لم يشاهد الناس في مصر منذ سنوات المناقشات السياسية والحقوقية، التي جرت في مؤتمر المناخ بشرم الشيخ، وشهدت جدلا ساخنا، اتضح فيه وجود فارق كبير من حيث كفاءة الأداء والحضور الدولي والتأثير في الصحافة العالمية بين ممثلين الجماعات الحقوقية “المتعولمة” والمرتبطة بالمنظومة العالمية، وبين ممثلين عن قوى الداخل المحلية، التي لم يصمد أدائها من حيث الكفاءة وصلابة الحجة أمام أداء الجانب الأول، الذي كان لله اليد العليا في التأثير ومخاطبة العالم.

والحقيقة، أن الهجوم والاتهامات التي نالها جانب من “التيار المتعولم” ظلت تتعلق بارتباطاته الخارجية وتمويله. وهو أمر يجب أن تنظمه قوانين وقواعد شفافة، لا يحكمها أي هوي سياسي، وتطبق على الجميع بشكل صارم دون تمييز حسب الولاء السياسي، وبعد نقاش مجتمعي حقيقي.

أما الجانب الآخر في التعامل مع هذه التيارات يتعلق بتفهم أنه يمثل مدرسة سياسية وحقوقية تعتبر نفسها جزءا من المنظومة العالمية ومن القيم العالمية لحقوق الإنسان والديمقراطية، وستخسر معركتك معهم إذا اختزلت قناعتهم في حديث الوطنية والخيانة، لأنهم حاملين لأطروحة هي جزء من حالة عالمية. ومن الطبيعي الاختلاف معها، في مواجهة قوى أخرى وطنية داخلية، يختلف تعاملها مع العولمة عن هذا التيار ولديها أيضا مقولاتها الفكرية والسياسية.

والحقيقة، أن كلا التيارين حضرا في شرم الشيخ، وأن التيار “المتعولم” لم يجد في الحقيقة حجة مقابلة، بسبب أن جانبا مما يقوله صحيح، فيما يتعلق بالسلبيات المتعلقة بملف حقوق الإنسان، وخاصة قضية الحبس الاحتياطي وغيرها. والجانب الآخر أن من جاء معبرا عن قوى الداخل لم يكن لديه أي دراية بطبيعة المؤتمرات الدولية، ومعنى أن تخاطب العالم أو “الآخر” في هذه الحالة، حتى لو كان المؤتمر يعقد في بلدك. وهو أمر يختلف تماما عن مؤتمر محلي أو برنامج للتأييد في قناة محلية، لأنه يتطلب الانطلاق من البحث عن “اللغة العالمية”، إذا أردت أن يسمعك العالم، أو تعتبر أن الأمر غير مهم وتتمسك بخطابك المحلي الموجه للداخل.

ويكفي أن حديث أحد النواب لم يكن له أدني علاقة بما يجب أن يقال في “محفل دولي”، فالصورة الذهنية لدى معظم ممثلي الصحافة العالمية والمجتمع المدني العالمي أن من يدافع عن الحكومة، هو ممثل للسلطة التنفيذية، وليس نائبا في السلطة التشريعية. وهو منذ البداية خيار غير موفق أن يتطوع هو بالدافع عن الخطاب الرسمي، ثم قوله أن “فلان هاجم الجيش والشرطة” لأن القانون في مصر لا يبيح مهاجمة الجيش والشرطة. إلا أن معظم ممثلي الصحافة العالمية قادمين من بلاد تسمح وفق شروط بنقدهما وخاصة للشرطة. ولذا سيستغرب أي صحفي بريطاني أو أمريكي أو إسباني أو حتى من البرازيل أو شيلي أن يكون انتقاد الشرطة سببا في حبس ناشط، في حين أن كان في يده ببساطة شديدة أن يتحدث عن التحريض على القتل والاغتيال، وهي قضايا مدانة في كل بلاد العالم.

والحقيقة، لا أحد يطالب الدولة أو تيارات سياسية أو حتى أفراد بحتمية الاشتباك مع المنظومة العالمية. ولكن إذا قرر أي طرف أن يدخل بمحض إرادته في هذا “الاشتباك”، فإن عليه أولا أن يتحدث بلغة مهنية شفافة يبني عليها موقفه السياسي.

مناقشات شرم الشيخ تقول إن العالم يعرف جدل ثري ورؤى سياسية مختلفة، في قلبها التيار المتعولم المرتبط في أمريكا بتيار داخل الحزب الديمقراطي، وله في بريطانيا وفرنسا جماعاته المدنية والحقوقية المستقلة التي يدعم بعضها الرئيس ماكرون، يقابلهم يمين أو يسار وطني متفاعل مع العولمة بشكل نقدي وينطلق من البيئة الثقافية والاجتماعية والسياسية المحلية ولا يتعالى عليها لصالح قيم العولمة الأكثر إبهارا وحداثة.

وهناك القوى المحافظة من اليمين القومي من ترامب في أمريكا إلى نظرائه في فرنسا وإيطاليا وغيرهم.

وإجمالا يمكن القول أن التيار المتعولم في مصر يواجه إرث تجربتين كبيرتين انتميا لما سميته من قبل التيار” الوطني الحداثي” (تجربة الوفد 1919 حتى 1952 وتجربة عبد الناصر 1954 حتى 1970) بصرف النظر عن درجة النجاح والإخفاق، وهناك التيار المحلي المحافظ. وهو يأخذ أحيانا ثوب ديني أو وطني وفي الوقت الحالي تراجعت مهنيته وكفاءة أداءه لصالح شعارات التأييد، والتي قد تنفع في الداخل. ولكن مستحيل أن تسمع في الخارج.

إذا لم يكن هناك وعي أن التيار “المتعولم” له ممثلين حقيقيين يجب التعامل معهم بأنهم أصحاب رؤي ومشروع، وإن هذا سيتطلب من القوى المؤيدة الأقرب لقوي اليمين القومي المتشدد أن تدافع عن أطروحات لا أن تردد شعارات خاصة إذا كانت تنوي مخاطبة العالم وليس جمهورها المحلي.

وتبقي الإشارة إلى أنه رغم الفارق الذي أشرنا إليه في الأداء والتأثير العالمي بين التيارين في شرم الشيخ، وأن إصغاء العالم لخطاب ممثلي المنظمات الحقوقية المتعولمة لم يؤد إلى تغير يذكر في موقف القوى الكبرى من الحكم في مصر، وأن التمسك بالنظم المستقرة صار هدفا غربيا وأمريكيا، حتى لو كان على حساب الديمقراطية. صحيح أن هناك بعض الملفات ستحل مثل الإفراج عن بعض المحبوسين وعلى رأسهم “علاء عبد الفتاح”، خاصة عقب طلب العفو الذي قدمته شقيقته لرئيس الجمهورية، وهو في تقديرنا سيعجل بالعفو عنه.

على الجميع تأمل ما جرى في شرم الشيخ بتعقل، ومراجعة السلبيات التي ارتبطت بأداء قوى الداخل، وأن الجانب الحقوقي سيظل أساسيا في خطاب قوى الضمير في العالم أجمع، والمنظمات المدنية والحقوقية والتيارات الليبرالية واليسارية، ولكنه ليس العامل الأساسي في حسابات مصالح الدول الكبرى، وهو أمر صار واضحا للجميع.