عندما بدأت روسيا غزوها لأوكرانيا في 24 فبراير/ شباط، قامت 47 محطة مترو أنفاق في العاصمة الأوكرانية كييف بإيواء حوالي 40 ألف شخص. بقي البعض لأسابيع في محطات المترو المزخرفة والمكسوة بالرخام، وحولوا المنصات والقطارات إلى معسكرات مؤقتة، باستخدام المراحيض وغرف الاستحمام -التي لا يتعامل معها عادة سوى موظفي المترو- واستهلاك الطعام والمياه التي يقدمها العاملون في المجال الإنساني، والمتطوعون المحليون.

الآن، بعد ثمانية أشهر، عندما بدأت روسيا حملة قصف جديدة باستخدام صواريخ كروز، وطائرات بدون طيار إيرانية، لاستهداف العاصمة الأوكرانية، والبنية التحتية الحيوية في جميع أنحاء البلاد. أصبحت المحطات -التي يقع بعضها على بعد 100 متر تحت الأرض- مرة أخرى مكان لجوء الآلاف من سكان كييف وحيواناتهم الأليفة.

يلجأ الناس إلى محطة مترو فوكزالنا في كييف يوم 24 فبراير / شباط مع انطلاق صفارات الإنذار في وقت مبكر من الحرب. دانيال ليال / وكالة فرانس برس

على خلفية أصوات القصف المتصاعد، تجول فابريس ديبريز، وهو صحفي فرنسي مستقل مقيم في كييف، بين أروقة ومحطات المترو التي قامت السلطات السوفيتية ببنائها قديما لمقاومة هجوم الناتو المحتمل. ليخرج بحكايات عدة من القابعين في انتظار نهاية الجحيم الروسي المتساقط من السماء.

يقول: بينما أوقفت سلطات المدينة في فبراير/ شباط، خدمة السكك الحديدية لما يقرب من شهرين لإيواء المدنيين الباحثين عن مأوى. واصلت السيارات الزرقاء والصفراء المليئة بالصناديق لمترو كييف، العمل في ظل تحذيرات الغارات الجوية شبه اليومية، التي يتردد صداها في المدينة منذ 10 أكتوبر/ تشرين الأول.

اقرأ أيضا: كيف يتضرر 4 ملايين طفل أوكراني من الحرب الروسية؟

مخبأ آمن

كتب ديبريز لفورين بوليسي: في وقت مبكر من صباح يوم 10 أكتوبر/ تشرين الأول، كانت سفيتلانا بريستوبا في شقتها في جنوب غرب كييف، عندما اهتز حولها كل شيء، نتيجة أقوى الانفجارات التي سمعتها منذ الأيام الأولى للحرب الروسية في أوكرانيا.

بعد الإمساك بحقيبة الطوارئ المعبأة مسبقًا، والنزول بسرعة إلى أسفل على السلالم، كان على أخصائية الاتصالات، البالغة من العمر 39 عامًا، وابنتها ليرا البالغة من العمر 15 عامًا، أن يقررا إلى أين يذهبان: ملجأ ضد القنابل داخل مستشفى قريب أو أقرب محطة مترو. كلاهما كان على بعد دقائق قليلة سيرا على الأقدام.

قالت سفيتلانا: ملجأ المستشفى ممتاز، جدران خرسانية سميكة، وتهوية، وأسرة، ومياه. لكن، عندما وصلنا إلى هناك، اتضح أنه لم يكن هناك إنترنت أو شبكة خلوية. لا توجد طريقة للاتصال بزوجي -الذي كان عالقًا في حركة المرور على الجانب الآخر من المدينة- أو إلقاء نظرة على الشبكات الاجتماعية، أو فهم ما يجري.

لذلك، خرجت سفيتلانا وابنتها مرة أخرى. هذه المرة إلى محطة مترو هولوسيفسكا، حيث كان مئات الأشخاص يبحثون بالفعل عن الحماية من الصواريخ الروسية.

تضيف المرأة: “كان موظفو المحطة ودودين للغاية، وأخبرونا على الفور أين يمكننا الجلوس. شعرت أنها لم تكن المرة الأولى بالنسبة لهم. يقول ديبريز: بقيت سفيتلانا وابنتها في المحطة لما يقرب من أربع ساعات، وهما ينظران بقلق إلى الأخبار على هاتفيهما. حتى تم رفع إنذار الغارة الجوية في منتصف النهار.

