تمثل الدائرة الإفريقية أحد أهم دوائر السياسة الخارجية المصرية، وضمنها منطقة حوض النيل، والتى تؤثر بشكل مباشر على مصالح مصر، وتغيرت الخريطة الجيوسياسية بالمنطقة، نتاج المتغيرات المرتبطة بدور القوى الإقليمية والأجنبية واستمرار النزاعات في حوض النيل.
وضعت الحالة السياسية لدول حوض النيل، مصر في موقف المراقب الفعال، على سبيل المثال، دفع ملف المياه وأزمة سد النهضة الحكومة المصرية نحو إعادة ترتيب أولوياتها في القارة، وتفعيل أدوات الاتصال السياسي، وتعزيز الشراكة مع الدول الإفريقية في مختلف المجالات.
اقرأ أيضا.. على مسرح سد النهضة.. كيف تلعب الأطراف بأوراق الضغط ؟
تعاني بعض دول حوض النيل أزمات مركبة أبرزها تمسك بعض النخب العسكرية بالسلطة كما في السودان، والعنف القبلي والتوظيف السياسي للصراعات العرقية مثل إثيوبيا، بالإضافة إلى التنافس بين القوى الدولية والإقليمية ما يؤثر على استقلالية القرار الوطني. كذلك تشهد المنطقة حدة واتساع في نطاق النشاط الإرهابي العابر للحدود، لاسيما نشاط تنظيم داعش الإرهابي في وسط إفريقيا، وتعمل هذه العناصر مجتمعة على وضع الأمن الإقليمي في خطر، ما يجعل مصر في حالة تأهب من حيث ضرورة تفعيل نظم الإنذار المبكر، واتخاذ خطوات استباقية.
يقول الدكتور محمد عبد الكريم الخبير في الشأن الإفريقي، إن ثمة حالة من التأرجح بين الفوضى الشاملة وعدم الاستقرار وإرهاصات تجدد حروب أهلية في بعض المناطق. ورغم الدور المصري المهم في ملفات التعاون مع دول حوض النيل فإن المواقف الإثيوبية (والرواندية بدرجة أقل) وتشابكاتها مع قوى إقليمية ودولية مناوئة للحضور المصري، تمثل عقبة حقيقية أمام جهود مصر في الإقليم.
ويضيف عبد الكريم، تمثل تهديدات عدم الاستقرار في بعض الدول التي تقاربت معها مصر، لاسيما جنوب السودان والكونغو الديمقراطية وغيرها من التوترات، إعاقة لاستفادة مصر على المدى البعيد من جهودها الدبلوماسية في السنوات الأخيرة.
أوغندا وإريتريا مثالا
حلّت أوغندا في المرتبة 45 على مؤشر الإرهاب العالمي 2022، وترسم الحالة الأمنية فيها شكل النظام السياسي، وأنهكت قدرات الدولة على مدار ما يقرب من 18 عاما في مواجهة الحركة الإرهابية المسماة بـ”جيش الرب”.
ووفق منظمة “هيومن رايتس ووتش” اختطف ما لا يقل عن 25 ألف طفل في أوغندا، كذلك أدت أعمال العنف إلى نزوح ما يقرب من مليوني شخص من منازلهم فى الفترة ما بين عام 1987 إلى عام 2006.
وعلى الحدود الأوغندية، ينتشر العنف في جمهورية الكونغو الديمقراطية وجنوب السودان وإفريقيا الوسطى، ما جعل كمبالا عرضة للهجمات الإرهابية، حيث شهدت سلسلة من هجمات داعش. كان منها على سبيل المثال، تفجيرات الحي التجاري بوسط كمبالا عام 2021، بالإضافة إلى محاولة اغتيال وزير في الحكومة الأوغندية في يوليو / تموز في العام ذاته.
