة المصرية التي تحمل لقب حديثة وهي -حتى الآن- أبعد ما تكون عن أي حداثة حقيقية وهي مرهونة للحكم الفردي المطلق.

***

والحداثة – في سياقنا المصري بدأت كمحاولات للتحرر من طغيان المزدوج العثماني – المملوكي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، ثم باتت الحداثة تعني التحرر من الطغيان الأوروبي الذي بدأ بالغزو الفرنسي 1798 بزعم تحرير مصر من المماليك، ثم الغزو البريطاني 1801م بدعوى تحرير مصر من الفرنسيين، ثم الغزو البريطاني الفاشل 1807، ثم الغزو الأوروبي المدني الاقتصادي الذي تسرب إلى كل شبر في مصر سواء الغزو المدني الفرنسي في عهد محمد علي باشا، أو الغزو من أكثر من اثني عشر جنسية أوروبية في عهود عباس الأول وسعيد وإسماعيل وتوفيق، وقد بلغ ذلك كله ذروته مع الاحتلال العسكري البريطاني 1882، ثم محاولات التحرر من طغيان الديكتاتورية التي جاءت بها ثورة 23 يوليو التي دامت سبعين عاما ومازالت سيدة الموقف رغم تاريخ طويل من الهزائم والإخفاق، ثم وصلت الحداثة إلى حائط مسدود مع إعلان جمهورية جديدة 2014 وما بعدها تعتنق أشد العقائد السياسية رجعيةً وتزمتا وتخلفاَ. فالجمهورية الجديدة لا تتورع عن قتل غريزة السياسة في المصريين، ومن تُقتل فيه غريزة السياسة تموت في داخله فكرة الحرية، ومن يفقد حريته يفقد معها عزة نفسه وكرامته فيسهل تطويعه وتركيعه حسب مشيئة الحكام ومصالحهم.

الحداثة المصرية بدأت قبل قدوم الفرنسيين 1789، كما بدأت قبل صعود محمد علي باشا للحكم 1805، وكل ما فعلته الغزوة الفرنسية هو أنها صنعت لحظة تحد استفزت استعداد المصريين لإنتاج حداثتهم، وكل ما فعله محمد علي باشا هو أنه قطع الطريق على الحداثة النابعة من صميم المصريين وأنشأ حداثة سلطوية حين أسس دولة يسمونها حديثة في حين أنها لم تكن أكثر من خلق دولة مملوكية عثمانية جديدة في شكل أوروبي وثوب عصري وتحت قناع فرنسي على وجه الخصوص.

في وقت مبكر بشكل متقارب مع الثورتين الأمريكية 1776 ثم الثورة الفرنسية 1789 كانت محاولة علي بك الكبير 1728 – 1773 للاستقلال بمصر عن السلطنة العثمانية 1768 مستفيدا من ضعف السلطنة أولا ثم من انشغالها في حروبها مع روسيا ثانيا.

المماليك الذين انتصروا على لويس التاسع -الحملة الصليبية السابعة- في المنصورة 1250 وكانت تلك لحظة صعودهم التاريخي على أنقاض الدولة الأيوبية، انهزموا هزيمتهم الحاسمة مرتين: مرة زالت فيها إمبراطوريتهم أمام غزو السلطان سليم الأول 1517، ثم مرة زالت فيها آخر أطلالهم أمام غزو نابليون بونابرت 1798، إلى أن احتواهم محمد علي باشا سواء بالقتل أو الاحتواء في مملوكيته الحديثة، فقد اشترى واقتنى موجات جديدة من المماليك كانوا -بعد عائلته- قادة جيشه وأركان دولته، حتى أن جيشه الذي كان الركن الركين فيما يسمى دولته الحديثة لم يكن أكثر من مؤسسة للعبيد، فالضباط مماليك بيض حصل عليهم بالشراء، والجنود عبيد سود حصل عليهم بالشراء أو بالإكراه، هذه المحطة من العبودية والاستعباد يمر عليها المؤرخون بقليل من الاكتراث حتى لا يحدث لهم اصطدام مع التناقض الحاد بين دولة اسمها حديثة في حين أن جيشها من العبيد، الأصل أن تتأسس الدولة الحديثة على مفهوم الحرية وأن المقاتل فيها حرا يدافع بحياته عن وطن جر يحيا فيه معززا مكرما، فهذا هو ألف باء الحداثة، لا يريد المؤرخون إرهاق أنفسهم بلغز دولة حديثة تقوم على العبودية والاستعباد.