ينقل الصحفي الفرنسي عن فيكتور براهينسكي، رئيس مترو كييف، قوله “لطالما كان لمترو كييف وظيفتان الأولى كبنية تحتية للنقل، والثانية كبنية تحتية للدفاع المدني”. حيث تم بناء شبكة السكك الحديدية خلال الحقبة السوفيتية، وصُممت محطاتها لتتضاعف كملاجئ من القنابل أثناء هجوم محتمل للناتو.

لذلك، يجد العديد من السكان أنه من السريالي أن تلك المحطات نفسها تحمي المدنيين الآن من الصواريخ الروسية.

شابة تقرأ في محطة مترو تحت الأرض كانت تستخدم كمأوى من القنابل في كييف في 2 مارس/ أذار

مخابئ نووية

بناء على غرضها القديم، تحتوي محطات مترو كييف على أنظمة تهوية وترشيح متخصصة، بالإضافة إلى أبواب معدنية سميكة يمكن غلقها بإحكام في كل من المداخل فوق الأرض وفي الأنفاق. ولعقود من الزمان، كانت الأبواب المضادة للانفجار مجرد أشياء تثير فضول الركاب الذين يستخدمون نظام النقل.

“يمكنك أن تقول: أوه، انظر إلى أبواب الانفجارات. انظر كيف تم إجبارهم على الصمود في وجه ضربة نووية. كان الناس يبتسمون ويقولون كم هو مضحك أن نفكر في هذا”، كما قال أوليه توتسكي، المدون وخبير مترو كييف، خلال حديثه إلى ديبريز.

أيضا، تحدثت نيليا شامرايتشوك، رئيسة محطة مترو أوبولون في شمال كييف، والتي عملت في مترو كييف منذ عام 1983.  قالت: ما زلنا لا نستطيع تصديق أن هذا يحدث حقًا. التعليمات حول كيفية تحويل المحطة إلى مأوى، تمت كتابتها في الاتحاد السوفيتي، على الرغم من أنه تم تحديثها بالطبع منذ ذلك الحين.

وأضافت: حتى في العقود التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفيتي، كنا نتدرب بانتظام لاحتمالية شن هجوم. على الرغم من أن خطر الحرب النووية قد تبدد تمامًا بحلول ذلك الوقت، إلا أن نظام المترو سعى بدلاً من ذلك إلى الاستعداد لحرب كيميائية محتملة أو فيضانات. كنا نأتي إلى محطة المترو في الليل، ونقيّم الوضع، ونقوم بتدريب الإسعافات الأولية. لكن، بالنسبة لي، شعرت دائمًا وكأنها لعبة.

أصبحت هذه اللعبة حقيقية جدًا في 25 فبراير/ شباط، عندما وصلت القوات الروسية إلى ضواحي كييف، واختبأ ما يقرب من ألفي شخص خائف، جنبًا إلى جنب مع عشرات الحيوانات الأليفة التي جلبوها معهم – في محطة مترو أوبولون.

تواصل نيليا حديثها “كنا نتحدث دائمًا مع محطات المترو الأخرى، وسمعنا أنه في محطتين شمال أوبولون، كان هناك مظليون روس وعربات مدرعة، وقرروا إغلاق الأبواب المحكمة. ثم قالوا نفس الشيء في محطة أخرى، وسألني أحد الموظفين ماذا أفعل. وقلت “لنغلق الأبواب. لدينا ألفي شخص هنا. دعونا لا ننتظر حتى يبدأوا في إطلاق النار علينا”.

في النهاية، لم تصل القوات الروسية إلى أوبولون.

مدنيون يحتمون في محطة مترو أنفاق في كييف في 2 مارس/ أذار- GETTY

اقرأ أيضا: استراتيجية أوكرانيا لـ  “النفس الطويل”

ملاجئ خاصة

تدريجيًا، انخفض عدد الأشخاص الذين يحتمون من جحافل موسكو في مترو كييف. حيث هزم الجيش الأوكراني القوات الروسية، التي انسحبت في النهاية من منطقة العاصمة.

وعندما أعيد افتتاح المترو في إبريل/نيسان، أصبح رمزًا لقدرة المدينة على الصمود. في 23 إبريل/نسيان، اختار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي محطة مترو خريشاتيك في وسط كييف لعقد مؤتمر صحفي نادر. كما عاد إلى هناك في أوائل نوفمبر/ تشرين الثاني، لإجراء مقابلة مع المذيع التلفزيوني الأمريكي ديفيد ليترمان.

