كان الشعراويّ– رحمه الله- مختلفًا عن غيره من مشايخ الأزهر التقليديين: في ملابسه وفي لغته الهجينة التي تُفسّر النص الجماليّ الأعظم بالعامية المصرية، وفي خروجه على ملايين المسلمين من التليفزيون، أوسع المنصات انتشارًا في العقود الأخيرة من القرن الماضي.. فتحوّل من مجرد شيخ تقليدي إلى علامة ثقافية مكتنزة الدلالة.. ولكن هذا كلّه ليس كافيًا لصناعة تلك الأسطورة الخاصة التي حازها؛ هناك أسباب أخرى أسهمت لا تقل أهمية عمّا ذكرناه، وتتمثل في الآتي:

اقرأ أيضا.. طاقية الشيخ الشّعراويّ (1- 2)

السِّياق الاجتماعيّ والسياسيّ

لا يمكننا قراءة أيّ علامة بمعزل عن السياق الاجتماعيّ وما يتصل به من تحولات اجتماعية وسياسية؛ فكل علامة مرهونة بغيرها من العلامات التي تختلف أو تتماثل معها، بما يعني أنها جزء من كُلٍّ أكبر منها، وعبر تفاعلها مع محيطها تتشكل دلالتها.

وفي هذا الصّدد، لا يمكنك أن تفغل السياق الذي انتشر فيه التليفزيون بين المصريين، فقد تزامن ذلك مع انحسار المدّ الاشتراكيّ بمرجعيته الماركسيّة في مصر، وذلك عقب تولي الرئيس السادات (1918-1981) حُكْم البلاد خلفًا للرئيس الاشتراكي عبد الناصر (1918-1970) الذي انتهى عهده بهزيمة عسكرية قاسية، ومعها انتهى المشروع القومي والمدّ الثوريّ..!

كانت هذه الهزيمة– بالنسبة للإسلاميين ولغيرهم- نتيجة طبيعية لما سبقها من مقدمات، ولكلّ فريق أسبابه في ذلك؛ فالمدنيون يرونها حصادًا لحقبة من الاستبداد والقمع، والإسلاميون– وعلى رأسهم الشعراوي- يرونها قضاءً عادلًا من قبل السماء نتيجة التحالف مع الإيديولوجيا الماركسية المادية الملحدة للاتحاد السوفيتي السابق، ولا يجب أن ينتصر سلاح هذه الإيديولوجيا في بلاد المسلمين..!

من الصّعب هنا أن تفسّر موقف الإسلاميين أو أن تفكك تناقضاته، وهكذا كل الإيديولوجيات والعقائد؛ يصعب عليها التفاوض أو تقبّل الحلول الوسط؛ فهي حدّية بطبيعتها، والتفاوض على الجزء طعن في الكلّ.. فالإسلاميون– كما هو معروف- يعادون الأفكار الاشتراكية، رغم مركزية مفهوم العدالة الاجتماعية فيها، وعمليًّا قد يفضلون عليها– مضطرين- أوروبا الـ(رأسمالية) (المسيحية) رغم توحشها الاقتصادي.. ويمكنك أن تردّ هذا الموقف إلى أحداث التاريخ وإلى تفسير محدد للآيات (1- 7) من سورة الروم، حيث فرح المسلمون الأوائل بنصر الروم، أهل الكتاب، على الفرس الوثنيين، وذلك وفق تفسير ابن كثير، وكما ردّده الشعراوي فيما بعد.

الشعراوي والسادات ومبارك

ولعلّكَ ترتاب في دقّة هذا القياس، أو في ذلك التفضيل الآن، وتراه ساذجًا؛ إذ يقوم على أساس متوهّم أو غير موجود؛ فلا سند له من الواقع ولا سند له من التاريخ؛ فقد قوّض المسلمون الأوائل دولتي الروم والفرس معًا، ولم يترفقوا بالروم لمسيحيتهم ولم يشتدّوا على الفرس لوثنيتهم..! كما أن بلادنا– في العصر الحديث- لم يحتلها الملحدون أو الوثنيون، وإنما استباحها الغربيون من أقصاها إلى أقصاها، وما أكثر من قتلاهم من العرب، وما أعظم ما نهبوه من ثرواتنا..!