المملوكية العسكرية والسياسية ظاهرة قديمة سابقة بعدة قرون على تأسيس دولة المماليك في النصف الثاني من القرن الثالث عشر، كما أن القيم والتقاليد والأخلاق والتراث العسكري والسياسي للمماليك مازال كامنا -بقوة- تحت جلد الدولة المصرية يجري في عروقها مجرى الدم، فما تقاليد الدولة العميقة وغموضها إلا بعض مما بقي حيا من تراث المماليك العسكري والسياسي، أي تراثهم في صنعة الحرب وصراع السلطة.

في كتاب “الأصول العرقية والرق في الشرق الأوسط” الطبعة الأولى 2019 عن المركز القومي للترجمة، بحث مهم كتبه الدكتور عماد أحمد هلال، عنوانه “الجيش الأول لمحمد علي: تجربة بناء جيش كامل من الرقيق” من ص 39 أنقل عنه ما يلي: “ظل حكام مصر طوال عشرة قرون يستخدمون الرقيق العسكريين، منذ أحمد ابن طولون (حكم مصر بين 868 – 884م) وحتى أواخر القرن التاسع عشر. وكانت جيوش الرقيق الأولى من السود، نتيجة قيام ابن طولون بتجنيد أربعين ألفا من العبيد السودانيين. وفي الدولة الإخشيدية (935 – 969 م) شكل الرقيق قطاعا مهما أيضا، خاصةً في عصر كافور الإخشيدي (ولد 905 م ومات 986 م) وكان كافور عبدا سودانيا ثم صار حاكما. وفي الخلافة الفاطمية 969 – 1171م استمر تجنيد الرقيق خاصة أثناء حكم المستنصر (ولد 1029 م – ومات 1094م) حيث شجعته والدته -وهي جارية سودانية- على تجنيدهم لما اشتهر عنهم من البسالة والصلابة وطاعة الرؤساء، وقد جند المستنصر نحو خمسين ألفا من الرقيق السودانيين في الجيش، ويقول المقريزي إنهم كانوا السبب الرئيسي في تدهور وسقوط الدولة الفاطمية عندما دخلوا في صراعات طويلة مع الجنود من أصول تركية في الجيش الفاطمي. وشهد عصر الدولة الأيوبية 1171- 1250 م التحول لتجنيد الرقيق الأبيض (المماليك) والذين نمت سلطتهم بشدة حتى نجحوا في إسقاط الحكم الأيوبي وتأسيس دولتهم. أي الدولة المملوكية 1250 – 1517م. وبعد سقوط دولتهم استمر المماليك يشكلون عنصرا قويا في الحامية العثمانية، وكانت البيوت المملوكية قد أصبحت السلطة الرئيسية في مصر عند قدوم الفرنسيين 1798”.

ثم يقول دكتور عماد أحمد هلال “لم تكن مذبحة محمد علي باشا للمماليك في القلعة علامةً على نهاية نظام الرق العسكري في مصر، وإنما كانت علامة على بداية شكل مختلف للرق العسكري -تجنيد جيش مكون بكامله من الرقيق المدربين وفقا للمعايير الأوروبية، وهو ما سبق تجريبه تحت مسمى “النظام الجديد” في جيش السلطان سليم الثالث (ولد 1761 وتم اغتياله 1808م).