بجانب المخاطر الأمنية المتنامية، هناك العديد من العوامل التي ترسخ حالة عدم الاستقرار السياسي فى منطقة حوض النيل، على سبيل المثال، تعتبر أوغندا نموذجا لترسيخ السلطة في يد الفرد، وعدم تحقق عنصر تداول السلطة، حيث يقود الرئيس “يويري موسيفيني” البلاد لولاية سادسة منذ توليه السلطة في عام 1996، وكشفت الانتخابات العام الماضي مدى عنف النظام تجاه المعارضة، حيث وضع المرشح الرئاسي المنافس “بوبي واين” قيد الإقامة الجبرية بعد خسارته الانتخابات. كذلك في اليوم السابق لإغلاق صناديق الاقتراع، تم إغلاق الإنترنت في جميع أنحاء البلاد، واحتجاز مراقبي الاقتراع من أحزاب المعارضة، ما استدعى انتقادات شديدة من أصحاب المصلحة المحليين والدوليين.
بالتزامن مع العجز الديمقراطي في أوغندا، فإن اقتصادها ينهار تحت أعباء الديون، حيث ارتفع الدين العام بنحو 70 % في السنوات الثلاث الماضية، ويبلغ حجم الدين العام 18 مليار دولار، كما تعجز الحكومة عن الاستمرار في تقديم خدمات أساسية جيدة أو دعم حقوق المواطنين.
وبالنسبة لإريتريا تواجه السلطات اتهامات بارتكاب جرائم حرب نتيجة دورها في حرب حكومة إثيوبيا ضد عرقية التيجراي، حيث اتهم الاتحاد الأوروبي وكالة الأمن القومي الإريتري، بانتهاك نظام حقوق الإنسان العالمي، لما ارتكبته من حوادث القتل والاعتقالات التعسفية والاختفاء القسري والتعذيب.
ويعاني المواطنون ظروفا إنسانية سيئة، ففي أوائل عام 2021، دمرت القوات الإريترية المخيمات الشمالية في هيتساتس وشيميلبا للاجئين الإريتريين في تيجراي، مما أدى إلى تشتيت ما يقرب من 20 ألف لاجئ إريتري، وسعى مئات الآلاف من الإريتريين إلى اللجوء في إثيوبيا في العقود الأخيرة، حيث يوجد حاليًا حوالي 149 ألف لاجئ إريتري، واستمر القمع الحكومي بما في ذلك التجنيد الإجباري والاعتقالات الجماعية لملء صفوف الجيش.
كما وصفت هيومن رايتس ووتش الحكومة الإريترية بأنها واحدة من أكثر الأنظمة قمعية في العالم، ويعتبر اقتصاد إريتريا عرضة للصدمات، ففي عام 2021، عانى بشدة بعد غزو الجراد الذي دمر إنتاجه الزراعي، ووفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي، بلغ الدين العام 175.1% في عام 2021.
محددات دور القاهرة
وهناك عدة محددات رئيسية تؤطر طبيعة العلاقات المصرية مع الدول الإفريقية على رأسها ملف المياه، والأوضاع الأمنية في العمق الإفريقي، وكذلك مشاريع مصر التنموية، وترى هيام القزاز الباحثة في العلوم السياسية أن منطقة حوض النيل تعد أساسًا حيويًا للمصالح المصرية، فهي لا تقتصر على كونها مرتبطة بحقوق مصر التاريخية ومصالحها في مياه النيل، ولكنها ضمانا لاستقرار الملاحة في البحر الأحمر وقناة السويس؛ وأكدت أنه منذ عام 2014، ارتبط الدور المصري في المنطقة بصعود التهديدات ذات الصلة المباشرة بالأمن القومي المصري لا سيما أزمة سد النهضة، واهتمت مصر بتطوير استراتيجية خاصة بالنيل، من خلال التوافق مع السودان، وتطوير العلاقات الاقتصادية والعسكرية في وسط وشرق إفريقيا والقرن الإفريقي وحوض النيل.
