دعاني شاعرنا الكبير وأستاذنا العظيم “زين العابدين فؤاد” (أو العم زين وزين الأعمام كما يحلو لي أن أناديه) للمشاركة بصالونه العامر يوم السبت الماضي. ولما كنت ضعيفًا أمام دعوات العم زين، فَما كان مني إلا أن لَبيتُ على الفور خصوصًا وأن اللقاء كان عن رجلٍ أُدركُ -بِحُكم التخصص- فضله العظيم على الإنسانية كلها، إذ خرج كطاقة نورٍ عامرة بالحيوية والتحدي من أكثر بقاع العالم فقرًا ليُغَيْرَ من واقِعِهِ الأليم ثم يمتد مُبشرًا الإنسان في كل أنحاء الكوكب بأن لا أحلام عَصية على التحقق.

اقرأ أيضا.. الثنائي العجوز والتأسيس الجديد لليسار الديمقراطي

حَفَّزني لقاء “العم زين” على الكتابة عن الرجل الذي توارى خارج دائرة الضوء بعضًا من الوقت ثم ما لبث أن أحاط به ضياؤها ثانيةً بعد عتمة سجن امتد إلى ما يزيد عن الثمانية عشر شهرًا خلف القضبان. إنه “لويس إناسيو لولا دا سليفا” الذي لن أتعرض في هذا المقال لسرد وقائع أكثر تداولًا عن معاناته الشخصية التي ساهمت في تكوين وجدانه عبر تراكم خبراتٍ شديدة الإيلام كان من شأنها أن تدعوه إما للتقوقع مُحبَطًا غير مُلامٍ أو أن تدفعه ليتجاوزها مُنفتِحتًا على الكون بمفهومٍ عظيم الاتساع وهو ما قد حدث بالفعل، لكنني سأحاول قدر الاستطاعة تسليط بعض من الضوء على إنجازٍ واحدٍ من إنجازاته استلهم منه الكثيرون دروسًا بالغة الأهمية وأزعم أن أثره كان حاضرًا في الخلفية الذهنية لقادة العالم بالجمعية العامة للأمم المتحدة حين أقروا في سبتمبر 2015 وثيقتهم المعروفة باسم “تغيير عَالمنا- خطة التنمية المستدامة 2030” التي تم فيها تحديد 17 هدفًا و199 غاية لتحقيق التنمية بأركانها الثلاثة: الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.

حين تولى الرجل المسئولية لأول مرة في 2003، كانت البرازيل ترزح تحت أعباء التضخم وانهيار العملة الوطنية وتراكم الديون السيادية وعجز الموازنة العامة وتلاشي الاحتياطيات من العملة الأجنبية وفساد البيئة التي دمرها رجال المال. كان الأسوأ من كل هذا -على المستوى الاجتماعي- هو تفشي الفقر والجوع والبطالة والجريمة والمخدرات وهي أمورٌ لا يمكن للكلمات أو الأرقام أن تصفها بصورة أكثر دقة من أحاسيس من عاشها وخَبِرها فأبدع في ابتكار حلول شاملة للخلاص منها ونجح في تطبيقها للدرجة التي دعت البنك الدولي ذاته للثناء عليها وتشجيع دول أخرى على تطبيقها كشيلي والمكسيك وإندونيسيا وجنوب إفريقيا بل وحتى أمريكا ذاتها حين طبقت خطة “فرصة مدينة نيويورك” Opportunity NYC.

الانتخابات الرئاسية في البرزيل جرت بين دا سيلفا وبولسونارو

كان المنهج الذي اتبعه الرجل في إدارة عملية الخلاص من البؤس الاقتصادي والاجتماعي الذي كانت تعاني منه البرازيل يقوم على إتباع سياسة توازنية بين البرامج الاجتماعية للأسر الفقيرة والتوجه الحاسم صوب التصنيع والتصدير باحتواء رجال المال والشركات الكبيرة من خلال استمالتهم لقبول برنامج للضرائب التصاعدية التي وصلت إلى 40% مقابل منحهم امتيازات خاصة وأراض بالمجان وقروض بفوائد منخفضة مما جعل من فرص تحقيقهم للأرباح رغم التزامهم بالضرائب العالية تزيد عن مثيلاتها في حالة عدم تطبيق هذا البرنامج.