الأمر إذن لا علاقة له بمنطق الدين أو الإيمان والكفر، وإنما هو منطق القوة والصراع والتدافع، كان كذلك في العصور القديمة، وهو كذلك في العصور الحديثة، ولا يُوجد– على الأقل في المستقبل المنظور- ما يؤشر على تغيره، رغم كثرة بريق الشعارات وأماني الدعوات..!

وبصرف النظر عن اختلافنا المحتمل حول هذه النقطة، فالجميع يُقرّ بأن هزيمة 1967م كانت مؤثرة نفسيًا وثقافيًا، وفرضت على كثير من الكُتّاب والمبدعين التفكير في جدوى المسار الذي سبقها كلّه.. لقد أوجدت– وفق جورج طرابيشي- حالة من النكوص أو “الرَّضة” النفسية التي جعلت المثقفين العرب يعودون إلى التراث بحثًا عن حلول لإشكالات الحاضر…!

كان الرئيس السَّادات النجم السياسي الأبرز في تلك المرحلة، بملابسه الأنيقة، ولغته الخطابية عالية البلاغة، خاصة بعد انتصاره في حرب أكتوبر (تشرين) 1973م.. ولا أريد أن أعيد عليك العبارة الشهيرة التي امتدح بها الشيخ الشعراوي السادات تحت قبة البرلمان؛ فما يهمّ هنا هو دلالتها على التقدير المتبادل بين الشيخ والرئيس، ولعلنا لسنا في حاجة إلى الكلام عن التشابه بين النجمين الكبيرين، ولا إلى دور التليفزيون في تقديمهما للمشاهدين على هذا النحو المؤثر، كما أننا لسنا في حاجة إلى التذكير بالتوافق السياسيّ والثقافيّ بين السادات والإسلاميين عمومًا؛ فقد تشكّل بينهما ما يمكن وصفه بـ”الحلف” السياسي الديني، ولكلِّ طرف غايته من هذا الحلف.

العلم والدين

كان العالم مع الرأسمالية الغربية على موعد مع الاكتشافات العلمية المذهلة، وكل اكتشاف علميّ يضاف– بالتأكيد- إلى رصيد الإنسان، ويمنحه مزيدًا من الثقة بذاته، والفخر بمنجزه، بل يمنحه الإحساس بمركزيته الكونية.. ولم تصل أوروبا إلى هذه النقطة إلا بعد استبعاد الدين من الحياة، وحصره في منظومة طقسية لا تغادر جدران الكنائس، وفي المقابل أطلقت يد التجريب العلمي بلا قيد ولا شرط، وكما ترى؛ فالعلم يقدِّم كل يوم كشفًا جديدًا، وينتقل من أجواز الفضاء البعيدة إلى خلايا الإنسان الدقيقة..

لقد بدا الأمر وكأن العلم يأخذ موقع الدين ويحلّ محلّه في المجتمع المعاصر، كما بدت أوروبا– بالنسبة لملايين الشباب من العرب والمسلمين- المثال الذي يجب أن يُحتذى، وزاد إلحاح العلمانين على استبعاد الدين من الفضاء العام، وتوالت الكتابات التي تقدم قراءات مختلفة المشارب والإيديولوجيات للتراث الديني بشكل خاص، بعض هذه الكتابات حمَّلَتْ هذا التراث أسباب التأخر الحضاري الذي نعيشه، مستبعدة بشكل واضح الخطابات الأخرى المتصلة به والمتقاطعة معه والمؤثرة فيه، وفي مقدمتها الخطاب السياسي الاستبداديّ..!

