قالت لي والدتي ذات مرة إن أهلنا من الفلاحين في القرية التي ولدت بها، كانوا يقولون دائما: “عبد الناصر زارع ميكروفونات في الشجر”، رغم بساطة الجملة واستحالة تحقيقها عمليا، إلا أنها كانت تعبر عن واقع ما عاشه هذا الجيل في فترة شبابه، كما كانت هذه الشائعة ضمن غيرها من الشائعات، من الأسس التي بنيت عليها دولة يوليو 1952، الدولة قوية ويدها تطال الجميع.
ولكن والدتي كانت تستتبع جملتها تلك بجملة أخرى مكملة ومتممة لها “بس الناس كانت بتحبه”، لتكمل رسم الصورة المبسطة التي كانت لدى هذه الطبقة البسيطة من الشعب، كانوا يحبون جمال الذي جعل منهم أصحاب أملاك، ويرهبونه ويخشون المساس به أو بدولته، وهكذا كانت دولة يوليو تمشي على ساقين، أحدهما حب الجماهير للنظام الجديد وما يقدمه من فرص للتعليم والعمل، ويخشونه وما يقوم به من اعتقالات وتجسس ومراقبة.
اقرأ أيضا.. الاستيعاب بديلا للردع
لم يكن مبارك ساذجا حين فتح مساحات لحرية الرأي والمعارضة، ولم يكن السادات من قبله غبيا عندما هدم المعتقلات، كان يعلم كلاهما أن معادلة الحكم في دولة يوليو لا يمكن أن تجري كما كان يفعلها ناصر، فلا يملك أي منهم حب الجماهير لناصر، ولا يمكن أن يقدم لهم نظام الحكم الرأسمالي الذي شرع فيه السادات، ما قدمته الاشتراكية للجماهير، لذا كان من الطبيعي أن تقدم الدولة مقابل ما خصمته من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، هامش من الحريات يتسع ويضيق بحسب ما تستدعيه الحالة الاقتصادية.
خلال تلك الفترات كانت لدى الدولة خصوم في الداخل والخارج، سواء من الدول العظمى أو القوى الإقليمية وحتى من بعض الدول العربية، ولكن قدرة الدولة على تحقيق التوازن بين البطش والعطاء، كان يحقق الاستقرار المطلوب في الحكم، ربما تأزمت الأمور في بعض الأوقات ولكن كانت السياسة حاضرة دائما لتحقيق التوازن المطلوب، فقد أفرج عبد الناصر عن الشيوعيين وفتح لهم باب التعيينات الحكومية في وظائف بالصحافة والثقافة والفنون، وبالمثل أخرج السادات الإخوان من السجون وأتاح لهم مساحات في الجامعات والنقابات، وفتح مبارك باب المراجعات أمام الجماعة الإسلامية بعد تنفيذهم عشرات العمليات الإرهابية.
عندما أسس الضباط الأحرار دولتهم، كانوا يبنون دولة تحكم عشرات السنين، وقد ترك الضباط إرثا كبيرا من الاستراتيجيات والتكتيكات فيما يشبه خريطة حكم لهذه الدولة، تسعى الأجيال الجديدة وتحسن وتطور ولكنها لا تستبدل هذه الأوراق، ودائما في الأوقات الحرجة تستدعي الدولة الرجال القدامى ممن يملكون مفاتيح الحكم، ويستطيعون فك شفرات المخطوطات العتيقة بدولاب الستينات العتيق.
في يناير 2011 ظهرت ملامح تعطن الدولاب القديم، الاستراتيجيات أصبحت بالية والتكتيكات ساذجة والتحركات بطيئة، تعامل مبارك مع 25 يناير كما يقول الكتاب، ولكن كان الوقت قد تأخر، وخطط استيعاب الحراك في الكتاب سكبت مزيد من الزيت على النار، فشلت الأوراق في فهم جيل جديد يفكر بطريقة مختلفة ويتحرك لدوافع لم يذكرها الكتاب، وهو ما عبر عنه السيسي أكثر من مرة بأن يناير كانت شهادة وفاة الدولة المصرية، فإن يناير لم تهدم دولة يوليو، كل ما فعلته أنها أصدرت إعلان الوفاة الرسمي لها.
في خطاب للرئيس السيسي قال: “أنا قعدت 50 سنة عشان أفهم يعني إيه دولة”، لم يكن السيسي يقصد هنا ما نعرفه عن الدولة وأجهزتها التنفيذية، ولكنه كان يقصد ما وصل إليه بعد 50 سنة داخل الدولة، وما لم يقدر على رؤيته إلا بعد أن ارتقى إلى قمة الهرم الوظيفي، حيث يرى الصورة الكاملة، ويطلع على دولاب الحكم بكامل جوانبه.
ولكن أبرز ما يواجه نظام 30 يونيو من تحديات حاليا، ليس مجرد فهم الدولة القديمة والاطلاع على سجلاتها وحيازة مفاتيح حكمها، إنما هو صياغة مانيفستو جديد للدولة، كنا نتمنى أن تكون السنوات الماضية كافية لصياغته وأن يكون إعلان الجمهورية الجديدة، بداية للعمل به.
لن تستطيع الجمهورية الجديدة أن تحقق أحلام الشعب في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، كما أنها لن تستطيع تنفيذ وعودها بالتنمية غير المسبوقة، فقد فاقت الظروف الخطط الطموحة، ومن الممكن مراجعة مستهدفات رؤية مصر 2030 وما تحقق منها على أرض الواقع، وهو ما تسبب في حالة عامة من عدم الرضا العام عن الوضع الاقتصادي وهو ما يتسبب في حالة من الاحتقان تعيشها الطبقات الأكثر فقرا.
وهو ما كان يستلزم من الدولة التعامل بذكاء مع هذا الاحتقان وإيجاد حلول سياسية مناسبة، وربما تقديم بعض التضحيات والتنازلات، ولكن ذلك لم يتم حتى الآن، فلازالت الحلول الأمنية هي الوحيدة لمواجهة الأزمات، وهو ما يعيه جيدا خصوم النظام ويستخدمونه في كشف عوار الدولة الجديدة، بدعوات متتالية للتظاهر، فلا تملك الدولة من طريقة للتعامل معها سوى ما هو موجود في دولاب الستينات من اعتقال ومصادرة وتضييق وانتشار أمني مكثف، تفشل الدعوات بالطبع في دفع المصريين الغاضبين إلى الشوارع، ولكنها تتسبب في زيادة الاحتقان، وترسيخ الحلول الأمنية كوسيلة وحيدة لحل الأزمات.
لازال الأمل يحدونا في أن الدولة التي جرى تغيير رجالها بالتقادم، قد أصبحت أكثر شبابا وربما يحمل شباب الأجهزة التنفيذية أفكارا أكثر حداثة تناسب المجتمع المصري الشاب، وكانت فكرة الحوار الوطني إشعارا بأن تغييرا ما قد يطرأ على الدولاب المتهالك، ولكن أحيانا نرى وكأننا نعود إلى المربع صفر، باستمرار الممارسات وتأخر الخطوات في وقت الأزمة، كما يظل الخطاب الدولتي على حاله وإن جرى على لسان شباب ولدوا في الثمانينات، إلا أنه تمت صياغته منذ سبعين عاما.
أتمنى أن تكون دعوات 11 نوفمبر فرصة جديدة للدولة، تعيد فيها النظر في دولابها من أوراق ورجال، وأن تكون الفرصة للشباب بداخل أجهزة الدولة للتعبير عن أفكارهم –ولو داخليا– أكثر مما هي متاحة للمعارضة.