كشفت صحيفة “واشنطن بوست” عن تقرير للمخابرات الأمريكية يتهم دولة الإمارات بالتلاعب بالنظام السياسي الأمريكي، ذلك عبر محاولات قانونية وغير قانونية تستهدف توجيه السياسة الخارجية الأمريكية بـ”طرق مواتية للاستبداد العربي”، مستغلة ثقلها كدولة ذات نفوذ غنية بالنفط، وأحد أهم شركاء الولايات المتحدة في منطقة الخليج العربي.
ذكرت الصحيفة الأمريكية أن 3 مصادر مختلفة أطلعوها على هذا التقرير. إذ قالوا إنه يكشف عن أنشطة إماراتية، في عهود مختلفة للإدارات الأمريكية. وإنها استغلت في ذلك نقاط الضعف في الحوكمة الأمريكية فيما يتعلق بالحملات الانتخابية واعتمادها على المساهمات، وقابلية الإدارات الحاكمة لشركات الضغط القوية، والتراخي في إنفاذ قوانين الإفصاح التي تهدف إلى الحماية من تدخل الحكومات الأجنبية.
وتقول الصحيفة إن مثل هذه الأنشطة وإن كان بعضها معروف لمتخصصي الأمن القومي، فإنها ازدهرت بسبب عدم رغبة واشنطن في إصلاح قوانين التأثير الأجنبي أو توفير موارد إضافية لوزارة العدل. وتنقل عن أشخاص مطلعين على التقرير إن بعضها يشبه إلى حد بعيد التجسس.
اقرأ أيضًا: ورقة جديدة من “دام”: الكفاية والكفالة.. والعصا عند اللزوم.. النظام الإماراتي يوطد حكمه
وقد تم جمع التقرير من قبل مجلس الاستخبارات الوطني (NIC). كما تم إطلاع كبار صانعي السياسة الأمريكيين عليه في الأسابيع الأخيرة، لتوجيه عملية صنع القرار فيما يتعلق بالشرق الأوسط والإمارات العربية، التي تتمتع بنفوذ كبير في واشنطن، وفق ما تذكره الصحيفة.
مجلس الاستخبارات الوطني (NIC)، هو المركز التحليلي الأول لمجتمع الاستخبارات. يعتمد في تقاريره على معلومات من 18 وكالة مخابرات في البلاد حول قضايا الأمن القومي الملحة.
يعد هذا التقرير مميزًا لأنه يركز على عمليات التأثير لدولة صديقة، بدلًا من قوة معادية مثل روسيا أو الصين أو إيران. تقول الصحيفة إنه من غير المألوف أيضًا أن يقوم جهاز استخباراتي أمريكي بفحص التفاعلات التي يشارك فيها مسئولون أمريكيون عن كثب، نظرًا لتفويضه بالتركيز على التهديدات الخارجية.
ويقول بروس ريدل، الزميل البارز في معهد “بروكينجز” الذي عمل في مجلس الاستخبارات القومي في التسعينيات: “إن القيام بشيء كهذا مع قوة ودية وصديقة هو أمر فريد. إنه علامة على أن مجتمع المخابرات الأمريكية على استعداد لمواجهة تحديات جديدة”.
تذكر الصحيفة أيضًا أن المتحدثة باسم مكتب مدير المخابرات الوطنية، لورين فروست، رفضت التعليق عندما سئلت عن هذا التقرير. بينما قال سفير الإمارات في واشنطن، يوسف العتيبة، إنه “فخور بنفوذ الإمارات ومكانتها الجيدة في الولايات المتحدة”. وأضاف في بيان: “لقد تم تحقيق هذا النفوذ بشق الأنفس.. نستحقه عن جدارة. إنه نتاج عقود من التعاون الوثيق بين الإمارات والولايات المتحدة والدبلوماسية الفعالة”.
