في عام 1827، يقف كلوت بك ليعطي أول درس في التشريح التعليمي بمدرسة الطب بأبي زعبل، بعدها بأكثر من مئة عام، أي في بدايات القرن العشرين، يطلب من رسام روسي أن يرسم لوحة تصف ذلك الدرس لتوضع في متحف تاريخ الطب بالقاهرة، عوضا عن أن تكون الجثة في المركز تصبح هامشية، يحجبها المشايخ اللذين يتصدرون المشهد بالنيابة ويعيقون الرؤية عن مائة طالب معمم في الخلفية كما يحرس الجثة ضابط وعسكري، أحدهما عند الساق والآخر عند الرأس.

معنى اللوحة وفق الرسام الروسي: لقد اعترض الدين سبيل العلم، وقد اعتمد في تفسيره لذلك الحدث المؤسس، على كتابات كلوت بك، الذي أبرز في مذكراته حجم العناء الذي لاقاه في مواجهة المشايخ، وعداء المجتمع تجاه التشريح التعليمي وتجاه الطب الحديث بشكل عام.

قصة كلاسيكية، سردية عن عبء الرجل الأبيض في تنوير أمة جاهلة يمكن تتبعها في سرديات مصرية أكاديمية وتاريخية لاحقة، ترى في الحملة الفرنسية، وتولي محمد علي الحكم، لحظتين مفصليتين في تاريخ الأمة، بل يفصلان ما قبلهما عما بعدهما.

يخبرنا خالد فهمي قصة مختلفة من خلال تتبعه لتاريخ الطب الجنائي في مصر، عبر كتابه “السعي للعدالة” الصادر عن دار الشروق قبيل أشهر قليلة بترجمة لافتة لحسام فخر، وقد فازت نسخته المكتوبة بالإنجليزية، بجائزة أفضل كتاب في عام 2020، والتي تمنحها جمعية التاريخ الاجتماعي في بريطانيا.

منهج فهمي كما شرحه في أحد حواراته هو التاريخ قصة ممتعة، يسردها مؤرخ يحمل رؤية، كان ذلك درسه أيضا لطلابه. لا يمكننا أن نغفل أن خالد فهمي يستطيع بالفعل أن يحول وثائق جافة، إلى قصص محكية بأسلوب أدبي شائق، وكان من أيضا الذكاء والوعي، أن يترك نصوص تلك الوثائق الإدارية مكتوبة بلغتها دون تصحيح، مشيرا، ومفتونا بقدرة البيروقراطية المصرية على اختراع لغة حية وتطوير مصطلحات خاصة بها، وفي رأيي هي بالفعل لغة لها فتنتها وبلاغتها الخاصة، لأنها من البداية امتلكت شرط الحياة، الأصالة والتعبير التلقائي عن الزمن.

يركز الكتاب على رد فعل المصريين على الابتكارات التي طالت مناحي حياتهم خلال عقود التطوير والتحديث في القرن التاسع عشر، في رؤية تختلف عما سبق من المدارس التاريخية، في كونها تضم السياق العثماني كسياق أوسع من علاقة مصر بأوروبا، على اعتبار أن الدولة الخديوية ظلت حتى عام 1879، جزء لا يتجزأ من الدولة العثمانية، لذا فوفقا لخالد فهمي فدراسة علاقة القاهرة المتنامية بباريس ولندن ينبغي النظر إليها في ضوء علاقتها مع إسطنبول.

ينجح هذا المنظور في توسيع دائرة الرؤية بالفعل، وبدلا من أن تكون قصتنا، هي تطور متأثر بالوافد الأوروبي، تتحول إلى علاقة جدلية مرنة وقديمة وذات جذور بين الوافد والموروث، وبتمعن  فهمي  في سردية الباشا ودوافعه في تحديث الدولة، وكذلك سردية كلوت بك، يكشف من خلال قصص البسطاء التي يتتبعها عبر الوثائق، أن لا المصريين أو المشايخ وقفوا كعائق حقيقي أمام عمليات التشريح بسبب الدين، بل إنهم وثقوا في كل ما يتعلق بالطب الجنائي، بل أصروا في مواقف كثيرة على تشريح جثث ذويهم “سعيا للعدالة”، كرغبة تغلبت على ما يشعرون به من حرمة الموت ورهبته والاشمئزاز من الجثث، كما يبرز الثقة بالنفس لدى الأطباء اللذين رأوا في الطب الحديث إحياء لعلوم نشأت على أرضهم في الأساس، وهو شيء مختلف عن سردية الشعور بالدونية أمام “أعاجيب المستعمر وعلومه”.

يخبرنا الكتاب أن سعي المصريين للعدالة، عبر الثقة في إجراءات الطب الجنائي، لم يكن بسبب تأثير أوروبا، بل كانت عملية تطورت بدأب معقد، يناسب احتياجاتهم، فلا تجد غضاضة في تطوير الموروث (الفقه هنا على سبيل المثال) والعلاقة بين مجالس السياسة والمجالس الشرعية التي تطور عنها شكل النيابة والقضاء الحالي، ومالت إلى تبني الأدلة الظرفية، واستبدال نظام الحسبة العنيف في التفتيش على الأسواق بالثقة في حكم الكيميائيين والأطباء، أي لصالح ما يناسب العصر، ويرسم سردية جديدة، تخبرنا شيئا عن الحاضر: سعي المصريين للعدالة، كمواطنين، وكموظفين وحرفيين عليهم استيعاب التقنيات الجديدة والإيمان بها، قديم، وقد تم الأمر بكفاءة، وبناء على ما ينقص دولة في إطار عملية تحديث طويلة ومعقدة، وليس بناء على ما ينقص المدن الأوروبية وشعوبها.

كأن المقصود هو أن المصريين ليسوا منذورين لا للجهل ولا التغريب ولا القبول السلبي للظلم كما يردد التنويري ورجل الدين ورجل السلطة، يكفر الثلاثة بالمواطن، يختزلونه إلى فكرة بدائية مبسطة، بل أن ذلك الكفر بالنفس يمتد ليصير هو عينه سردية المواطن عن ذاته.

يتبنى خالد فهمي إيمانا بالشعوب بشكل عام في قدرتها على تحديد ما يصلح لها، وبالشعب المصري بشكل خاص، المقاومة تنشأ من الشك في غرض السلطة في التحديث وهو شك مشروع، إذا وجد المصريون سبيلا للعدالة سيتبنونه فورا. لابد إذن أن نتوقف عند الاختيار الدقيق لكلمة السعي للعدالة، سعي المصريين لا السلطة. كأن خلف أكثر من 500 صفحة من البحث الشيق والمتمعن، وفي لحظات شك عنيفة كالتي نمر بها، فكرة أساسية: الإيمان بالمواطن، الإيمان بالنفس، تبني الأمل.