رغم إقرارها أكثر من زيادة في الأجور والمعاشات، ورغم تعهداتها المتكررة باتخاذ إجراءات صارمة للسيطرة على أسعار السلع وضبط الأسواق، إلا أن حكومتنا الرشيدة لم تفلح في كبح جماح موجات التضخم المتتالية التي ضربت مصر خلال السنوات الست الماضية.

منذ أن بدأت الحكومة في تنفيذ «أجندة الإصلاح الاقتصادي» حتى يتيسر لها الحصول على قرض صندوق النقد الدولي نهاية عام 2016، وأسعار السلع والخدمات تتضاعف، ولم تنجح إجراءات الحماية الاجتماعية التي تم إقرارها في خفض معدلات التضخم الآخذة في الارتفاع وفقا للأرقام الرسمية.

قبيل الاعلان عن التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي نهاية أكتوبر الماضي للحصول على قرض جديد، اتخذت الحكومة عددا من الإجراءات الاستباقية منها رفع سعر الفائدة على الادخار والإقراض، وتحرير سعر صرف الجنيه مقابل العملات الأجنبية استنادا لآلية العرض والطلب في السوق، وهو ما أفقد الجنيه نحو ربع قيمته، مواصلا بذلك مسلسل الخسارة الذي بدأه في 2016 عندما كان سعر الدولار لا يتعدى الـ9 جنيهات.

في المقابل أعلنت الحكومة عدد من قرارات الحماية الاجتماعية منها رفع الحد الأدنى للأجور للعاملين في الحكومة والقطاع العام من 2700 جنيه إلى 3000 جنيه، وإقرار علاوة استثنائية بمبلغ 300 جنيه شهريا للعاملين بالدولة والمعاشات.

وقبل أن تُترجم إجراءات الحماية الاجتماعية التي أعلنت عنها الحكومة إلى واقع ملموس ضربت أسواق السلع موجة ارتفاع جنوني في الأسعار أكلت الزيادات المعلن عنها في رواتب العاملين في الدولة والمستحقين للمعاشات والذين لا يزيد عددهم عن 15 مليون مواطن، ونخرت في عظام العاملين بالقطاع الخاص الذين لم تشملهم تلك القرارت، والفئة الأخيرة هم غالبية الشعب التي تفشل الحكومة أيضا في الضغط أو حتى إقناع أصحاب الشركات برفع أجورهم.

تقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء الصادر يوم الخميس الماضي جاء كاشفا لحجم الأزمة التي حلت على المواطن المصري نتيجة لمتوالية الأخفاقات الحكومية الاقتصادية والمالية، فمعدل التضخم السنوي ارتفع في أكتوبر الماضي إلى 16.3%، فيما زاد معدل التضخم الشهري إلى 2.5%..

ورغم أن بيان الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء المشار إليه لم يغط موجة التضخم الجديدة التي بدأت بعد التحرير الأخير لسعر الصرف، إلا أنه أوضح مدى المعاناة التي تمر بها ملايين الأسر المصرية، فاحتياجات المواطنين الأساسية من طعام وشراب ارتفعت أسعارها بنسبة 23.9%، وفقا لما جاء في تقرير الجهاز.

الجهاز أرجع تلك الزيادة إلى صعود أسعار الحبوب والخبز بنسبة 49.7%، والأسماك 34.9%، والألبان والجبن والبيض 34.5%، والزيوت والدهون 34.2%، والسكر والأغذية السكرية 28.2%، والبن والشاي 21.6%، واللحوم والدواجن 17.8%، وزادت أسعار باقي السلع والخدمات بنسب تتفاوت بين 2.8% إلى 20%، ويمكن مراجعة معدلات تلك الزيادات في بيان الجهاز الذي نشر يوم الخميس الماضي.

ومع الضجة التي أثارتها الزيادة الأخيرة في أسعار السلع خرج علينا الدكتور مصطفى مدبولي رئيس الحكومة كعادته يتعهد باستمرار الآليات المُتبعة لمُراقبة الأسواق وتحقيق الانضباط بها، وتوفير المنتجات، وشدد على أنه لن يتم السماح بإخفاء السلع، أو المُبالغة في الأسعار، والمُضاربة أو الاحتكار، «سيتم التعامل بمنتهى الحسم مع المخالفين وفق الإجراءات القانونية».