إلى أي مدى؟
تشير الصحيفة الأمريكية -في بيانها لمدى النفوذ الإماراتي في الولايات المتحدة- إلى موافقة واشنطن على بيع بعض من معداتها العسكرية الأكثر تطورًا وفتكًا، بما في ذلك الطائرات بدون طيار MQ-9 والطائرات المقاتلة المتقدمة من طراز F-35 لصالح الإمارات. وهو امتياز لا يُمنح لأي دولة عربية أخرى بسبب القلق من التناقص، وحفاظًا على التفوق العسكري النوعي لإسرائيل. بينما لم تراع واشنطن هذه الحسابات كثيرًا في تعاملها مع أبو ظبي.
وقد أنفقت الإمارات أكثر من 154 مليون دولار على جماعات الضغط داخل أمريكا منذ عام 2016، وفقًا لسجلات وزارة العدل. ووجهت هذه التبرعات للجامعات ومراكز الفكر الأمريكية، والعديد منها ينتج أوراق سياسات ذات نتائج مواتية لمصالح الإمارات.
يقول أحد المشرعين الأمريكيين الذين قرأوا التقرير إنه يوضح كيف يتم تشويه الديمقراطية الأمريكية بواسطة الأموال الأجنبية. إذ لا يوجد حظر في الولايات المتحدة على تبرع جماعات الضغط بالمال لحملات سياسية.
يضيف المصدر: “يجب وضع خط أحمر واضح للغاية ضد لعب الإمارات في السياسة الأمريكية.. لست مقتنعًا بأننا قد أثرنا هذا على الإطلاق مع الإماراتيين على مستوى عالٍ”.
وقد رفض كل من مكتب مدير المخابرات الوطنية ووزارة الخارجية التعليق على ما إذا كانا قد تناولا القضية مع نظرائهما الكبار في الإمارات.
تشير الصحيفة إلى كلمة الرئيس الأمريكي جو بايدن، الأسبوع الماضي خلال انتخابات التجديد النصفي، حين اعترف بأن الديمقراطية الأمريكية مهددة من قبل المصالح القوية وتحتاج إلى حماية منسقة. قال بايدن -في كلمته بواشنطن: “خلال هذه الانتخابات علينا أن نتذكر هذه المبادئ الأولى: الديمقراطية تعني حكم الشعب -ليس حكم الملوك أو المال، بل حكم الشعب”.
أهمية التقرير
رفض الأشخاص الذين شاركوا معلومات حول هذا التقرير تقديم نسخة منه، وفق ما تذكره صحيفة “واشنطن بوست”. قالوا إن الأنشطة المنسوبة إلى الإمارات في التقرير تتجاوز مجرد استغلال النفوذ.
تضمنت إحدى أكثر عمليات الاستغلال حدة توظيف 3 مسئولين سابقين في المخابرات والجيش الأمريكيين لمساعدة الإمارات في مراقبة المعارضين والسياسيين والصحفيين والشركات الأمريكية.
وقد ساعد هؤلاء الثلاثة الإمارات في اقتحام أجهزة كمبيوتر في الولايات المتحدة ودول أخرى. كما اعترفوا أمام إحدى المحاكم الأمريكية -خلال العام الماضي- بتقديم تقنية قرصنة متطورة إلى الإمارات.
وقد تمت تسوية قضيتهم بعد موافقتهم على تسليم تصاريحهم الأمنية ودفع حوالي 1.7 مليون دولار. بينما وصفت وزارة العدل التسوية بأنها “أول قرار من نوعه”. ذلك، رغم أنه لم يتضمن عقوبة سجنهم.
اقرأ أيضًا: ورقة دام| قراءة في ملامح الدور الإقليمي الإماراتي الجديد
“جاسوس”
كذلك تشير الصحيفة إلى المحاكمة الفيدرالية لتوماس باراك، المستشار المخضرم للرئيس السابق دونالد ترامب، الذي تمت تبرئته هذا الشهر من اتهامات تزعم أنه عمل كوكيل لدولة الإمارات العربية المتحدة وكذب على محققين اتحاديين بشأنها.
اتهم المدعون العامون الأمريكيون باراك باستغلال وصوله إلى ترامب لصالح الإمارات والعمل على قناة خلفية سرية للاتصالات التي تنطوي على تمرير معلومات حساسة إلى المسئولين الإماراتيين.