كما يضيف محمد عبد الكريم الخبير في الشأن الإفريقي، بالنسبة لمسألة إقليم التيجراي فإن مصر التزمت سياسة الصمت تجاه هذه الأزمة لاعتبارات حساسيتها وتفاديًا لإثارة مزيد من التوتر مع نظام آبي أحمد في إثيوبيا الذي اتهم مصر والسودان بشكل مستتر بضلوعهما في إطالة أمد الأزمة، ورغم وجهة النظر التي تتوقع أن التهدئة في إقليم التيجراي تمثل -على نحو غير مباشر – خصمًا من المصالح المصرية في الإقليم. فإن هناكوجهة نظر مقابلة ترى أن المؤشرات الحالية ومضاعفات الأزمة الاقتصادية على جميع دول الإقليم تضغط باتجاه نهج “توافقي” والتخفيف النسبي من ثقل الارتباطات بقوى إقليمية خليجية او غيرها لصالح إطلاق مسار التعاون الإقليمي بين دول الحوض لتفادي مشكلات بيئية واقتصادية وأمنية أكثر خطورة في المرحلة المقبلة.
الحضور المصري
شهدت العلاقات بين مصر وأوغندا تطورًا ملحوظًا بعد زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى أوغندا في ديسمبر/ كانون الأول 2016. كما أبرمت القاهرة اتفاقية تعاون استخباراتي عسكري مع أوغندا في إبريل/ نيسان العام الماضي، ودفعت تلك الجهود المتنامية إلى اصطفاف أوغندا إلى جوار مصر فيما يخص الحق في مياه النيل.
وعلى المستوى الاقتصادي، تم توقيع مذكرة تفاهم بين البلدين. في عام 2010 تبرعت بموجبها مصر بمبلغ 4.5 مليون دولار لأوغندا لبناء عدة سدود، كما يشتركان في مشروع مكافحة الحشائش المائية منذعام 1998، باستثمارات تقدر بنحو 20 مليون دولار، وبلغ حجم التبادل التجاري مع أوغندا في عام 2020 حوالي 110 ملايين دولار.
تتأثر مصالح مصر في حوض النيل بصعود بعض القوى لاسيما إثيوبيا، إذ أن التقارب بين إريتريا وإثيوبيا مع إبرام اتفاقية السلام في 9 يوليو/ تموز 2018، بالإضافة إلى دورهما المشترك في الحرب ضد التيجراي، دفع إريتريا نحو التزام الحياد تجاه مسألة سد النهضة، على الرغم من مواقف إريتريا السابقة المعارضة للسد، وأثارت زيارة الرئيس الإريتري أسياسي أفورقي إلى موقع سد النهضة في 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، عدة تساؤلات حول تأثير هذا التقارب على التحركات الدبلوماسية المصرية لحشد دعم دول الجوار لمصر.
تعمل الصراعات السياسية والنزاعات القبلية والأزمات الاقتصادية التي تعج بها الدول الإفريقية على توجيه كامل جهود الدولة نحو حل مشاكلها الداخلية وهو ما يبدد إمكانية خلق موقف إفريقي موحد تجاه حل الأزمات الإقليمية لاسيما مشكلة الإرهاب.
تدخل القوى الأجنبية
كما تتقاطع مصالح مصر مع دور القوى الإقليمية مثل إسرائيل وتركيا وإيران وإثيوبيا في منطقة شرق إفريقيا، إذ أن تحول تلك المنطقة لساحة تنافس يخلق العديد من التهديدات التي تتعلق بإطالة أمد النزاعات، وحرمان مصر من بعض الفرص، وتصعيد نخب سياسية غير متوافقة مع الموقف المصري، في ظل العجز المؤسسي عن ضمان سيادة واستقلال الدول الإفريقية وإقرار الحل الإفريقي.
ويرى الباحث بهاء الدين عياد، أن الحضور المصري المتمثل في كثافة الزيارات المتبادلة من القادة والمسؤولين في دول حوض النيل إلى القاهرة والعكس، هدفه تحقيق الاستقرار وضمن ذلك ملف العلاقات مع السودان وجنوب السودان، فضلا عن تعزيز العلاقات مع رواندا وبروندي وتنزانيا والكونغو الديمقراطية وكينيا، من خلال تدشين العديد من المشروعات في مجال التعاون الاقتصادي والتكيف مع التغيرات المناخية.