فشلت دعوات التظاهر في 11-11 ولم ينزل أحد للاحتجاج، ومر اليوم هادئا على السلطة وأجهزة الأمن بعد أن أحكمت سيطرتها على البلد، ونجحت خطة التأمين في حصار كل الأماكن التي يمكن أن تكون مسرحا للتظاهر، حتى بدت مدينة القاهرة وكأنها خالية من البشر!

في انتشار الصور التي تبدو فيها القاهرة وكأنها بلا مواطنين، وتبدو فيها الكباري خالية من السيارات ما يدل على أن كل شيء ليس على ما يرام.

في القراءة الأمنية للصور التي انتشرت الجمعة يمكن القول إن الأمن مستتب والأوضاع مستقرة.

أما القراءة السياسية للصور فهي تدل على عكس هذا التصور تماما، وتشير إلى عدد من الحقائق لا يمكن إنكارها أو التغاضي عنها وسط “دوشة” غير مفهومة من رجال السلطة ولجانها.

والحقيقة الأولى في هذا الشأن أنه ليس من الطبيعي ولا المنطقي أن تبدو عاصمة البلد خالية من البشر والسيارات وكل ما له علاقة بالحياة. وليس من الطبيعي انتشار الآلاف من الضباط والجنود والمدرعات وغيرها من صور التأمين في العاصمة والمحافظات. هذا دليل كاف أن هناك شيئا ما ليس عاديا ولا طبيعيا، وأن هناك شعورا لدى السلطة وأجهزتها بأن الغضب ينتشر في ربوع المحروسة، وأن دعوات التظاهر، التي لم تشارك فيها أو تتبناها أي قوة سياسية أو شخصيات من داخل مصر، مؤثرة وقد يكون هناك استجابة شعبية لها.

وهو ما يعني أن السلطة لا تشعر بالاستقرار كما تحاول إيهام الناس. بل وتخشى من الغضب الشعبي الذي زاد بشكل كبير على وقع أزمات اقتصادية فادحة يعيشون فيها ويشعرون بها كل يوم.

أما الحقيقة الثانية فهي أن دعوات التظاهر قد صدرت من الخارج، ومع ذلك انتشرت بدرجة كبيرة في المجتمع، وتفاعل معها المواطنون سلبًا وإيجابًا، وناقشوها في كل مكان، وبدا أن كل مواطن يحاول أن يحسم موقفه منها ومن المشاركة فيها.

هذا الانتشار الكبير يكشف أن مساحة الغضب المجتمعي تزداد وتنتشر كما لم يحدث من قبل، وأن هناك -في الحد الأدنى- عدم رضا عام على الأداء السياسي للسلطة الحالية. فالدعوات الصادرة من الخارج للتظاهر لم تتوقف منذ سنوات، إلا أن التفاعل مع هذه الدعوة بالذات كان استثنائيا وملفتا بما يشير إلى تغيير واضح حدث في مزاج المجتمع وأبنائه، وكأن الناس قد أشهرت “كارت أصفر” للسلطة يشير إلى أن رصيد الصبر لدى المواطن أوشك على النفاذ، وأن بقاء الأوضاع السياسية والاقتصادية على حالها بات مستحيلا.

وأن الناس تنتظر جديدا يمكن أن يحدث خلال الفترة المقبلة، يرفع عنها الضغوط ويشير إلى تحسن جاد قد يطرأ على حياتهم.

في تعريف الاستقرار الذي يتبناه نظام الحكم في مصر قصور كبير وغير مفهوم. فالاستقرار لا يعني بالطبع قدرة السلطة، أي سلطة، على نشر قوات الأمن في الشوارع والميادين لمنع التظاهر، ولا إغلاق المدن والشوارع والميادين، ولا حتى قمع المظاهرات السياسية إذا نجحت في الخروج للشارع بالفعل. فهذا استقرار خادع وليس حقيقيا.،سينهار في نفس اللحظة التي يقرر فيها الناس كسر حاجز الخوف والخروج للشوارع رفضا لواقع سياسي واقتصادي يعيشون فيه.

وهو سيناريو ليس مستبعدا تماما ما دامت الأوضاع السياسية لا تتغير، وما دامت السياسات الاقتصادية تسحق الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وتحملهم بالكامل تكلفة ما تعتبره السلطة إصلاحا اقتصاديا.

الاستقرار في أي بلد في العالم هو تحصين المجتمع نفسه من كل “الهزات”، سواء كانت اقتصادية أو سياسية. وهو ما يعني أن النظام السياسي الحاكم يملك من المرونة، ما يجعله يتسع ليشمل جميع المواطنين بتنوعهم وأفكارهم ورؤاهم، ويتيح للجميع الحق في التعبير والنقد والاحتجاج السلمي.

المؤكد أن صور 11-11 توحي بأن شيئًا ما يحدث في المجتمع، وأن هناك أزمة حقيقية وكبيرة تسيطر على المناخ العام، وأن هذا الضباب لا يمكن أن يستمر، وأن التغيير بات ضروريا وواجبا الآن وليس غدا.

المطلوب الآن هو إدارك السلطة أنه لا يمكن للمجتمع أن يعيش بشكل دائم في حالة “صراع سياسي” مفتوح وبلا سقف، وأن البلد يحتاج إلى انتقال سياسي حقيقي، يشمل فتح المجال العام فورا وبشكل كامل لكل القوى والأحزاب السياسية، وإطلاق الحريات العامة، وتصفية ملف سجناء الرأي بشكل كامل ونهائي لينعم جميع من وضعوا في السجون باتهامات تتعلق بالرأي أو النشر بالحرية، ورفع الحصار الأمني عن المجتمع المدني والنقابات والصحافة والإعلام، وتأكيد وترسيخ استقلال القضاء، وكلها إجراءات تقلل من الاحتقان المجتمعي، وتخلق قنوات سياسية وقانونية ودستورية لاحتواء الغضب، ولم شمل المجتمع، وتهدئة المناخ السياسي المحتقن.

الاستقرار الجاد والحقيقي لا يعني أبدا فرض مزيدا من القبضة الأمنية على المجتمع، ولا توسيع دور الأمن على حساب السياسة، ولا قمع مزيدا من الأصوات المعارضة، ولا حصار الصحافة والإعلام. بل يعني إقناع الناس بأن القادم سيكون مختلفا بشكل كامل وجذري عن كل ما فات، وأن السياسات الاقتصادية ستكون أكثر عدلا، وأن حق أبناء البلد في الكرامة والحرية سيكون مكفولا كما نص عليه الدستور وبلا مناورات سياسية من أي نوع.

الاستقرار الجاد يعني أن تدرك السلطة أن البلد تغيرت، وأن الحكم على الطريقة القديمة، وبنفس الأدوات القديمة، قد سقط وانتهى، وأن أجيالا جديدة انفتحت على العالم بعلمه وحريته وحضارته، وأن قبولها بالحكم الفردي وبقمع الحريات وبإعلام “السامسونج” أضحى مستحيلا.

درس 11-11 الذي ظهر في الصور المنتشرة واضح للجميع، ورسالته وصلت لكل الأطراف: غضب الناس لا يمكن أن يستمر ساكنا ساكتا، والأسلم لهذا البلد هو اختيار التغيير المطلوب بديلا لأي سيناريوهات أخرى قد لا يتحمل البلد تكلفته، فالأمن وحده لا يكفي.. وهذه حكمة التاريخ.