تعهدات مدبولي وتهديداته لم تحرك ساكنا في الأسواق، فلم تحد من ارتفاع أسعار السلع المبالغ فيها أو تعيد السلع التي اختفت من الرفوف، لأن بارونات التجارة والصناعة المحتكرين قرروا تخزينها أو «تسقيعها» حسب المصطلح المتداول، رغبة في تحقيق مزيد من الربح عند بيعها في وقت لاحق بأسعار فلكية.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، الأرز المصري الذي لا نستورده ولا نصدره وكان إنتاجه حتى العام الماضي يكفي احتياجاتنا، صار كالممنوعات يتم تداوله سرا خارج السوق الرسمية وبسعر وصل إلى 25 جنيه للكيلو في بعض المناطق، بعد أن امتنع التجار عن ضخه في السلاسل والمحلات، رفضا للأسعار التي حددتها الحكومة، وتوقفت وزراة التموين عن صرفه على بطاقات الدعم.

وفي تبريره لفوضى الأسعار والأسواق والتي فشلت حكومته في السيطرة عليها، قال مدبولي إن «المواطنين يُدركون أن هناك أزمة عالمية، ومعدلات تضخم مرتفعة فى مختلف بلدان العالم»، وهي حجة ضمن حجج تصدرها الحكومة لتعلق عليها عجزها عن معالجة تلك الأزمة المتصاعدة والتي رفعت من منسوب الاحتقان والغضب الشعبي بشكل ينذر بالخطر.

بات واضحا أن أغلب الإجراءات الحكومية خلال العامين الآخيرين لم تؤد إلى تحسن ملموس في حياة المواطنين سواء الفقراء المستهدفين مباشرة بمثل هذه الإجراءات أو الطبقة المتوسطة التي تدفع ثمن تلك الإجراءات دون أن تشملها في أغلب الأحيان.

إذا كانت الحكومة جادة في علاج آثار ارتفاع معدلات التضخم العالمية -التي تشير معظم التقارير الدولية إنها تراجعت خلال الشهور الأخيرة-، عليها التحرك بجدية لربط الأسعار المحلية بالأسعار العالمية التي تتحجج بها لتبرر فوضى الأسعار التي ألهبت ظهور القادر والفقير.

رفعت الحكومة أسعار الوقود استنادا لأن أسعار النفط العالمية زادت بسبب الحرب الروسية الأوكرانية وعندما تراجعت أسعار الخام بنحو 30% خلال الأسابيع الماضية، أبقت لجنة التسعير التلقائي للوقود على الأسعار كما كانت في يونيو الماضي.

وليس من المنطق أيضا أن يرتفع سعر الدقيق في مصر، رغم تراجع أسعاره في الأسواق العالمية بأكثر من الثلث مقارنة بمستوياتها المرتفعة في بدايات الغزو الروسي لأوكرانيا أواخر فبراير الماضي.

ومن غير المعقول أن تتراجع أسعار زيوت الطعام عالميا طوال الشهور الأربعة الماضية، وبخاصة زيت النخيل القادم من جنوب شرق آسيا وزيت دوار الشمس القادم من شرق أوروبا، في الوقت الذي ترتفع فيه أسعار هذه المنتجات في مصر بوتيرة أسبوعية تقريبا.

إذا كانت الحكومة جادة في حماية المواطنين من نيران الأسعار، فعليها قبل أن تعلن عن زيادة محدودة في أجور بعض المواطنين، التحرك بجدية للقضاء على أسباب ارتفاع الأسعار بشكل غير مبرر سواء كانت ممارسات احتكارية، أو رسوم جبائية أو قيود حكومية على الاستيراد.

الحد من ارتفاع الأسعار سيكون أكثر فاعلية وشمولا من أي إجراءات دعم أو حماية حكومية جديدة تزيد العبء على الموازنة العامة من ناحية، دون أن يكون لها تأثير ملموس على القدرة الشرائية للفئات المستهدفة بعد أن تبتلعها الزيادة في الأسعار.

أخيرا، لا يمكن السماح باستمرار زيادة الأسعار في مصر بوتيرة أعلى كثيرا من الزيادة في الأسعار العالمية، لأن هذا الوضع يعني السماح لقلة قليلة من المستوردين والمنتجين المحتكرين بالتربح من الأزمة العالمية، ودفع قطاعات أكبر من المجتمع إلى دائرة الفقر والعوز الذي تقول الحكومة باستمرار إنها تسعى لمحاربته وتقليص مستوياته.