كان الإنجاز البديع للرجل هو برنامج “بولسا فاميليا” (بَدَلُ العائلة بالبرتغالية) الذي استهدف مساعدة العائلات الفقيرة التي بلغ عددها 11 مليون عائلة (نحو 64 مليون نسمة) والتي كان الدخل الشهري لكل منها لا يزيد عن 28 دولار بمنحها دعمًا نقديًا بـ87 دولار، وقد تم تمويل البرنامج بالكامل من حصيلة الضرائب التصاعدية التي كان يدفعها رجال المال بمنتهى الأريحية في مقابل الامتيازات الخاصة كما أسلفت. كانت عبقرية برنامج “بولسا فاميليا” تكمن في ربط استمرار حصول العائلات على هذا المبلغ بثلاثة أمور لابد من الالتزام بها كاملةً وإلا يسقط حق العائلة في هذا الدعم: أولًا) أن تحصل ربة العائلة على مبلغ الدعم، ثانيًا) أن يتم الالتزام بتعليم الأطفال، ثالثًا) أن يتم الالتزام بالرعاية الطبية للأطفال من تطعيمات وخلافه.

بعبارة أخرى وحسب المصطلحات التي استُحدِثت مؤخرًا، استطاع “دا سيلفا” بموجب هذا البرنامج تنمية الاستثمار في رأس المال البشري من خلال تمكين المرأة وضمان استمرارية تعليم الأبناء ورعايتهم الصحية مما أدى إلى تحطيم أسطورة توارث الفقر بين أجيال العائلة الواحدة. تم ذلك في سياقٍ اقتصاديٍ عامٍ منح في ظله امتيازاتٍ للمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر التي تديرها العائلات الفقيرة والتي تمد المصانع الكبرى بمستلزمات الإنتاج وقطع الغيار محلية الصنع بأسعار تنافسية من خلال توفير تمويلات لتلك المشروعات بأسعار فائدة منخفضة للغاية ما أدى إلى إنعاش أعمالها وهو ما انعكس في النهاية بصورة إيجابية على نمو أعمال المصانع الكبرى.

لم يكن “بولسا فاميليا” برنامجًا طوباويًا رومانسيًا يعمل فقط بمُحركاتٍ من نوازع الخير والرغبة الصادقة في تحقيق العدالة الاجتماعية لكنه كان مُعَزَزًا بأدوات علمية موضوعية اعتمد تأسيسها على فهمٍ عميق للواقع بأبعاده المختلفة وتقديرٍ مُحكَم للأهداف برؤية شاملة، فأفضى البرنامج إلى القضاء على الفقر والبطالة لا بالإحسان والمِنَح ولكن بالتوظيف الدائم والتشغيل المُنتِج اللذين تحقق من خلالهما قدرٌ كبيرٌ من الاكتفاء الذاتي ودَفَعَ بالتصدير إلى مستويات قياسية أتاحت مُراكَمةً للاحتياطيات بالعملة الأجنبية قُدِرَت بنهاية السنة السادسة من حُكمه بنحو 207 مليار دولار بعدما قام بسداد كل الديون الأجنبية التي بلغت نحو 250 مليار دولار ورثها من سابقه الرئيس “إنريكي كاردوسو”، بل وقام أيضًا في سابقةٍ تاريخيةٍ بإقراض صندوق النقد الدولي أثناء الأزمة المالية في 2008 مبلغًا وصل إلى 14 مليار دولار.

عاد “داسيلفا” بعد ما يزيد عن عِقدٍ من الغياب ليقود مجتمعًا قوامه 213 مليونًا من البشر يصنعون ناتجًا محليًا في حدود 2 تريليون دولار وهوما يفوق مثيله الروسي بنحو 300 مليار دولار -وفق آخر الإحصاءات المتاحة ببداية هذا الشهر- رغم كل المعوقات والإحباطات السياسية والاجتماعية التي تسبب فيها سَلَفه، ليطرح السؤال الأهم نفسه: هل تستعيد أسطورة “دا سيلفا” بريق إرثه التاريخي القديم بمزيد من الإنجازات المحلية والإلهامات العالمية في ظروف استثنائية لم يشهد التاريخ الإنساني الحديث لها مثيلا….هذا ما سنعرفه حين يعود الفينيق البرازيلي لقصر “ألفورادا” (الفَجر بالبرتغالية) الرئاسي في الأول من يناير 2023.