إذا كنت تمتلك هاتفًا ذكيًا أو جهازًا لوحيًا أو كومبيوتر محمولا، تقرأ من خلاله هذا المقال، فهذا الموضوع يهمك. وإذا كنت مهتمًا بتغير المناخ أو مغرمًا بالسيارات الكهربية، فهذا الموضوع يهمك جدًا.

تحويل منظومة الطاقة من الاعتماد على الفحم والنفط والغاز، إلى مصادر الطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح، يفرض تنافسًا جديدًا على المعادن والتقنيات اللازمة والضرورية لإنجاز هذا التحول الكبير. في القلب من هذه المعادن، الليثيوم والعناصر الأرضية النادرة.

يتطلب تحويل منظومة الطاقة زيادة هائلة في استخدام هذه المعادن، وتكشف توقعات “وكالة الطاقة الدولية” أن استخدام هذه المعادن الهامة سوف يزيد ثلاثين مرة على الأقل خلال العقدين المقبلين. وفي العقدين الأخيرين، شهدت أسواق هذه المعادن زيادات هائلة في العرض والطلب، وارتفاعات حادة في الأسعار.

لذلك، تتنافس الدول الكبرى للسيطرة على أسواق هذه المعادن الهامة. هذا التنافس، ربما يفسر الكثير من الأوضاع السياسية والاقتصادية والجيو-سياسية التي تحدث حاليًا في العالم، على سبيل المثال، الأهمية الاستراتيجية لبعض الدول المنتجة، مثل بورما بالنسبة للصين، واستراليا بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، وجرينلاند بالنسبة للاتحاد الأوروبي.

الليثيوم، على سبيل المثال، عنصر أساسي في الاقتصاد العالمي، ويدخل في كثير من الصناعات المدنية والعسكرية، سواء في صورة كربونات أو صورة هيدروكسيد الليثيوم. عنصر الليثيوم هو أخف المعادن الموجودة في الطبيعة، وهو نشط كيميائيًا وشديد التفاعل، لذلك، لا يمكن العثور عليه في الطبيعة منفردًا، لكن يوجد بتركيزات متباينة في محاليل أملاح الليثيوم والصخور المعدنية.

ثلاثة أرباع الليثيوم المستخرج في العالم يدخل في صناعة بطاريات الليثيوم- أيون القابلة للشحن. هذه البطاريات مكون أساسي في صناعة الهواتف، والأجهزة اللوحية الذكية، وأجهزة الكومبيوتر المحمولة، والكاميرات الرقمية، وخوادم الإنترنت.

كما يدخل في صناعة السيراميك والزجاج والبوليمرات وتقنيات معالجة تلوث الهواء. وهو-أيضًا- ضروري في صناعة كثير من التقنيات الجديدة التي تسعى إلى خفض وإزالة الانبعاثات ومواجهة تغير المناخ، مثل صناعة المركبات والسيارات الكهربائية والهجينة واستخدامات أخرى. حوالي 33 كيلوجرام من الليثيوم تلزم لصناعة بطارية السيارة الكهربية ماركة “تسلا” -موديل إس- (Tesla S)!

إرتفع إنتاج الليثيوم بنسبة 21% في العام الماضي مقارنة بعام 2020 ووصل إلى ما يقرب من 100 ألف طن. وأكبر الدول المنتجة لخامات الليثيوم في العالم هي أستراليا وتنتج حوالي 45% من الإنتاج العالمي، بعدها شيلي بنسبة 32%، ثم الصين 13%، والارجنتين 6%.

وأكبر خمس شركات تنتج الليثيوم في العالم حاليًا هي: شركة ألبيمارل الأمريكية، شركة يانج تشي جانفينج الصينية، شركة ليثيوم تيانكي الصينية، شركة سوسيداد كيميا منرال الشيلية، وشركة بيلبارا منرالز الأسترالية. وبلغت قيمة سوق الليثيوم في العام الماضي 6.83 مليار دولار، ومن المتوقع أن يتوسع السوق بمعدل سنوي مركب يبلغ 12% حتى عام 2030.

الموارد التي تم اكتشافها أكبر بكثير من الإنتاج العالمي الحالي، وبعد الاكتشافات الجديدة في العام الماضي، زادت الاحتياطيات الاقتصادية القابلة للاستخراج لتصل إلى حوالي 89 مليون طن. ومعظم المصادر المكتشفة والقابلة للاستخراج، تقع في بوليفيا وشيلي والأرجنتين بأمريكا اللاتينية، ويحتوي هذا المثلث، وفقًا لهيئة المسح الجيولوجي الأمريكية، على أكبر احتياطي معروف من الليثيوم تحت المسطحات الملحية، بحوالي 56% من الاحتياطيات العالمية.

في أستراليا يتم استخراج خامات الليثيوم من الصخور الصلبة مباشرة، بينما يتم استخراجه في أمريكا اللاتينية من البحر وبرك المياه المالحة. ولكل طريقة من طرق الاستخراج تقنيات معالجة مختلفة.