في هذا السياق الذي تصّدر فيه العلم الوعي والوجدان، كنا على موعد مع خواطر الشعراوي، فبدا وكأنه اليقين الذين يردّ الناس إلى أنفسهم وإلى دينهم، إنه يحدثهم عن يقينهم الديني بلغته التي تخلط العامية المصرية بالفصحى الوسيطة، وبأداء شفاهيّ مؤثر وغير مسبوق في مثل هذا المقام. (يمكنك أن تعد أداء الشيخ نموذجًا للشفاهية الثانوية أو الشفاهية الجديدة التي وجدت مع التليفزيون وتأكّد حضورها أكثر مع وسائل التواصل الحديثة الأكثر جماهيرية).

فالشعراويّ يواصل تقديم خواطره حول القرآن الكريم بانتظام، ويجعل التدليل العقليّ على وجود الله غاية له.. إنه ينتقد الدارونية والصدفوية والتوالد الذاتيّ، ويتحدث- بيقين غير مسبوق- عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، ويعيد تأويل الآيات الكريمة لتنسجم مع الاكتشافات العلمية، وليؤكد –على سبيل المثال- أسبقية القرآن في الحديث عن كروية الأرض، ومسؤولية الكروموسوم (الذكري) عن تحديد نوع الجنين.. الخ. تسعفه في ذلك كله ذاكرة لغوية استثنائية، وثقافة عربية واسعة تمكنه من استدعاء الحكايات والشواهد والأمثال، وتتعمق برهافة في الدقائق الدلالية بين الصيغ الصرفية والتراكيب اللغوية..!

إنه يفعل ذلك بأداء جسديّ عفويّ، وبهيئة مسرحيّة تتنزل فيها المعرفة المتنوعة من أعلى إلى أسفل، حيث يجلس على كرسي مرتفع، والمتابعون يلتفون من حوله، يتلقون منه الأدلة بتسليم تامٍ؛ فلا أحد يوقفه معترضًا أو مستنكرًا أو مستفهمًا، ومعهم ومن خلفهم يلتف ملايين المسلمين حول صورة الشيخ التي تطلّ عليهم من التليفزيون، يتجاوبون معها ومع تخريجاته بتسليم مماثل، وتفاعلٍ وجداني تكشف عنه عبارات الإعجاب والدعوات المباركة أن يطيل الله عمر الشيخ حتى يكمل خواطره المتصلة حول القرآن الكريم.

الشعراوي في أحد دروس تفسير القرآن

كان الشعراويّ يقين الناس، وهو لا يرضيهم أو يطمئنهم فحسب، وإنما يردّ نيابة عنهم وعن دينهم على هذه الفئة التي يُطلق عليها جماعة “المستشرقين” التي تحارب الدين وتُشَكِّك في آيات الله، إمّا جهلًا بدقائق اللغة، وإمّا جهلًا بمقاصد الشريعة، وإمّا عن قصد وسوء نية.

بالتأكيد لك أن تلاحظ التوازي بين الخطاب الديني الذي يقدمه الشيخ هنا والخطاب السياسيّ الاستبداديّ الذي يرتاب في المختلفين والمعترضين ويعتبرهم طرفًا في مؤامرة خارجية، وهذا شأن الخطابات الأحادية مهما اختلف حقل اشتغالها؛ إنها تفترض صواب منطقها ودقة حُجَجِها، وترتاب في الاختلاف وأهله..!

الخطاب الديني هنا هو الوجه الآخر للخطاب السياسي؛ فالشيخ -مثله مثل السياسي– لا يفترض كما لا يفترض سامعوه- بعد أن تماهوا معه وباتوا جزءًا من فكرته- أنّ بعض الأسئلة التي ينسبها إلى المستشرقين قد تشغل المسلم العادي، كما أنه لا يفترض حُسْن النيّة في السائلين أو المختلفين. (لاحظ أن الشعراوي لا يحرص على ذكر اسم هذا المستشرق أو ذاك، ناهيك عن ذكر المصدر الذي وردتْ فيه الحُجّة/ التُّهمة التي يردّ عليها، وكأن هذا المستشرق لا هُويّة له أو كأن المستشرقين كتلة واحدة أو جماعة واحدة لا مهمة لها غير تشكيك المسلمين في دينهم).

