لم أفاجأ ولا حزنت من إطلاق البعض #عواجير_يناير، حزنت فقط حين جاءني تعليق من أحد الشباب على ما كتبته حول الذكرى العاشرة لثورة يناير يقول الفتي لي: “إذا أردت أن تعرف السبب فيما نحن فيه من مآسي، فاعلم أنه جيلكم، وكل “العواجيز” أمثالك، الذين ما زالوا يسدون علينا منافذ الحياة”.

ترددتُ أكثر من مرة أمام كيفية الرد على شاب شارك بفاعلية في وقائع ثورة نبيلة ومغدورة، ثم وجد نفسه وجيله فريسة حالة اليأس، وفي مواجهة مؤامرة تيئيس.

هذا الجيل الذي حاول أن يقطف قرص الشمس هدية لمصر تبنَّى للأسف فكرة تحميل أهاليهم خطيئة السكوت على القهر والاستبداد وضياع الكرامة، بينما ينظر إلى دورهم في ثورة 25 يناير 2011 نظرة تقديس وانبهار كمن لا يصدق نفسه.

المحزن أن كثيرًا من هؤلاء يتصورون أنهم نبتًا شيطانيًا، أو لنقل (نبت ملائكي)، لا صلة لهم بمن قبلهم، ويتصور بعضهم أنهم ثاروا ليقطعوا كل صلة مع كل ما قبلهم، ليس فقط قطع الصلة بالحكام الظلمة والقهر الاجتماعي والحكم الاستبدادي، بل راحوا يديرون ظهورهم لكل من يتهمونهم بالسكوت على كل هذا القهر، والخنوع لكل هذا الاستبداد، دون مقاومة، ومن دون اعتراض (حسب زعمهم).

هذه النظرة، فوق أنها غير حقيقية، يكذبها الواقع، وتدحضها الوقائع، أقول -بكل أسف- إنها نظرة سطحية، ومتعالية بسذاجة، وحَرُونَة بطفولة ثورية.

يناير قصة أجيال

حين كتب الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم قصيدته الشهيرة «كل ما تهل البشاير من يناير كل عام» لم يكن يتحدث عن تجربة ذاتية بقدر ما كان يحكي قصة أول جيل كانت له في يناير صولات وجولات، وله فيه ذكريات وطنية لا يمكن أن يمحوها مرور الأيام ولا يمكن أن تغادر ذاكرة الوطن.

أعجبني تعليق صديق عزيز من أبناء جيلي على #عواجير_يناير، قال فيه: (وأنا كمان من عواجيز يناير سنة 1968 ـ 1972 ـ 1977ـ 2011)، أعجبني التعليق لأنه يظهر حقيقة أن “يناير” ليس قصة قصيرة تقص حكاية جيل 2011، بل هو على الحقيقة رواية طويلة تحكي قصص أجيال، ولأن محاولة حصرها في جيل دون آخر، هي محاولة فاشلة بكل تأكيد.

كما هي أحداث التاريخ، لا يمكن فصل بعضها عن الآخر، كل مرحلة تفضي إلى ما بعدها، وهي موجودة فيها، وحاضرة ومؤثرة في صناعتها، بقدر ما ستكون اللحظة الحاضرة جزءًا من المرحلة التي تليها، تيار متدفق يحمل في قلبه العواجيز ويدفعه في مجراه الشباب.

**

أول رسائلي إلى شباب 2011 ومن جاءوا بعدهم، أنكم لستم نبتًا بلا جذور، أنتم أبناء وأحفاد جيل خرجت طلائعه ضد جمال عبد الناصر في 1968 مرتين، مرة ضد الهزيمة، وأخرى ضد الأحكام المخففة التي صدرت بحق قادة سلاح الطيران المسؤولين عن نجاح الضربة الجوية الإسرائيلية لطائراتنا وهي راقدة على أرض المطارات العسكرية.

أنتم لستم زرعة في وادٍ قاحل، بل أنتم أبناء وأحفاد جيل شارك في تحقيق نصر أكتوبر على مدار ست سنوات، ومن أول شهر بعد الهزيمة، وعبر ثلاث سنوات من حرب الاستنزاف.

