لا يحتاج الشيخ الشعراوي -رحمه الله- إلى تعريف يُميِّزه عن غيره ممن يحملون الاسم نفسه؛ إنه حاضر بشكل طاغٍ، حتى إن الذين يشتركون معه في الاسم هم من يحتاجون إلى ما يميزهم عنه، إنه لا يلتبس بغيره من الأعلام، فإذا قال كاتب إنه بصدد الحديث عن الشيخ الشعراوي فلن يلتبس الأمر على قرائه، ولن يختلط الاسم لديهم بغيره من الأسماء.

ولا يعود هذا الحضور الرّاسخ إلى رواج صور الشيخ كما لم يحدث مع صور شيخ آخر؛ فأنت تجدها في كل مكان، ومن الصعب أن ينتهي يومك دون أن تشاهدها على إحدى الفضائيات التي تبثّ أحاديثه في مواعيد منتظمة، أو على جدار أحد أصدقائك على فيس بوك، أو على زجاج سيارة نقل عام.. إلخ.

كما أنّ هذا الحضور لا يعود إلى ميزة خاصة في ملامح وجه الشيخ، ولكنه يعود لما تُمثّله صورته أو تستدعيه في ذهن الناس من دلالات؛ فقد فارقت صورته الفوتوغرافية حضورها الأيقوني من حيث دلالتها على شخص الشعراوي الذي ولد في مصر عام 1911 وتوفي بها 1998، إلى حضور آخر أكثر رمزية وتركيبًا؛ لقد باتت رمزًا على مجموعة من القيم والمواقف والأفكار الأساسية.. وصورة الشيخ تختزل هذه القيم وتلك الأفكار وتنوب عنها؛ فحين يضع أحدنا صورة الشيخ على جدار صفحته على فيس بوك، فهو لا يضع مجرد صورة، وإنما يعلن عن انتماء فكري وثقافي لمنظومة محددة من القيم والأفكار.. وهذه الإنابة لا تحدث إلا حين يغدو المرء علامة رمزية يتحد فيها الدال بمدلوله والعلامة بما تشير إليه، إذا استخدمنا مصطلحات اللسانيين.

ولكن الكلام السابق لا يقتصر على الشعراويّ وحده، فيمكنك مثلا أن تجريه على صورة رجل قوي ّالحضور مثل “طه حسين” (1889-1973م)؛ فصورته تستدعي بدورها مجموعة من القيم والأفكار التي قد تتعارض كثيرًا مع ما تمثله صورة الشعراوي، ويمكنك أن تقترح صورًا أخرى لكتاب ومفكرين ينتمون إلى كلا التيارين: المحافظ والتجديديّ أو التنويريّ كالعقاد وأحمد لطفي السيد أو غيرهما.

فما الذي يُميّز صورة الشعراوي عن غيرها إذن؟

لا شك أن امتياز الشعراويّ هو في قاعدته الجماهيرية، أو في رواج خطابه بين شرائح واسعة من مختلف الطبقات، وهم يحتفون بصورته لأنهم يقدرون تلك القيم التي يُمثّلها.. وهذا التأثير غير المسبوق لا يعود -إذا دققت النظر- إلى جماهيرية التليفزيون وانتشاره في أوساط المتعلمين والأميين على حد سواء، كما أنه لا يعود إلى طبيعة الموضوع الذي يتناوله الشيخ فحسب؛ فما أكثر المشايخ الذين يطلون من التليفزيون ويحدثون الناس في أمور دينهم، بل إنهم يفعلون ذلك من الزاوية نفسها التي يتكلم منها الشعراويّ؛ أيّ تفسير القرآن وما لديهم من خواطر حول آياته المحكمات، ولكنهم لم يصبحوا علامات دالة على ما يمثله الشيخ، ولم يصبحوا -في تصور المشاهدين- جزءًا في تلك السلسلة التاريخية الممتدة من أعلام التفسير القرآني على نحو ما أصبح عليه.. ومن ثم فإن صورهم الفوتوغرافية لا تمثل أيّ دلالة رمزية في أذهان المتلقين والمشاهدين، ولا تشير إلى شيء أبعد من وجودهم التاريخي.

