صباحًا يصحو والدي، يعد إفطارًا سريعًا لنفسه قبل أن يذهب إلى عمله، فهو لا يقوم بإيقاظ أمي، يتركها تستكمل حلمًا قد لا يعرف عنه شيء، وفي بعض الأيام حين تطهو أمي طعامًا لا يُعجبنا، كان يترك العنان لخياله وإبداعه ويضع لمساته فيتحول الأكل الذي كنا نرفضه إلى وجبة شهية، وذات يوم مرضت أمي وكنا صغارًا، فكان رحمة الله عليه، يقوم بالطهي، وتنظيم المنزل حتى مسح الأرض، كان يفعل كل ذلك كسلوك طبيعي، كبرت وأنا أعرف أن الزواج مشاركة مهما كانت الفروق بين الزوجين، لكنني أيضًا عرفت من الحكايات التي تشاركتها مع صديقاتي وسمعت بها أن ما كان يفعله أبي ليس السائد والطبيعي، بل أنه كان استثناء.

لكن سؤالًا ظل يطرح نفسه هل الحب يُضعِفنا أم نقوى به؟ وكيف يدمرنا الحب؟

اقرأ أيضا.. لماذا لا يدوم الود؟

تنظير الحب

لم يكن سلوك أبي غريبًا، فلابد أنه تعلمه في بيت والده، وشاهده حوله، فنحن نكتسب الخبرات بالمعايشة، ولا شك أن أزواج كُثر نعموا بفكرة السكن والمودة والتي وصف الله عز وجل بها علاقة الزواج، فقد كان الحب في ذلك الزمن فعل أكثر من القول، بينما الآن أخذ الحب طريقه نحو اللفظ والتنظير أكثر من الفعل، استهلاك الحب في الأقوال أهدر طاقة المحبين، فعزت الأفعال المؤكدة أو النافية لشعور الحب، مع تطور العصر والإعجاب بالكلام خرج الحب إلى سماء أرحب، سماء صنعتها الأغاني العاطفية، وتصورات الفتيات عن الحب والحبيب، ذلك الذي يقول فيها شعرا، ويقضيان الوقت في تبادل الكلمات والجمل التي ستصلح للاقتباس فيما بعد، العالم يتحول نحو الظواهر الصوتية والكلامية ومعه يتحول الحب، ليس فقط الحب بين رجل وامرأة لكنه الحب في مجمله، فظهرت التجارب الحزينة، والتخلي الموجع، وننسى أن الإنسان طاقة، والحب طاقة فإذا أهدرنا طاقة الحب والإنسان في جمل حوارية متى يأتي الفعل؟

وقديمًا قال الأجداد: “اللي بيعمل ما بيتكلمش”، فهل سترضى الفتيات بالحبيب الصامت؟ أو قليل الكلام؟ وهل سيقبل الزوج بالزوجة التي تعمل كل ما يدل على الحب لكنها لا تقول له كلمة حلوة؟

ما يحدث الآن إحدى الإشكاليات التي نغض الطرف عنها، وكل الطرفين بحاجة إلى الحب في صورته النظرية الكلمات الجميلة والأفعال الرومانسية، بينما هناك قائمة اتهام معدة بالأفعال التي لم تتم وهي القائمة التي تخرج عند الحاجة، بينما ينسى الطرف الذي يُشهر سلاح الاتهام بالتخلي، أن اختياراته الأولى كانت مع التنظير والكلام، فنحن ننسى دومًا أن نتائج العلاقات مسئولية مشتركة، حتى لو كان أحد الطرفين مسئوليته تقع في صمته وسلبيته، فهو أيضًا مسئول عن وقوعه ضحية التخلي.

التكافؤ وقود الحب

تشتعل المخيلة العامة بقصص حب لأمير أحب فتاة فقيرة، وست الحُسن التي أحبت حسن الجنايني، وكلها قصص لأيقونات حب، ودوافع للأمل بأن الحب وحده هو الريح القادرة على دفع سفينة العلاقة والاستمرار، وإن كان الحب في تلك القصص ينجح، فنحن لم نقف مرة لنُفكر ماذا حدث بعد الزواج، لا تأتي مثل هذه الأفكار أو الأسئلة لأنها بالتأكيد ستُفسد الحكاية وتقتل رومانسيتها والأمل المشبع بها، لكن الواقع أكثر خيالًا من القصص، ويملك آلاف المواقف والقصص.

التكافؤ بين الطرفين لم يعد رفاهية، لكنه نصل حاد يمكن أن يقتل ببطء، إذ لم ينتبه الطرفين، اختلاف الدرجة بين الشريكين لم يعد بعدًا رومانسيًا يؤكد القوة الحب، والاختلاف ربما يكون اختلاف في المستوى الاجتماعي، أو المستوى الثقافي، وهذه اختلافات لابد أن ينظر لها الطرفين بجدية حقيقية عند بدء العلاقة أو السعي لاستكمالها.

أكبر مشكلة قد تنتج عن اختلاف المستوى الثقافي والاجتماعي بين الطرفين هو الثقة، وهنا الثقة لها شقين:

الأول: ثقة الفرد في نفسه إذ أن إحساسه بأنه أقل من شريكه يدفعه للتسفيه من كل فعل يقوم به الطرف الآخر، وفي بعض النوايا السيئة قد يدفعه إلى السقوط والفشل حتى تقل الفروق بينهما.

الثاني: الثقة في الشريك فقد يشعر الطرف الأقل أن شريكه عندما يواصل الصعود فإنه سيتخلى عنه، ومن ثم فإنه يسعى لتقليل الفروق بعرقلة شريكه، ودفعه للفشل، أو التقليل من منجزه أو التسفيه من أشكال التمييز الثقافي أو الاجتماعي.

المستوى الثقافي والاجتماعي له انعكاسات على المستوى المادي بالطبع، لكن أصعب الجراح الناتجة من عدم التكافؤ حين يكتشف أحد الطرفين أن حبيبه وشريكه كان يؤذيه، حتى لو كان هذا الأذى بدافع أن تستمر العلاقة، لكنها للأسف لا تستمر إلا في استثناءات قليلة.

والسبيل الوحيد لنجاح مثل هذه العلاقات وجود الثقة في النفس والثقة في الشريك عند الطرف الأقل، وطرح أشكال عدم التكافؤ للمناقشة لإيجاد مناطق مشتركة وأوجه تمييز للطرف الأقل، على أن يتم ذلك بعد أن تهدأ شعلة البدايات وما يُصاحبها من تهور واندفاع.

الحب ضعف أم قوة؟

كل شيء في الحياة له أوجه عِدة الوجه الظاهر منه يعتمد على زاوية الرؤية وكيف نستخدمه، والحب مثله مثل العديد من المشاعر التي نشعر بها نعيشها، يمكن أن يدفع صاحبه للتقدم وتحسين نفسه ومستواه سواء كان مستوى اجتماعي أو ثقافي أو مادي، وحين يكون الحب عبء على أحد طرفيه، ومظهر للضعف والتراجع فإنه يُصبح ضعف لابد أن ينفض الإنسان نفسه من العلاقة فورًا.

دور الحب أن يجعل الحياة أجمل، فإذا لم يتحقق ذلك كان ضعفًا ونقيصة، وكان على الطرف الذي تحولت حياته للأسوأ أن يبتعد بأقصى ما يمكنه من سرعة، وإلا سيتحول الحب مع الوقت إلى كراهية وهذا هو أسوأ تحولات الحب.