هنا نصل إلى الجوهر المملوكي لما يسمى الدولة الحديثة، يقول دكتور عماد أحمد هلال: “استخدم محمد علي باشا الرقيق البيض والسود على السواء، كان ضباطه من المماليك البيض وجنوده من العبيد السود، بدأ في 1810 يؤسس بيته المملوكي الخاص، ثم تطورت الفكرة إلى جيش رقيق مختلط عام 1815 وهذا هو الجيش النظامي الأول، أما الجيش النظامي الثاني فقد بدأ 1824 وكان خليطا من المماليك والأتراك الأحرار ضباطا ثم العبيد السود والفلاحين المصريين الأحرار جنودا”.

وتحت عنوان “بيت محمد علي المملوكي 1810 – 1819” يقول دكتور عماد أحمد هلال: “ما إن فقد محمد علي باشا كل أمل في الحصول على ولاء البيوت المملوكية القديمة والقوات الألبانية التي جاءت معه، حتى قرر أن يتخلص من كليهما، وأن ينشئ بيته الخاص من المماليك والبكوات يدينون له بالولاء المطلق. وفي نحو 1810 بدأ في شراء المماليك الجدد بكل الطرق، وسمح لأفراد عائلته وكبار ضباطه، وموظفي حكومته، سمح لكل هؤلاء بشراء المماليك الخاصين بهم”.

ثم يقول: “وصل عدد مماليك محمد علي باشا خمسمائة مملوك، ومماليك نجله القائد إبراهيم ثلاثمائة مملوك، وحفيده عباس الأول مائة وخمسن مملوكا، ومحمد بك الدفتردار مائة وخمسين مملوكا، ومحرم بك مائة مملوك، وكان كثير من كبار الضباط والموظفين يملك كل واحد منهم بضع عشرات”.

وهكذا حلت مملوكية محمد علي باشا -تحت قناع الدولة الحديثة- محل مملوكيات على بك الكبير ومحمد بك أبو الدهب ومراد بك وإبراهيم بك والألفي والبرديسي وغيرهم ممن سبقوه طوال القرن الثامن عشر. صحيح أن دولة المماليك الصريحة عاشت فقط بين سقوط الدولة الأيوبية 1250 م والغزو العثماني 1517م أي ما يزيد قليلا على قرنين ونصف قرن، لكن وجودهم كظاهرة عسكرية وسياسية في مصر تمتد لألف عام، ثم إن تراثهم وقيمهم وتقاليدهم في الصراع على السلطة لم تزل قائمة حتى اليوم والغد، هذه القيم يلخصها الدكتور قاسم عبده قاسم في ثلاث: عسكرية الطابع، إقطاعية البناء، طبقية التوجه. ص 7 من كتابه “في تاريخ الأيوبيين والمماليك” 2015 دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية.