ولا يمكنك أن تعزو هذا الحضور إلى جهة ما؛ فحضوره حرّ إلى أقصى حدّ؛ فلا تقف وراءه جهةٌ أو جماعة ما تروّج له، على الأقل بعد مرحلة البدايات.. لقد ترسّخ حضوره في الوجدان الجمعيّ وبات إمام الدعاة وشيخ المشايخ. وبات هو نفسه أداة ترويج لكثير من الأعمال والأنشطة التي تحرص على أن ترتبط باسمه وتُقدّم نفسها للجماهير استنادًا إلى صورته، ولا أريد هنا أن أذكرك بوقائع معينة، بقدر ما يشغلني التأكيد على استمرار الفكرة، أي قدرة صورة الشيخ على القيام بالوظيفة نفسها رغم وفاته قبل ربع قرن من الآن، وما أكثر المحلات التجارية التي تحرص على وضع صورته في أبرز مكان يمكن لعملائها أن يروه.

أضف إلى ذلك كله أن الشعراوي يمثل شيئًا خاصًا بالنسبة إليك أنت؛ إنه يستدعي جانبًا من طفولتك حيث كنت تجلس مع أفراد عائلتك بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع، تتابعون أحاديثه بإنصاتٍ بالغ، في طقسٍ عائليّ حميم، ولعلكَ تتذكر هذا الطقس الآن، والمؤكد أن الحنين يجذبك جذبًا إلى ذلك الزمان…!

فكيف بات الشيخ الشّعراويّ -رحمه الله- علامة دلالية بالغة الثراء على هذا النحو؟ كيف يكتنز كل هذه المعاني؟ أو بعبارة أبسط كيف صُنعتْ تلك العلامة الخطيرة والمؤثرة؟

تلقى الشيخ تعليمه كلّه في الأزهر، مثله في ذلك مثل ما لا يُحصى من الدارسين الذين تخرجوا من الأزهر، وعملوا دعاة وفقهاء ومفسرين، ثم رحلوا ولم نسمع عنهم، أو سمعنا عنهم ولكنهم لم يتركوا الأثر الذي تركه الشعراويّ، رغم تقدُّمهم عليه في الدراسة المنتظمة والشهادات الرسمية؛ فالشعراويّ لم يحصل على شهادة العالمية (الدكتوراه)، ولكنه تجاوز الشهادات والدرجات، وصار– بسلطة الحضور وطاقة الاعتراف والتتويج العام والخاص- حجّة على أصحابها؛ وهم يُقرّون له بذلك؛ إذ يُفسحون له المكان في نفوسهم وفي مجالسهم قبل كتبهم.

إنه أزهريّ من حيث النشأة والتعليم والتوجّه، ولكنه لا يرتدي عمامة الأزهر، بل يؤثر عليها طاقية بيضاء شديدة البساطة، لا أعرف إن كانت معروفة قبله أم لا، كما أنه لا يرتدي الجُبّة الأزهرية التقليدية الرسميّة بل يفضل عليها جلبابًا فضفاضًا أقرب إلى ما يرتديه فلاحو الوجه البحري.. الشعراوي أزهريّ في التصورات والمعتقدات وفي الانتماء إلى هذه المؤسَّسة الراسخة، وهذا “التماثل” مع المؤسّسة وفّر له الثقل الدينيّ في نفوس الجماهير (سُلْطة المرجع)، ولكنه في الوقت نفسه “يختلف” عن الأزهر في ملبسه وطاقيته البسيطة التي يمكن لأي إنسان أن يرتديها ويُقلِّده فيها.

فالشّعراوي بهذا الزّي “الشعبي” أو غير الرّسميّ أقرب إلى الجماهير التي يطلّ عليها من خلال الشاشة، ويُقدِّم لها– ربما للمرة الأولى– تفسيرًا للقرآن الكريم بلغة غير الفصحى، أو بلغة تخلط بين العامية المصرية والفصحى..!

ومن هذا “التماثل” وذلك “الاختلاف” مع المؤسَّسة والجماهير امتاز الشيخ عن غيره من المشايخ، وبات علامة ذات حضور نوْعيّ، على مستوى الخطاب المرجعيّ وعلى مستوى الحضور الجماهيريّ على حد سواء.. ولكن هذا الحضور الممتاز لم يحدث من تلقاء نفسه، أو قُلْ لم يحدث لأن الشعراويّ ينتسب إلى الأزهر، أو لأنه يرتدي ملابسه بتلك الطريقة فحسب، لقد حدث ذلك بفضل السياق الاجتماعيّ والسياسيّ والتحولات المحليّة والإقليمية.

