مخطأ من كان يتصور أن حدث كبير بوزن مؤتمر المناخ الذي يعقد في شرم الشيخ سيمر فقط كحدث بيئي يخص التغيرات المناخية، إنما بالتأكيد كانت ستحضر السياسة ليس فقط فيما يتعلق بطرح سياسات ناجعة لمواجهه الانبعاث الحراري وتبني أخرى عادلة من أجل الحفاظ على كوكب الأرض، إنما سيتطرق أيضا للأوضاع السياسية والحقوقية في مصر.

اقرأ أيضا.. الديمقراطية البرازيلية تضمن تداول السلطة

والحقيقة أن الملف الحقوقي وخاصة قضية الحبس الاحتياطي مثلت محور الجدل السياسي الذي شهدته مصر مؤخرا وطالب كثيرون بضرورة إغلاق هذا الملف جذريا بتعديل القانون وعدم اعتبار الحبس الاحتياطي عقوبة في ذاتها إنما هو إجراء احترازي يمكن أن يتخذ بحق شخصيات تمثل تهديدا أمنيا حقيقيا ولفترة لا تتجاوز ثلاثة أشهر.

ورغم التأثير الإيجابي الذي أحدثه الإفراج عما يقرب من ألف محبوس احتياطي في الأوساط السياسية ولدى قطاع من الرأي العام، واستبشر كثيرون خيرا بقرب إغلاق هذا الملف، إلا أن توقيف المئات مرة أخرى ومنهم صحفيين يعملون في مؤسسات حكومية (منال عجرمة وآخرين) أصاب الكثيرين بالإحباط وشكك في جدية السلطة في إغلاق هذا الملف وحتى جدوى الاستمرار في الحوار الوطني.

والحقيقة أن التفاؤل والترحيب الذي عبر عنه كثيرون عقب استدعاء عدد من قيادات المعارضة في إفطار العائلة المصرية وترتب عليها حوار وطني بين قوي “الداخل” أسفر دون أي تدخلات خارجية عن الإفراج عن أعداد من المحبوسين، وحمل رسالة قوية مفادها بأن مصر قادرة على التقدم في ملف حقوق الإنسان لدوافع وطنية داخلية تتعلق بحرص مطلوب لأي نظام سياسي على احتزام حقوق مواطنيه وكرامتهم.

حمدين صباحي والرئيس السيسي في إفطار الأسرة المصرية

ومن هنا فإن إضعاف “تحالف الداخل” عزز من “نفوذ الخارج”، وإن خطورة البطيء الذي وصل لحد التراجع في ملف الإفراج عن المحبوسين في قضايا رأي  جعل الخارج يتقدم في شرم الشيخ ويصبح قادرا على فرض وحماية نمط من المداخلات والمؤتمرات الصحفية التي توجه نقدا قويا للنظام السياسي المصري وخاصة في الملف الحقوقي، وهو مشهد مستحيل حدوثه في القاهرة وسط تجمع سياسي معارض لقوى “الداخل” وهو أمر لافت ورسالته وتداعياته ستكون في غاية الخطورة خاصة حين زاد البعض من ترديد نغمة إن أي تحسن في مجال حقوق الإنسان طريقه الضغوط الخارجية وليس مطالب الداخل، والمحزن أننا بدأنا خطوات من أجل تحسين أوضاع حقوق الإنسان بإرادتنا الداخلية وبمشاركة قوى الداخل وللأسف تجمدت ولم تتطور بالصورة المطلوبة.

والحقيقة أن ملف سجناء الرأي بما فيهم أشد من نختلف معهم يجب أن يغلق، وإن قضية علاء عبد الفتاح لا يحكمها الاتفاق مع أراءه ولا مسيرته، إنما احترام قيمة عدم المساس بكل صاحب رأي وإن العقوبة السالبة للحريات تكون فقط عند التحريض على العنف أو ممارسته، ولا يحكمها أي أهواء سياسية أو ترصد واستهداف شخصي.

والحقيقة أن مشكلة الخطاب الرسمي، حتى لو كان “برلمانيا” في التعامل مع قضية حقوق الإنسان، والتي أتضح جانب منها في شرم الشيخ أنه صدى صوت لما يقوله الإعلام في الداخل، في حين أن المطلوب هو مخاطبة الخارج وليس تكرار الكلام الموجه نحو الداخل.

إن قضية احترام حقوق الإنسان لا يجب أن تقوم بها أي دولة من أجل عيون أو ضغوط الخارج إنما يجب أن تعكس قناعة وطنية حقيقية، وأن من حق مصر أن تدافع عن سيادتها الوطنية وأن تحترم خصوصيتها الثقافية، كما من حق الخطاب الرسمي أن يعترض على بعض أو كثير مما تقوله منظمات حقوق الإنسان، إنما ليس على مبدأ حقوق الإنسان كقيمة عليا، فيجب ألا نفتح أي باب لأن يتصور البعض أن الخصوصية والسيادة تعنى اعتقال الناس بدون وجه حق، وإيذاءهم في أرزاقهم وعملهم عقابا لهم على آرائهم السياسية السلمية، فقيمنا الدينية وليس الغرب أو الشرق تعلمنا دائما احترام الإنسان كما جاء في قول الله تعالى: «لَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ”.

ومن هنا فإن وجود آلاف المحبوسين احتياطيا في قضايا رأي سياسي جعل حديث الدولة عن حالات تحريضية سيدينها أي مجتمع ديمقراطي ودولة قانون، غير مقنع ولا مؤثر لأن الصورة الذهنية التي ترسخت تقول إن الناس لا تعاقب عن جرائم ارتكبتها إنما على آراء معارضة قالتها.

والحقيقة أن الملف الحقوقي يحتاج إلى مراجعة جذرية ليس فقط من زاوية الإجراءات إنما أيضا من زاوية المفهوم الذي يحكم أداء الحكم في هذا الملف، لأن الفكرة المتداولة في الخطاب الرسمي أن حقوق الإنسان لا تتعلق فقط بالحقوق المدنية والسياسية إنما أيضا بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وقضايا الصحة والتعليم والسكن وغيرها من الحقوق الاجتماعية، وهي فكرة بديهية لا خلاف عليها ونصّت عليها المواثيق الدولية التي وقعت عليها مصر.

ورغم أن مصر لم تحقق النجاح المطلوب في هذه الملفات، وذكر الرئيس في المؤتمر الاقتصادي حجم الصعوبات التي تواجه ملفي الصحة والتعليم، فإن الفرصة الحقيقية ستكون بتحسين الملف الحقوقي الذي سيعنى تحسين صورة مصر الخارجية وتفعيل قوتها الناعمة في الثقافة والصحافة والإعلام بأقل تكلفة ممكنة، وهو لن يحدث إلا بمواجهة الجوانب السلبية الجسيمة في ملف حرية الرأي واحترام حقوق الإنسان.

ملف حقوق الإنسان لم يعد ملفا محليا إنما هو ملف إنساني وعالمي يتبناه البعض لأهداف نبيلة تتعلق بالدفاع عن قيمة عليا تتمثل في احترام حقوق الإنسان، ويوظفه البعض الآخر لأهداف سياسية، وفي حالة مصر فإن المطلوب من الحكومة والنخب والشعب أن تؤمن بالقيمة العليا لاحترام كرامة الناس وحقوقهم دون نقاش، حتى لو اختلفنا في تقييم الواقع الحالي والأولويات، إلا إنه دون حل جراحي سريع لطريقة التعامل مع ملف حقوق الإنسان، فسنستمر نخاطب أنفسنا، حتى لو في شرم الشيخ.