أنتم أبناء دفعات المؤهلات العليا والمتوسطة التي دخلت إلى صفوف القوات المسلحة، وظل بعضهم في الخنادق على الجبهة لمدد تزيد على ست سنوات متواصلة، وكانوا هم وقود العبور ومثلوا عنفوانه وقدرته على الانتصار.

هذا هو جيلنا الذي شاعت تسميته بجيل السبعينيات من القرن الماضي، وكنا وقتئذٍ طلابًا بالثانوي أو بالجامعة، وكانت مصر تمور في بداية هذا العقد بعنفوان وطني جامح يطالب بتحرير سيناء من دنس الاحتلال الصهيوني، وظلت طلائع جيلنا تضغط بكل ما لديها من أوراق للضغط السياسي على الرئيس أنور السادات لكي يخرجنا من حالة «اللاسلم واللاحرب» التي فرضت نفسها جراء تلكؤ ومماطلة السلطة في اتخاذ قرار معركة التحرير.

**

هذا الجيل هو الذي خرج في السبعينات ضد أنور السادات أكثر من مرة..

خرج ـ أولاً ـ في يناير 1972 ومرة أخرى في يناير 1973 ضد تسويف المعركة مع العدو الصهيوني الذي يحتل أرضنا في سيناء وكل الأراضي العربية في الجولان ولبنان والضفة وكل فلسطين، وحوكمت أعداد كبيرة من قياداته الشبابية وصدر ضدهم أحكام أسقطها الرئيس السادات قبيل اندلاع حرب أكتوبر.

وخرج هذا الجيل –ثانيا- في سنة 1975 ضد توجهات الرئيس أنور السادات الرأسمالية التي تبدت من قرار الانفتاح الاقتصادي وبدء موجة بيع القطاع العام وبروز ظاهرة القطط السمان.

وخرج -ثالثا- في سنة 1977 ضد القرارات الاقتصادية التي جاءت استجابة لتوصيات مشتركة للبنك وصندوق النقد الدوليين تبدأ بإلغاء الدعم عن بعض السلع الرئيسية ورفع أسعار خمس وعشرين سلعة أساسية، دفعة واحدة، ولا تنتهي بتخفيض قيمة الجنيه المصري بما يوازي 75% من قيمته في ذلك الوقت، وزيادة رسوم الدمغة والرسوم الجمركية ورسوم الإنتاج والاستهلاك وضرائب السيارات.

وانفجر الغضب الشعبي العارم من الإسكندرية إلى أسوان، ومزقت الجماهير الغاضبة في كل ميادين مصر وشوارعها الرئيسية صور بطل الحرب والسلام وقائد العبور، وهتفت الجموع الشعبية ضد سيدة مصر الأولى، وبدا أن كيل الناس طفح، وفشلت قوات الأمن في وقف الزحف الغاضب.

وكانت يناير 1977 موجة ثورية تكاد تضاهي في الحجم والغضب ثورة 25 يناير، وكانت كأنها “بروفة جنرال” لثورة يناير سنة 2011.

التاريخ خير معلم

ظل جيلنا طوال العقود الخمس الماضية قادرًا على تقديم التضحيات، وذاق مناضلوه مرارة السجن مرات كثيرة، وبعضهم سُجن لأكثر من 25 مرة، وأدى دوره، ربما ليس كما يجب، لكنه لَمْ يَأْلُ جهدًا، ولم يحجم عن مواصلة المسيرة، وخرج هذا الجيل ضد مبارك في السنوات العشر الأخيرة من حكمه، وواجهناه بلحمنا الحي في تظاهرات حركة كفاية التي فتحت الطريق ومهدت الأرض لاندلاع تلك الموجة الثورية العارمة في يناير سنة 2011.

تمسك جيلنا بالأمل في التغيير الذي انطلقت حناجره تنادي به منذ أوائل السبعينيات حتى كان لقاؤهم في الميادين يناير وفبراير 2011 كأنه اللقاء بالحلم الذي طالما سعوا إلى تحقيقه، وكانوا يتبادلون التهنئة في ميدان التحرير كأنهم حصلوا على جائزتهم الكبرى: “الحمد لله عمرنا ما راحش هَدَر”.

