مثل زهر مجفف بعناية تُصبح الذكريات، أنفاقا للتداعي فنسقط فيما مضى وكان، التداعي الذي يحفز كل المشاعر الحزينة بمضاعفاتها، وإحساس الكسر والخيانة، فنحن كثيرا ما نشعر أننا تم الإيقاع بنا، حتى وإن كان ذلك ليس حقيقيا، فمن ذا الذي سيقف للتدقيق وأنت كل ما يملئك أنك كنت غبيا ولم تفهم كل الإشارات التي علقت بعقلك، وكل الذين نبهوك للفخ؟

في التداعي تختلط حلاوة الذكرى بمرارة الخديعة، فيُصبح مذاقا لا ينتج عنه سوى ميوعة النفس، ورغبة شديدة في الإقلاع عن تلك اللحظات.

اقرأ أيضا.. ضعف الحب

العابرون لا يتركون أثر

حتى نصنع أثرا فإن ذلك يحتاج إلى وقت وظروف ملائمة، فإذا افترضنا أننا نريد ترك ختم على إناء من الفخار، فإن ذلك يحتاج أن يكون الفخار لينا، ثم نضع الختم ثم يجف حتى يبق له أثر يمكن القياس عليه واعتباره علامة في الحكي، وليس مثال الفخار مثالا عابرا لا يمكن القياس عليه، بل يمكن التطبيق عليه في نطاق واسع، فلماذا يتأثر البشر أسرع، ولماذا يترك البعض علامات لا تمحوها أية أحزان؟

فئة قليلة من البشر ليسوا عابرين بأية حال، فحضورهم يترك أثرا، يستطيعون حفر ابتساماتهم في روحك، أي كلمة منهم توثق في ذاكرتك، تلك الفئة ذات جاذبية شديدة، وأيضا مستقبلوها يتمتعون بضعف شديد، يرغبون في مرور أي شخص بحياتهم يرغبون في دفع السأم عن حيواتهم، هؤلاء معدون دومًا للخسارة، جاهزون للفقد.

كل القوانين الحياتية وحتى قوانين الفيزياء والطاقة تُشير إلى كون العبور السريع لا يترك أثرا، والاستثناء لا يمكن القياس عليه، فلماذا يترك البعض أثرا؟ إنه أنت الذي تسمح بذلك.

متلازمة الوحدة والضعف

ساعدت التطورات التكنولوجية في دفع السلوك الاجتماعي في جهتين متناقضتين، فبينما تعددت سبل التعارف، واتسعت دائرة المعارف والأصدقاء فإنها سجنت الكثيرين خلف الشاشة التي أصبحت نوافذها مغلفة بأسلاك من الوقت والظروف، وبات الأسهل والأيسر هو التواصل عن بعد، تصنع تلك الحالة ارتباكاتها النفسية فبينما لك عشرات الأصدقاء فأنت وحيد، بحاجة إلى بعض تفاصيل الحياة العادية، شخص يتشارك معك الوقت، والمكان، يصنع معك ذكريات وصور تدفع لحظات الوحدة بعيدًا وتؤكد على مهاراتك في الوصل، وكونك إنسان يتمتع بقدر من الجاذية يمكن أن يجد من يحبه وليس مجرد اسم وصورة ومجموعة من الرسائل.

إشكالية التواصل عن بعد أنها تؤهلك لتكون مستقبل جيد جدًا لأي فعل، حساس تجاه كل كلمة، يتضاعف لديك أي أثر، فلو أن شخص قدمك على نفسه في طابور فإن ذلك سيؤثر بك عظيم الأثر، لو قال لك شخص إنه يفتقدك ستتضاعف دقات قلبك، فأنت معد بقوة لتضخيم أثر أي فعل.

أسوأ ما صنعته بنا التكنولوجيا أننا بصورة أو بأخرى صرنا في جانب منا مرهفي الحس، بحيث إننا نبكي لأي مشهد، ونمنعن الإحساس بالفقد لو ابتعد شخص حتى لو يكن صديق.

الحاجة إلى حكاية للبقاء في الضوء

من تداعيات البقاء خلف الشاشة أنها أشعلت الرغبة في الظهور، الاحتياج الدائم للدعم النفسي، ومشاعر الفخر والإعجاب، توهجت رغبة الظهور، وبات مهما أن تصنع حكايتك، فلماذا سيتابعك الآخرين إن لم تكن لديك حكاية، فإنك تختلق الحكاية، تتفحص العابرين، وتتحرى أفعالهم، وتعيد تأويل المواقف والحكايات بحيث تخرج مظلوما في إحداها، مكسورا في بعض منها، وليس بالضرورة أن تكون مشاعرك زائفة، لكنها حالة من الفقد صنعتها بنفسك، وأنت تحفر خندقا حتى تبقى وحيدا، تلازم عابرين، وتسمح بعبور البعض دون تحري الصدق، اكتظاظ هاتفك بعشرات الأرقام والحسابات لا يعني أن لك أصدقاء، كما أن سماحك لكل طارق لبابك بالدخول لا يعني أنه صار قريبا، فلماذا تبكي إن خرج أحدهم من حياتك وهو لم يكن ذو مكانة حقيقية؟

أنت تحزن لأنك بحاجة إلى الحزن، بحاجة إلى أسباب حقيقية يقبلها عقلك والمحيطين بك حتى يمكنك البكاء وربما النواح، بحاجة إلى مسارات شرعية لتكشف وحدتك ومشاعر التخلي والفقد التي تشعر بها، والحقيقة أنه لم يتخل أحد وإنما أنت تخليت، أسست للتخلي وأنت تسمح للعابرين بالدخول، وأنت تتوحد مع عوالمك الوهمية، تندفع في علاقاتك، وتمنح من روحك، لن يترك أحد أثرا بروحك إلا إذا كنت أنت داعمه، جاعلا من نفسك فريسة، مؤكدا وحدتك، ومستقبلا جيدا لكل الانكسارات، كي تبرر جذب المزيد من العابرين، وللبقاء وحيدا خلف الشاشة فأنت بحاجة دوما إلى أن يتخلى عنك أحدهم، برغم أنك لو نظرت جيدا ستجد أن العابرين لا يتركون أثرا.