***

حداثة محمد علي باشا – وهي استعمار عائلي محض – أعاقت حداثة المصريين وهي تطور داخلي محض حمل استجابة الوعي المصري لمجموع التحديات التي انفرضت عليهم من ضعف العثمانيين وفساد المماليك وقد بلغ التحدي التاريخي ذروته مع الغزو الفرنسي الذي كشف ضعف العثمانيين كما كشف تحلل المماليك وفتح نافذة أطلت منها قدرات المصريين وانبعثت منها روح حديثة تتحرر من الاستسلام لأحكام الزمن وتعاند الظلم وتسعى لإثبات ذاتها وحماية مصالحها وكانت هذه هي الحداثة البازغة، كانت لها جذورها وأصولها قبل قدوم الفرنسيين، فهي لم تولد بين يوم وليلة، لكنها نضجت وتبلورت خلال 38 شهرا هي فترة الغزو ثم الحكم ثم الجلاء الفرنسي عن مصر، هذه الشهور الـ 38 سمحت لروح الحداثة المصرية أن تولد في صدام مع الوجه الاستعماري للثورة الفرنسية ولم يكد يمر عليها عشر سنوات، ثم من روح المواجهة مع قائد استعماري في دهاء وإجرام وقسوة نابليون بونابرت، ثم من روح الانغماس في الصراع الدولي بين فرنسا الثائرة وخصومها من الحلفاء الأوروبيين روسيا والنمسا وتركيا وبالطبع بريطانيا، صحيح كان لفرق المماليك المتصارعة على السلطة علاقات وولاءات مع كل تلك الإمبراطوريات، كان منهم موالون لروسيا أو موالون لتركيا أو موالون لبريطانيا أو كانوا يتقلبون في الولاءات المتناقضة حسب مصالحهم وموازين قوتهم ونقاط ضعفهم، حداثة المصريين كانت وليدة التطور الحضري في القرن الثامن عشر حيث نشأت طبقة كبيرة من الصناع والتجار، تصنع دون مركزية بل في كل مدن مصر قبلي وبحري العديد من السلع والمنتوجات، ثم تتاجر عبر البحرين الأحمر والمتوسط في أسواق تمتد ما بين الهند وأوروبا، هذه الطبقة الحضرية من صناع وتجار كان ثمة ما يوازيها من تطور سواء في الأزهر -كمعهد علمي ومركز ثقافي- أو في الصوفية أو في الانشغال بالشؤون العامة على عكس ما كان مألوفا بين المصريين لعدة قرون. ولدت الحداثة المصرية البازغة في صدام مع الثورة الفرنسية التي جاءتنا عدوانية استعمارية إجرامية غازية تحتل وتقتل وتسفك الدماء وتحرق القرى وتنهب الأموال ضرائب وغرامات.

وبما أن الحداثة تعني -ضمن ما تعني- الحرية والمسؤولية، فإن الغزو الفرنسي كان الفرصة التي قرر فيها المصريون أن يدفعوا ثمن حريتهم وأن يتحملوا مسؤوليتهم كشعب ناضج راشد حر مستقل عن المماليك والعثمانيين والفرنسيين، في تلك اللحظة – على مسافة عشر سنوات فقط من الثورة الفرنسية وأقل من ربع قرن على الثورة الأمريكية – تفتحت في ضمائر المصريين روح الثورة بمعناها الحديث سبع  مرات على الأقل: 1 – المرة الأولى في الحشد لحرب نابليون في إمبابة. 2 – المرة الثورة على نابليون فيما عرف بـ ثورة القاهرة الأولى يوم الأحد 21 أكتوبر 1798. 3 – المرة الثالثة في ثورة القاهرة الثانية من 20 مارس حتى 21 إبريل 1800 وكان نابليون قد رحل إلى فرنسا وخلفه كليبر. 4 – المرة الرابعة في ثورة المصريين على المماليك 1804. 5 – المرة الخامسة ثورة المصريين على الوالي التركي 1805. 6 – المرة السادسة اختيار المصريين للحاكم بإرادتهم وليس بإرادة السلطان العثماني 1805. 7 – المرة السابعة حيوية المصريين في وجه الغزو البريطاني 1807.

كان المصريون في قلب التاريخ، يصنعون الحدث، ويتحررون من رهن الماضي، ويشقون طريق المستقبل، ولم يكن صعود محمد علي باشا إلى الحكم بإرادتهم إلا ثمرة هذه الحيوية المدنية والشعبية الفائقة، جاء محمد على باشا إلى الحكم والمصريون في قلب الحدث، يسيطرون على اللحظة، ويتسيدون الموقف، وتولد كلمتهم، وتُصنع بالدم والروح إرادتهم، وكل ما فعله الباشا -بالتدريج- هو أنه استبعد المصريين من قلب الحدث إلى هامشه ثم استبعدهم من هامشه ليرتدوا إلى ما قبل نهضتهم البازغة، وليفرض عليهم طبعة جديدة من المملوكية العثمانية تحت دهان فرنسي وقناع أوروبي.