التليفزيون

لا خلاف حول دور التليفزيون في “صناعة” النجوم؛ فنحن نتحدث عن (صناعة) تقوم عليها أكثر من جهة، ولا يُقلل ذلك من قيمة النجم العلمية والمعرفية، على الأقل وفقًا لمعايير الجودة في ذلك الزمان البعيد.. والنجم – بطبيعة الحال- يجب أن يكون ممتازًا من الناس أو عنهم، ولا يقتصر هذا الامتياز على ملابسه وأناقته فحسب، وإنما يتجاوز ذلك إلى ملائمة الملابس لموضوع الحديث؛ فالملابس التي تلائم السياسي أو الممثل السينمائي مثلا لا تلائم بالتأكيد رجلًا سيقدم “خواطره حول القرآن الكريم” بشكل دوريّ، فهنا يجب أن تكون الملابس نجميّة الطابع: مختلفة عن غيرها من ملابس المشايخ، ولكنها تشبهها في الوقت نفسه، ومع استمرار البرنامج ومتابعة المشاهدين له ورواجه بينهم سوف يستقر هذا الزيّ الجديد أو الخاص في أذهانهم مرتبطًا بهذه المعاني وتلك الدلالات.. ليغدو– مع الوقت – علامة إشهارية، تقترب إلى حد كبير من “لوجو” العلامات التجارية..

ولا يقتصر أمر صناعة النجم عند هذا القدر، وإنما يتعدى ذلك إلى مساحة البرنامج ومواعيد بثه، وكما تعلم فليست الأوقات كلها سواء، وبالنسبة لبرنامج ديني، لا يوجد أنسب من يوم الجمعة بكل ما له من هالة وقداسة في نفوس المسلمين، كما لا يوجد وقت أنسب من وقت الظهيرة عقب انقضاء الصلاة لتجتمع الأسر المصرية حول وجبة من الخواطر الإيمانية، تُقدّم بلغة بسيطة مستفيضة ومن رجل عالم راسخ القدم..

لقد بدأ نجم الشعراوي في الظهور مع التليفزيون أو بتعبير أدق مع انتشار التليفزيون في المدن والقرى في نهاية السبعينيات وما بعدها، كان التليفزيون الأداة الأقوى التي منحت مفهوم عصر الصورة بعده الجماهيريّ، فقدّم النجوم في مختلف الأنشطة الاجتماعية المختلفة: في الفن والكرة والسياسة والأعمال والدين..

لم يكن التليفزيون اختراعًا عاديًا، وإنما كان وسيلة تنميط وهيمنة على ملايين البشر الذين سوف يجلسون لساعات طويلة أمام شاشته، يستقبلون ما لا يُحصى من الأخبار والأفكار والصور التي يقدمها لهم النجوم في كل المجالات. لقد بلغ من سطوته أن غدا– بالنسبة لملايين الأميين- وسيلة توثيق للحقائق والوقائع لا يرتابون فيها. وسيلة تمتلكها النظم المستبدة وتُهيمن عليها، لتمرر من خلالها ما تريد من أخبار، وتحجب عن الناس ما لا تريد. كما كان وسيلة النظم للمكافأة والعقاب؛ فهي تُقدّم من خلاله نجومها الذين ترضى عنهم وتُلقي بمن تغضب عليهم إلى مجاهل النسيان.. فلم يكن التليفزيون وسيلة تثقيف حُرّة في أي وقت بقدر ما كان أداة هيمنة سياسية ودينية.

كان الشعراوي أحد أهم النجوم الذين قدمهم التليفزيون، وكما أنّ النجم في حاجة إلى ملابس مميزة، فهو أيضًا في حاجة إلى لغة مميزة، لغة غير نخبوية يمكن بها مخاطبة الشرائح الواسعة من المشاهدين، لغة لا ينفر منها المتعلمون، ولا يعجز عن متابعتها ملايين الأميين، وهذا بالضبط ما فعله الشيخ، لقد جمع بين الفصحى والعامية أو فسّر عبارات الفصحى عالية الجمال بالعامية المصرية.. فقدم لغة هجينة، لا تخلص للفصحى ولا للعامية.

(وهذه مناسبة جيدة للفت انتباه الدارسين إلى أثر التليفزيون على اللغة العربية، وقدرته على تطويع مفرداتها وتراكيبها.. وهذا موضوع لم يُبْحث بما يكفي).

ورغم ذلك الحضور المؤثر للتليفزيون، فليس بمقدوره -وحده- أن يجعل من الشعراويّ علامة ثقافية لها كل هذه الدلالات؛ فكم من شيخ أزهريّ أتيح له الظهور في التليفزيون في الفترة التي بزغ فيها نجم الشعراوي، ولكنه لم يحظ بما حظي به “إمام الدعاة” من حضور ونجومية.. وهذا يعني أن هناك أسبابا أخرى وراء هذا التجلي الكبير..!

نستكمل قراءة تلك العلامة المؤثرة في المقالة القادمة.