لم يتوقف سعيهم -بكل ما فيه من أخطاء- بعد اندلاع الثورة، وحاولوا، وما يزالون يقبضون على جمرة الأمل الذي لا يغادر عقيديتهم وإيمانهم الراسخ بحق هذا الشعب في أن ينتصر على كل مظاهر الظلم الاجتماعي، والقضاء على كل أشكال القهر السياسي، وأحقية مصر في وطن حر وديمقراطي، تصان فيه حقوق الإنسان، وتحفظ فيه كرامته، وتتحقق فيه العدالة الاجتماعية، وتؤسس فيه دول القانون والمواطنة.

**

كل ما أردتُ إثباته بكل بساطة هو أن “جيل يناير” يضم بين جنباته كل من تطلع إلى الانعتاق من حكم مبارك، وحلم بالحرية، ونزل إلى الشوارع منذ مطلع الألفية الثانية، ويضم بالتأكيد كل من شارك في الحملة ضد التوريث بالمظاهرة وبالكلمة وبالقلم، وفيهم تيار استقلال الجامعة ومنهم تيار استقلال القضاء، ومن ساندوهم بالتضامن أو بالتظاهر، ومن بينهم أعضاء الجمعية الوطني للتغيير، وكذلك كل الناشطين في حركة كفاية التي جعلت التظاهر في الشارع المصري أمرًا ممكنًا، وقدمت عشرات “البروفات” الناجحة للنزول إلى الناس، وكسروا حواجز الخوف والصمت والتبلد السياسي.

رسائل عتاب ومحبة

لستم أول جيل قاوم وبادر إلى صناعة المعجزة على أرض مصر، كانت قبلكم مقاومة، وكانت قبلكم معجزات وبطولات أنتم أبناؤها الشرعيين، وكل محاولة للنظر إلى الخلف بكل هذا التأفف والرفض والغضب ليس لها إلا نتيجة واحدة هي إخراجكم من معادلة المستقبل.

لا تنعزلوا عن حاضركم، ولا تعزلوا أنفسكم عن الماضي، ولا تقاطعوا الواقع فتنقطعوا، وسواء شئتم أم أبيتم أنتم لستم نبتاً شيطانياً، فلا تقطعوا جذوركم الممتدة في أرض الوطن، وإلا تحولتم إلى مجرد “لقطاء” يهيمون على وجوههم في أزقة الثورة المغدورة.

كانت أسوأ مؤامرة على “يناير” تسميتها بثورة الشباب، المؤكد أن الشباب كانوا هم الزخم، وهم المدد، وهم الوقود الذي أدار محركات الثورة، ونفخ فيها من روحه شبابًا وطاقة وحيوية لم يكن غيرهم مرشحًا للقيام بهذا الدور.

لكنها على الحقيقة كانت ثورة شعب ثار لكرامته قبل أن يثور للقمة عيشه، شعب خرج عن بكرة أبيه إلى الميادين بكل عنفوانه ليضع كلمة النهاية على فيلم طويل وممل وقاس، وعلى حكم كاد أن يبتلع البلد في جعبته، ويورثه لنجله.

من الخبل اصطناع تناقضات بين جيل حمل شعلة الثورة طويلًا وبين أجيال تتأهب لحملها، جيل من حقه، بل من واجبه، أن يحقق ويدقق، ليعرف، وليجد نفسه، ويحدد موقعه، ويتلمس دوره، ويواجه الردة على ثورة يناير.

أبناؤنا الأعزاء وبناتنا الغوالي:

أنتم أبناء إرث نضالي عظيم وضخم ومشرف، يمتد على مدار قرنين من الزمان، وأنتم من رفعتم شعار الثورة مستمرة، والنضال الوطني ديمومة لا تتمحور حول جيل، ولا تقصر على جيل، وإلا انقطع حبلها، وانفرط عقدها، وصارت تاريخًا يؤسف على ضياعه.

أنتم ورثة هذا النضال الطويل، وأنتم آخر طبعة من طبعاته، سيصدر الزمن طبعات آخري بعدكم، وتصدر ديمومة النضال من أجل حرية الوطن وتقدمه وديمقراطيته طبعات وراء طبعات، تنجز كل منها ما تقدر عليه، لتسلم إلى الأخرى أرضية أفضل وواقعًا أجمل.

هذا الاستمرار يفرض التجدد، ويرفض التجمد، وأخشى أن يأتي عليكم يومٌ توصفون فيه بمثل ما تصفون به من سبقوكم اليوم.