لم يكن محمد علي باشا -وحده- هو من جاء والمصريين في قلب الحدث ثم أخرجهم من الحدث الثوري ثم استبعدهم منه ثم همشهم على الرصيف، فكذلك فعل الاحتلال البريطاني 1882 جاء والمصريين في قلب الحدث الثوري فكسرهم ثم خدرهم ثم قهرهم ثم حاول تطويعهم، وكذلك فعل الرئيس جمال عبد الناصر جاء والمصريين في قلب الحدث الثوري فتمركز بشخصه -فقط- في قلب الحدث وأخرج المصريين منه إما إلى الصمت أو مقاعد المتفرجين، وكذلك فعل الرئيس عبد الفتاح السيسي جاء إلى الحكم والمصريين في قلب الحدث الثوري فحكمهم بالحديد والنار وفرض عليهم الخوف ثم الصمت وأغرق البلد ديونا وأرهق الشعب سجونا وارتدت الدولة الحديثة -في عهد الجمهورية الجديدة من 2014 وما بعدها- إلى دولة قرون وسيطة يسودها ظلام سياسي تحت ظلم اقتصادي وقهر اجتماعي ولا يجرؤ واحد على الرفض ولا الاحتجاج ولا الاعتراض، انتكست الدولة الحديثة إلى ما قبل كافة ثورات المصريين التي وقفت تتحدى نابليون بكل عبقريته وجبروته ودهائه وإجرامه كذلك، ثم وقفت تتحدى خليفته كليبر، ثم وقفت تتحدى المماليك، ثم وقفت تتحدى الوالي العثماني، ثم فرضت كلمتها واختارت حاكمها، ثم وقفت في وجه الاحتلال البريطاني وسلالة محمد علي باشا ثلاث مرات في الثورة العرابية 1881 – 1882 ثم في ثورة 1919 ثم  23 يوليو 1952، حتى وصل نضج المصريين واحدة من أعلى ذراه السامقة في  الثورة الشعبية المجيدة في 25 يناير 2011 ضد ستين عاما من طغيان وفساد دولة الضباط من عبد الناصر فالسادات فمبارك.

وصول محمد علي باشا 1805 كانت نقطة فاصلة بين حداثتين، حداثة الشعب وحداثة المماليك الجدد الذين جاء بهم، كما أن دخول الاحتلال البريطاني القاهرة منتصف سبتمبر 1882 كان فاصلا بين حداثتين، حداثة وطنية وحداثة استعمارية، كما كان وصول جمال عبد الناصر بعد ثورة 23 يوليو 1952 فاصلا بين حداثتين، حداثة الحرية وحداثة الطغيان، ثم كان الختام في وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي في 2014 إذ انطفأت ما بقيت من أنوار الحداثة الآفلة الذابلة، انطفأت بالكلية. فالحداثة تصل إلى نقطة الصفر عندما تكون جملة الحريات العامة التي يتمتع بها الشعب عند نقطة الصفر.

***

اللحظة التأسيسية في الحداثة المصرية كانت عند بدايتها، عند نقطة انطلاقها من جراب التاريخ ومن عقال الزمن، عند الصدام الجبار بين ثورة المصريين والثورة الفرنسية، عند لقاء المواجهة بين عمر مكرم ومن معه ونابليون بونابرت ومن معه سواء في الحرب على جبهات القتال أو في الثورة عبر الشوارع والميادين وفي قلبها الأزهر الشريف وكافة مصر من قبلي وبحري وقروي وحضري، فغير صحيح تماما أن الثورات كانت فقط في العاصمة، ومن يحصر عدد المدن والقرى التي فرض عليها نابليون ثم كليبر ثم مينو غرامات وعقوبات وصلت إلى حرق القرى بكاملها يعرف كم وكيف كانت الثورة غير محصورة على العاصمة، إذا كان للحداثة المصرية رمز يشخص في بشر فهو -بالقطع- عمر مكرم 1750 – 1822 وليس محمد علي باشا على الإطلاق، حداثة محمد علي باشا استبعدت المصريين، وجاءت بمماليك جدد، ورهنت مصير البلد لصراعات القوى الأوروبية، وحولها إلى ضيعة خاصة يحكمها غير الراشدين من سلالته تحت كفالة رعاتهم الأوروبيين.