ومع أن واردات الصين من كربونات الليثيوم تزيد على صادراتها، ما يجعل منها مستوردًا صافيًا، إلا أنها تلعب دورًا هامًا ورئيسيًا في السوق، من خلال دورها المهيمن في سلاسل التوريد، ولكونها أكبر مصدر لمركبات الليثيوم النهائية، وامتلاكها لأكثر من نصف إجمالي القدرة على تكريره وتحويله إلى مركبات جاهزة للصناعة.

وتسعى الصين إلى تأمين إمدادات مستقرة لليثيوم، وفي هذا الإطار تعمل على زيادة شراكتها مع الدول الأفريقية لتعدين الليثيوم، ومؤخرا أعلنت شركة السيارات الصينية العملاقة “بي واي دي”-(BYD)- أنها تخطط لافتتاح ستة مناجم لتعدين الليثيوم في إفريقيا.

بحسب بورصة لندن للمعادن يتوقع أن يزيد استخدام الليثيوم في السنوات القادمة، ووفقًا لوكالة الطاقة الدولية، من المتوقع أن يزداد الطلب على الليثيوم بمقدار 42 ضعفًا بحلول عام 2040. ومع زيادة الاستخدام، تزداد المخاوف بشأن التأثير البيئي لتعدين الليثيوم، وبخاصة في البلدان النامية، حيث تغيب المعلومات وتفتقد المفاوضات الجماعية ودراسات الجدوى، وأحيانًا، ما يتم تعطيل القانون أو تطويعه لصالح الشركات بحجة تشجيع الإستثمار الأجنبي المباشر!

في السنوات الأخيرة زادت عمليات التعدين في مثلث الليثيوم بأمريكا اللاتينية، وحققت شركات التعدين هناك أرباحًا هائلة، على حساب السكان وملاك الأراضي، الذين تُركوا للفقر والبطالة والهجرة. وبحسب ورقة بحثية نشرت في دورية العلوم البيئية في سبتمبر الماضي، أثر استخراج الليثيوم في شيلي وبوليفيا والأرجنتين سلبيًا على النظام البيئي والسكان الأصليين.

وارتبطت عمليات التعدين بانتهاكات صارخة لحقوق السكان، وتدهور الأراضي، وتلوث المياه ونقصها، وانتشار أمراض الجهاز التنفسي، واستغلال العمال، وأخيرًا، تهجير الملاك الأصليين لهذه الاراضي.

تتضمن تقنيات استخراج الليثيوم في هذا المثلث، ضخ المحلول الملحي لخامات الليثيوم من باطن الأرض، ثم تركيزه بالتبخير في أحواض في ضوء الشمس. هذه العملية تحتاج إلى استخدام كميات هائلة من المياه.

حوالي 500 ألف جالون من الماء، من أجل إنتاج طن واحد من الليثيوم. وأدى هذا الاستغلال المفرط للمياه إلى تغيير الديناميكا الطبيعية للموارد المائية في هذه المناطق، وأدى ذلك إلى نقص المياه، وتلوث الجداول المحلية، التي يعتمد عليها البشر والماشية.

في منطقة “سالار دي هومبر مويرتو” في الأرجنتين، على سبيل المثال، وهي الموطن الأصلي للسكان من مجتمعات “أتاكامينيو”، كان السكان يعتمدون على الأرض والموارد الطبيعية في حياتهم وكسب عيشهم، من خلال الزراعة وتربية الماشية وصناعة المنسوجات والحرف اليدوية. بسبب التعدين الواسع لليثيوم، تدهورت الأراضي وتأثرت إمدادات المياه وجودتها.

وفي شيلي، تجلت النزاعات بين كبار وصغار المزارعين، وبينهم وبين شركات التعدين، بسبب نقص المياه، والتفاوت وعدم المساواة في الوصول إلى موارد المياه الجوفية. ولا يزال التوتر الشديد يحكم العلاقة بين شعب “المابوتشي” والسلطات المحلية. وهناك أدلة على تهجير مجتمعات من السكان الأصليين. على سبيل المثال، انخفض عدد سكان الريف في الكوميونات الشمالية من منطقة “تاراباكا”، من حوالي 46 % إلى 6 % فقط بين عامي 1940 و2002.

وفي ظل سياسة نيوليبرالية، تعتبر المياه سلعة ولها ثمن، يحتدم التنافس على المياه بين الشركات والسكان. وغالبًا، ما تستخدم الشركات نفوذها وأموالها، للحصول على المياه، على حساب الناس والطيور والحيوانات وأشجار الغابة.

يشمل التدهور البيئي الكبير الذي حدث في المنطقة خلال العقدين الماضيين: تدهور الغطاء النباتي، وارتفاع درجة حرارة النهار، وانخفاض رطوبة التربة، وزيادة موجات الجفاف. بالإضافة إلى ذلك، تؤثر عمليات التعدين، والأنشطة المرتبطة بها، تأثيرًا سلبيًا على أنواع وأعداد النباتات والحيوانات والطيور المحلية، وهناك مخاوف أخرى تتعلق بتهديدات محتملة للتنوع الحيوي.