الآن، لا تزال محطة المترو واحدة من المحطات القليلة التي أغلقت نهائيًا منذ بداية الحرب. وذلك، على الأرجح، بسبب قربها من الحي الحكومي في كييف.

بعد ثمانية أشهر من الحرب، لا يزال إبقاء الملاجئ مفتوحة مشكلة. وينقل ديبريز عن بعض المسؤولين قولهم إن “الوضع أسوأ بكثير عندما يتعلق الأمر بالملاجئ الخاصة. يجب أن نقاتل معهم باستمرار حتى يؤدوا مهمتهم”.

بموجب القانون يُطلب من مالكي الملاجئ الخاصة إبقائها مجانية ومتاحة للجمهور عندما يكون هناك إنذار بالغارة الجوية. لكن السلطات المحلية هددت في 12 أكتوبر/ تشرين الأول، بإرسال الشرطة “لكسر أقفال” الملاجئ الخاصة التي لا يتم فتحها أثناء تنبيهات الغارة.

وبينما تسمح التطبيقات والخرائط المقدمة من حكومة كييف للمقيمين بالعثور على أقرب ملجأ. يؤكد ديبريز أن “محطات المترو الواسعة والمفتوحة دائمًا في المدينة غالبًا ما تظل الملاذ الأكثر وضوحًا وملاءمة”.

اختار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي محطة مترو خريشاتيك في وسط كييف لعقد مؤتمر صحفي كما عاد إلى هناك لإجراء مقابلة مع المذيع الأمريكي ديفيد ليترمان

مكان آمن

يشير الصحفي الفرنسي إلى أنه “عندما بدأت الصواريخ الروسية في السقوط على كييف مرة أخرى في أكتوبر/ تشرين الأول. استطاع مترو كييف التكيف مع الوضع، وتشغيل القطارات، وفي نفس الوقت، العمل كمأوى”. وعلى الرغم من استمرار القطارات في العمل أثناء إنذارات الغارات الجوية، تم إسقاط بعض القواعد.

“يمكنني أيضًا الدخول مع كلبي”. قالها دميترو كوشر البالغ من العمر 35 عامًا للصحفي الفرنسي. مضيفا أنه في 18 أكتوبر/ تشرين الأول، عندما قتلت الضربات الروسية ثلاثة أشخاص في كييف. انتظر كوشر ذلك اليوم مع بضع مئات من الأشخاص الآخرين في محطة مترو زولوتي فيرونا، التي تقع على عمق 95 مترًا تحت الأرض، ومزينة بلوحات فسيفساء معقدة، تصور أمراء كييفان روس في العصور الوسطى.

قال كوشر: كنا -هو وكلبه- ذاهبين لتناول الإفطار عندما دق جرس الإنذار من الغارة الجوية. لم نكن بعيدين عن المحطة، لذلك قررنا انتظار جرس الإنذار هنا.

هكذا، وقف كوشر وكلبه في دهليز أسفل السلم المتحرك الأول للمحطة مع العشرات من السكان المحليين الآخرين. بعضهم انتظر على الكراسي القابلة للطي، أو حصائر اليوجا.

وبينما كانت أجهزة التلفزيون المجاورة، عادةً، تعرض الإعلانات. صارت تعرض “ماراثون المعلومات” في أوكرانيا، وهو بث تلفزيوني خاص تم إعداده في الأيام الأولى للحرب، لتزويد الأوكرانيين بأخبار حول توصيات الحرب والسلامة.

يُنهي الصحفي الفرنسي جولته عند أول من تحدث إليه. حيث قالت سفيتلانا بريستوبا: “الأمر مختلف الآن مقارنة بـ 24 فبراير/ شباط. الآن أعرف إلى أين أذهب. أعرف مكان الملاجئ. ولديًّ حقيبة الطوارئ الخاصة بي جاهزة مع الطعام والماء. أعرف كيف أتصرف، لكن الخوف لا يزال قائما. لا أستطيع البقاء بين جدارين.

وأنهت حديثها: أريد أن أعرف أنني أستطيع أن أكون في مكان آمن لي ولعائلتي. المترو هو ذلك المكان.