لا مجال للمزايدة بيننا، لا مزايدات جيل سبق بما قدم -وهو كثير- ولا مزايدات جيل لحق بما سوف يقدم، والوطن ينتظر منكم الكثير، مثل هذه المزايدات تعتبر ساعة تراجع، ولا تعني أبدًا ساعة لاستخلاص الدروس، حين تتوه بنا مثل هذه المزايدات في دروب فرعية فنحن إذن نمضي على الطريق الخطأ، ونسير في سكك مغلقة.

التغيير بالنقاط لا بالقاضية

في أيام الميادين، كان الشعب حاضرًا، فأبطل كل ما عداه، ووفر للنصر عدته، وحين انصرف انصرفت معه قوة الحضور المقرِّر، فراح كل طرفٍ يقرر لنفسه ما يشاء، وخرجت الثورة من الميادين لتدخل إلى دهاليز وفجاج معوجة، وانتهى بها المطاف إلى التوهة الكبرى، وعادت الأمور إلى ما كانت عليه، وإن تغيرت الوجوه، لنجد أنفسنا من جديد أمام المهمة نفسها، ولكن للأسف هذه المرة في غيبة الناس، سواء كانت غيبة تغييب، أم غيبة احباط.

والحال أننا أمام مشهد فيه: الشباب محبط، والقوى السياسية مهزومة ومشتتة ومحاصرة، والمجال العام مغلق، والشعب يعاني الأمرين، والمشاكل تحيط بالوطن من الداخل ومن الخارج، والكل ضد الكل، بالتخوين وباتهامات شتى تلقي المسئولية على الجميع من دون استثناء.

وأسوأ ما في تلك الحالة أن البعض ممن كانوا معًا في الميادين، يتصور أنه أمام مهمة إعادة السيناريو نفسه، بنفس تفاصيله، وكأن عجلة الأيام تدور على منوالٍ واحد، لا يتغير بتغير الظروف، ولا يتبدل بتبدل الأوضاع.

صناعة التغيير لا تقتصر على مظاهرة حاشدة، أو حتى على مليونيات غاضبة، ولعل درس يناير البليغ يؤكد أن التغيير بالضربة القاضية نتيجته معروفة، حتى لو أعطونا الرأس، سبق وأن فعلوها، وفرحنا برأس مبارك التي طارت، وتلهينا بها، سنوات ليخرج بعدها إلى بيته، وبقي الجسد قادرا على انتاج نفس النوعية من الرؤساء.

التغيير بالنقاط هو الحل؛ معارك صغيرة يفضي الانتصار في أي معركة منها إلى الدخول في المعركة التي تليها؛ معركة يحضر الشعب فيها ولا يغيب عنها، معارك تهمه ويهتم بها، معارك تدافع عن حقوقه ومصالحه ولقمة عيشه، وبغير ذلك فأبواب التغير الحقيقي تبقى مسدودة، والأمل في فتحها يظل بعيدا.

اليأس لا يليق بكم

رسالتي الأخيرة إلى شبابنا: لسنا في أفضل أحوالنا حتى يكون لدينا ترف “التنابز بالأجيال”، خاصة وأن من يقصرون يناير على جيلهم وحده هم الآن بين شهيد أو معتقل، أو مطارد داخل أم خارج مصر، أو مكتئب ركبته شياطين اليأس.

لقد تحققت نجاحات كثيرة كانت تشبه المعجزات، ووقعت اخفاقات كثيرة كانت أشبه بالسذاجات، ومهمة طلائع هذا الجيل هي أن تتقدم الصفوف من أجل دراسة ما جرى وأسبابه والدروس المستفادة من كل هذا، وأن تؤهل نفسها -بالعلم والعمل وسط الناس- لتولي قيادة سفينة التغيير المأمول.

واحدة من مميزات كوننا “عواجيز” هي قدرتنا على تجاوز اليأس، ورؤية الأمل من بين ضبابية الأجواء المحيطة، وبالرغم من كل المحبطات، نحن جيل امتلك موهبة الأمل كما سماها محمود درويش: (ليس الأمل مادة، ولا فكرة، إنه موهبة).

أبناؤنا الأعزاء:

اليأس لا يليق بكم، أملنا فيكم كبير، فلا تخذلونا، أو بالأحرى لا تخذلوا أنفسكم.

**