الإسهام الأكبر لمحمد علي باشا في حداثة مصر أنه انحرف بها انحرافا ضخما خرج بها عن مسارها الوطني إلى سكة استعمارية بدأت باستعمار عائلي ثم نافسهم استعمار أوروبي مدني ثم استوعب الجميع احتلال بريطاني عسكري دام سبعة عقود من الزمن.

عندما يُكتب التاريخ على نحو مختلف عما هو سائد فسوف تبدأ الحداثة -كحركة تحرر- من كفاح عمر مكرم ومن معه  وليس من استعمار محمد علي باشا وسلالته. تبدأ من لحظة قاد عمر مكرم المقاومة ضد الاحتلال ثم الثورة ضد طغيانه ثم الثورة على المماليك ثم الثورة على العثمانيين وكل ذلك من على أرضية الاستقلال عن الحكام والاستغناء عنهم وعدم انتظار نجدتهم، في هذه اللحظة كان عمر مكرم ومن معه يؤسسون مسارا لتاريخ مصري نابع من جهد المصريين فليس مسارا مملوكيا ولا عثمانيا، هذه هي روح الحداثة التي انبثقت من روح الكفاح النبيل الذي قاده عمر مكرم.

في ص 263 وما بعدها من الجزء الثاني من كتابه المهم “تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر” الطبعة الخامسة عن دار المعارف، يتحدث المؤرخ عبد الرحمن الرافعي عن قادة الشعب وزعمائه الذين صنعوا اللحظة النابضة بروح الحياة والقوة والثورة والاستقلال في وجه الاحتلال ثم الحكم الفرنسي حتى رحل عن البلاد في خريف 1801، اختار الرافعي ثمانية زعماء هم عمر مكرم، ثم الشيخ السادات، ثم الشيخ عبدالله الشرقاوي، ثم الشيخ محمد الأمير، ثم الشيخ مصطفى الصاوي، ثم الشيخ محمد المهدي، ثم السيد أحمد المحروقي كبير تجار مصر، ثم بعدهم يتكلم عن ظهور محمد علي باشا. نكتفي هنا بموجزين، الأول عن عمر مكرم، والثاني كلمة عن الزعماء في جملتهم.

1 – عن عمر مكرم يقول الرافعي: “هو أكبر شخصية ظهرت بين رجالات مصر في فجر النهضة القومية، كان أكبر زعماء الشعب نفسا، وأكثرهم شجاعة وإقداما، وأعظمهم نفوذا، وأرفعهم كلمةً، فلا غرو أن نعده زعيم الزعماء ورئيس الرؤساء. هو أسيوطي المولد والنشأة، في أسيوط كان مولده ونشأته الأولى، وكان نقيبا للأشراف قبل مجيء الحملة الفرنسية، فهو -بحكم توليه النقابة- كان في مقدمة رجال مصر منزلةً وجاها. فلما جاء الفرنسيون ظهرت شخصيته الكبيرة ونفسيته القوية بما دعا الشعب إليه من التطوع للقتال وما بثه في نفوس الجماهير من روح المقاومة، وينقل عن الجبرتي القول بأن السيد عمر افندي نقيب الأشراف صعد إلى القلعة فأنزل منها بيرقا -بيرق معناها علم أو راية- كبيرا أسمته العامة “البيرق النبوي” فنشره بين يديه من القلعة إلى بولاق وأمامه ألوف من العامة، ويعلق الرافعي على تلك الواقعة بالقول “فتأمل في حالة نقيب الأشراف النفسية وهو ينزل من القلعة إلى بولاق ناشرا علم الجهاد يشق المدينة من شرقيها إلى غربيها وحوله الألوف من الناس ذاهبا بهم إلى بولاق ثم إلى إمبابة حيث المعركة، إن هذه الحالة النفسية هي أرقى ما يتصف به زعماء الشعب في ساعة الشدة.