كما يمثل تعدين الليثيوم أيضًا مصدرًا لتلوث المياه، فعلي سبيل المثال، أدى تسرب مخلفات سامة مثل حامض الهيدروكلوريك من مناجم الليثيوم، إلى تلويث نهر “ليقي”، (Liqi) في الصين، ونفوق أعداد هائلة من الأسماك التي يعتمد عليها السكان في غذائهم ومعاشهم، ما أدى إلى احتجاجات بين القرويين هناك.

وتظهر النزاعات حول تأثيرات التعدين على الأراضي وموارد المياه وسبل العيش بأوضح صورة في دول أمريكا اللاتينية، ففي الأرجنتين، هناك تحركات جماعية منظمة على مستوى البلديات والمقاطعات لمقاومة الآثار الضارة للتعدين. وفي جواتيمالا يقاوم السكان الأصليون مشروعات التعدين التي تدمر أراضيهم وسبل عيشهم. وفي بيرو تجري حركات الفلاحين مشاورات شعبية بشأن مشروعات التعدين وتأثيراتها. وفي فنزويلا احتجاجات شعبية ضد أنشطة التعدين.

وهناك أشكال أخرى من النزاعات التي تنشأ بسبب نقص التعويضات التي تقدمها الشركات للسكان الأصليين، أو بسبب الفشل في الوفاء بهذه التعويضات الموعودة. مثال على ذلك مشروع تعدين “مينيرا إكسار”-(Minera Exar)- وهو مشروع كندي-شيلي مشترك. يستهدف المشروع استخراج الليثيوم في الأرجنتين.

مع توقعات بأن تصل المبيعات إلى حوالي 250 مليون دولار سنويًا، اتفقت الشركة مع ستة من المجتمعات المحلية على أن يتم تعويضهم بمبالغ تتراوح بين تسعة آلاف وستين ألف دولار سنويًا. لكن شهادات السكان الأصليين، تشير إلى غير ذلك. تقول “لويزا جورج” لموقع مجلة “مراجعات شهرية”: “تأخذ شركات الليثيوم ملايين الدولارات من أراضينا، يجب عليهم رد شيء ما، وعدونا بالتعويضات، لكنهم لم يفعلوا”.

الخلاصة، وبحساب التكاليف والفوائد، فالفوائد الاقتصادية لتعدين الليثيوم ضئيلة مقارنة بالخسائر والأضرار الحالية وآثارها المتوقعة في المستقبل. فهل هذه الخسائر والأضرار حتمية؟ وهل يمكن استخراج الليثيوم- والمعادن الأخرى- بدون هذه التكاليف والخسائر الباهظة؟

الإجابة على السؤال الأول هي لا، وعلى السؤال الثاني هي نعم. فهذه الخسائر ليست حتمية، ومن الممكن أن نفعل الأشياء بطريقة مختلفة، في ظل إطار مؤسسي وتنظيمي مناسب، ولضمان عدم المساس بحقوق المجتمعات المحلية، يتوجب أن تشارك الدولة في كل مراحل الإنتاج والتجارة والاستخدام، وحتى إعادة التدوير.

يمكن لاستخراج الموارد الذي تقوده الدولة، دولة المؤسسات القوية، تحصيل ريع هذه الموارد وتوجيهه لصالح الاقتصادات المحلية. ويمكن للحكومات زيادة الإيرادات، عن طريق فرض الإتاوات والضرائب التصاعدية على إيجار الموارد وعلى أرباح الشركات. وفي هذا السياق، وجد أن احتفاظ الدولة بما لا يقل عن 51% من الحقوق في شركات الاستخراج والمعالجة، يمكن أن يقلل من التبعية ومن فرص تدخل القوى العظمى، مثل الولايات المتحدة الأمريكية والصين.

لكن للأسف، ما يحدث هو العكس تمامًا، فبناءً على “إجماع واشنطون” وتحت غطاء تخفيض الضرائب على الشركات من أجل تحفيز الاستثمار الأجنبي المباشر، يتم تخفيض الإتاوة على استخراج المعادن الاستراتيجية، ويتم تقديرها على أساس الأسعار الحالية، والتي يتراوح مداها في معظم الاقتصادات بين 2%- و30%.

إن أي إصلاح حقيقي لصناعة التعدين يتطلب درجة عالية من الشفافية والمساءلة. الشفافية، من خلال عمليات التدقيق المستقلة للتكاليف والأرباح والإيرادات وتقاسم العوائد، يمكن أن تمنع أو تقلل من الاستغلال. والمساءلة يمكن أن تحول دون اتباع الحكومات لنهج سلطوي غالبًا ما ينتهي إلى تركيز المزيد من الريع في أيدي النخب الفاسدة.

الليثيوم، هو واحد فقط من المعادن الاستراتيجية، التي سيتم التنافس للسيطرة عليها بشدة خلال العقد المقبل، أما العناصر الأرضية النادرة، فلها قصة أخرى.