وتضمنت الأدلة المقدمة في المحكمة آلاف الرسائل ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي وسجلات الرحلات الجوية، بالإضافة إلى اتصالات تظهر أن المسئولين الإماراتيين زوّدوه بنقاط للحديث لظهوره في وسائل الإعلام، أشاد فيها بالإمارات. بعد إحدى هذه المقابلات ، أرسل باراك رسالة بريد إلكتروني إلى أحد جهات الاتصال قائلاً: “لقد قمت بذلك.. لفريق المنزل”، في إشارة إلى الإمارات العربية المتحدة.
ونفى باراك التهم الموجهة إليه بشدة، وفشل المدعون في إقناع هيئة المحلفين بأن استغلاله لنفوذه أدى إلى ارتكاب جرائم. كما تمت تبرئة أحد مساعديه، ماثيو جرايمز.
ليست وحدها
يلفت التقرير الاستخباراتي أيضًا إلى أن الإمارات ليست وحدها التي استخدمت هذه التكتيكات في محاولة توجيه النظام السياسي الأمريكي، حسب رغبتها. بل فعلت المملكة العربية السعودية وقطر وإسرائيل وتايوان وعشرات الحكومات الأخرى هذا بفضل حملات تأثير في الولايات المتحدة.
لكن تدقيق مجتمع الاستخبارات في الإمارات يشير إلى مستوى عالٍ من القلق وخروج دراماتيكي عن الشكل الطبيعي للعلاقة بين البلدين، وفق التقرير.
لماذا الآن؟
تقول “واشنطن بوست” إن التركيز على دور الإمارات في واشنطن نما بعد وفاة الكاتب الصحفي السعودي جمال خاشقجي في تركيا. وذلك لعلاقة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بهذه الجريمة، ومكانته وقربه من محمد بن زايد آل نهيان، حاكم الإمارات، وهو أمر دعا إلى مزيد من التدقيق الاستخباراتي.
وكان محمد بن زايد جزءًا كبيرًا من الحشد الذي قال إن ولي العهد السعودي سيكون مصلحًا، وسيجعل المملكة العربية السعودية دولة طبيعية أكثر، ويمنح المرأة حق التصويت – وكلها آمال تحطمت عندما قُتل خاشقجي.
أيضًا تزايدت المخاوف بشأن الإمارات بين جماعات حقوق الإنسان مع تورطها العسكري في الحرب الوحشية في اليمن. كما أغضبت الدولة الخليجية المسئولين الأمريكيين بعد أن قالت هيئة الرقابة التابعة لوزارة الدفاع إن الإمارات ربما كانت تمول مجموعة فاجنر، وهي جيش مرتزقة روسي قريب من الكرملين، اتُهم بارتكاب فظائع في ليبيا وأوكرانيا وإفريقيا.
تقول الصحيفة الأمريكية إنه رغم كون الإمارات حافظت على دعم قوي من الحزبين (الديمقراطي والجمهوري) في الولايات المتحدة، إلا أنها أقامت علاقة وثيقة بشكل خاص مع إدارة ترامب، التي وافقت على بيع ما قيمته 23 مليار دولار من طائرات F-35 و MQ-9 وذخائر أخرى إليها. وهي الصفقة التي واجهت مقاومة من قبل الديمقراطيين في الكونجرس، ولم تتحرك إلى الأمام حتى الآن رغم دعم إدارة بايدن.
وكانت “واشنطن بوست” كشفت الشهر الماضي عن مغازلة مارستها الإمارات مع المتقاعدين من العسكريين الأمريكيين ذوي الرتب العالية. حيث أظهر تحقيق أنه على مدار السنوات السبع الماضية، عمل 280 متقاعدًا من الخدمة العسكرية الأمريكية كمقاولين عسكريين ومستشارين لدولة الإمارات -أكثر من أي دولة أخرى- وأن الوظائف الاستشارية كانت تُدفع بشكل جيد.