ثم يقارن الرافعي بين عمر مكرم في المقاومة ضد الغزو الفرنسي ووقائع الثورة الفرنسية ذاتها فيقول “وهي -يقصد دعوة عمر مكرم المصريين للمقاومة- لا تقل نُبلا عن الدعوة للتطوع العام التي بثها زعماء الثورة الفرنسية في نفوس الشعب الفرنسي حينما نادوا “أن الوطن في خطر”. ثم بعد نجاح الغزو هاجر إلى الشام، فقد أنفت نفسه الأبية أن يعيش تحت الحكم الفرنسي، ثم شاءت المقادير أن يلقاه نابليون في يافا عند حملته على الشام فعامله كبطل ورده معززا مكرما إلى مصر، اعتزل في بيته، حتى اندلعت ثورة القاهرة الثانية 20 مارس – 21 إبريل 1800 فشارك في قيادتها، فلما نجح الفرنسيون في إخماد الثورة هاجر -للمرة الثانية- إلى الشام، وفي كل مرة يهاجر فيها إلى الشام كان الفرنسيون ينهبون أمواله ويصادرونها، ثم عاد بعد جلاء الفرنسيين، وتزعم الثورة ضد المماليك 1804، ثم الثورة ضد الوالي العثماني 1805، ثم تولية محمد علي باشا.

2 –  ثم بعد حديث عن كل من الزعماء الثمانية يختتم الرافعي بالقول: “أولئك هم قادة الشعب في فجر النهضة القومية، فهم دعاة التطور السياسي الذي شهدته مصر في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وقام على أكتافهم أكبر انقلاب -يقصد أكبر تغيير- في نظام الحكم، فهم الذين أعلنوا حق الشعب في تقرير مصيره، بخلع الوالي التركي وإسناد زمام الحكم إلى عبقرية محمد علي باشا” انتهى الاقتباس من الرافعي ص 286 من الجزء الثاني من تاريخ الحركة القومية.

***

ما فعلته -عبقرية محمد علي باشا حسب وصف الرافعي- لم يكن غير خنق النهضة القومية في فجرها، أو بتعبير الشارع فاروق جويدة في إحدى قصائده الشعرية، كانت عبقرية محمد علي باشا هي خنق خيوط الفجر في رحم الليالي، قلبها من نهضة قومية إلى استعمار عائلي تمت بلورته في ضيعة خاصة له ولذريته من بعده لمدة مائة وخمسين عاما من عمر مصر والمصريين، كانت مصر والمصريون في خدمة أطماع محمد علي باشا ومصالح ذريته ولم يكن محمد علي باشا وذريته في خدمة مصر والمصريين، وهذه الأخيرة هي جوهر وحقيقة الحداثة التي أسسها محمد علي باشا.

خنق خيوط الفجر في رحم الليالي -بتعبير فاروق جويدة- كان هو طبع الحداثة المشوهة -الحداثة ضد الشعب- التي جاء بها محمد علي باشا ثم جاء بها الاحتلال البريطاني ثم جاءت بها ثورة الضباط الأحرار ثم جاءت بها الجمهورية الجديدة فيما بعد ثورة 30 يونيو 2013، كلها – دون استثناء حداثة ضد الشعب، بعكس اللحظة الحداثة الثورية الأولى عند نهاية القرن ال 18 ومطلع القرن الـ 19.

فدرات المصريين تفتحت وازدهرت وهم يكافحون الاحتلال الأوروبي، يكافحون احتلالا باسم الثورة الفرنسية يقوده واحد من عباقرة الحرب والحكم في التاريخ هو نابليون بونابرت، ثم يكافحون احتلالا من أعتى إمبراطوريات التاريخ وهي بريطانيا الفيكتورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس، عاش المصريون لحظات كفاحهم المجيد في مواجهة الاستعمار، بينما انكتب عليهم الخوف ثم الخنوع ثم الخضوع، في عهود ما يسمى -زورا- الدولة الحديثة على يد محمد علي باشا، ثم في عهد ما يسمى -زورا- النظام الجمهوري على يد الرئيس عبد الناصر.