لقد حاول الشعراوي أن يصل بين القرآن والعلم، ليس على طريقة القدماء في التوفيق بين (المعقول والمنقول) وما يقتضيه ذلك من بناء الحقائق المنطقية والفكرية، ولكنه كان يفعل ذلك على نحو أكثر بساطة؛ إذ يكتفي بالتأكيد على أسبقية القرآن لهذه الحقيقة العلمية أو تلك.. كان ذلك عملًا مؤثرًا في جماهير المسلمين الذين شارك أجدادهم في دورة الحضارة في العصور الخوالي، ولكنهم اليوم يكتفون بمتابعة أخبار العلم دون مشاركة منهم في شلاله الهادر الذي يؤكد كل يوم تراجعهم وحاجتهم إلى التفكير والاجتهاد المختلف.. فما كان منهم إلا أن تفاعلوا مع كلام الشيخ وأنزلوا أحاديثه من نفوسهم وعقولهم منزل التقدير والإجلال..!

(يمكننا هنا أن نتذكر البرنامج الشهير للدكتور مصطفى محمود “العلم والإيمان”- بثّ أول مرة في1971م- بطبيعته الوعظية التي دمجت– بلغة بسيطة تناسب التليفزيون أيضًا- بين أفلام العلم الغربي المصورة وآيات القرآن الكريم.. ولهذا حظي بمشاهدة كبيرة، كما يمكنك أن تتذكر قوة العلاقة بين الدكتور مصطفى والرئيس السادات الذي سيغدو الرئيس المؤمن، رافع شعار: دولة العلم والإيمان).

البليغ التام

القول البليغ- وفق البلاغة العربية- هو الذي يراعي فيه المتكلم “أحوال” المخاطبين، وعبارة “أحوال” المخاطبين عبارة دقيقة ومركزة؛ إذ تتضمن وعي المتكلم الدقيق بالأحوال النفسية والاجتماعية والسياق التاريخي، وما يحمله هذا المخاطَب (بفتح الطاء) من قيم وتصورات عن الماضي وما يرجوه في الحاضر، وما يشغله من أسئلة وهموم..الخ. ولقد كان الشعراوي– الذي لا خلاف حول ذكائه- يراعي كل تلك الأحوال، ويُكيّف خطابه ولغته ليجيب على أسئلة المشاهدين التي تدور في عقولهم وتقلق نفوسهم، إنه يحدثهم بما يحبون أن يسمعوا، فتماهوا معه – واقعيًّا- حيث يجلسون أمامه ويتحلقون حوله داخل المسجد الذي تبثّ منه الحلقة، كما تماهوا معه- افتراضيًّا- حول التليفزيون في البيوت.. فكان بدهيًّا أن يعيدوا إنتاج كلامه وحُجَجه التي يتلقونها منهة حتى لكأنها حججهم وكلامهم..!

وبعبارة أخرى، لقد قدم الشعراوي– رحمه الله- خطابًا توفّرت له كل شروط الكفاية: الإنجازية Performance والنفسية والحضارية والموسوعية الثقافية؛ إنه يمتلك معرفة راسخة باللغة والأدب والتاريخ.. وهو لا يُوظِّف تلك المعارف في تدعيم حججه فحسب، وإنما يؤكد من خلالها جدارته بالمكانة التي أنزله إياه جمهوره العريض، وكما تعلم، فنحن لا نسلم عقولنا للجهلاء ولا لأصحاب الحجج الضعيفة، وما أبعد الشيخ عن أولئك وهؤلاء.!

لقد أفهم الشعراويّ عامّة الناس معاني الخاصة، وزاد الخاصة إيمانًا واقتناعًا بمواقفها ومعتقداتها، فكان البليغ التام الذي أشار إليه الجاحظ بقوله:
“إن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك، وبلاغة قلمك.. أن تُفهم العامّة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ الواسطة التي لا تلطف عن الدهماء ولا تجفو عن الأكفاء، فأنت البليغ التام”. (البيان والتبيين)

مكاسب وخسائر

الشيخ الشعراوي

قد لا نختلف كثيرًا إذا قلنا إن “الشيخ الشعرواي” علامة ثقافية أنتجتها الثقافة والسياق والهزيمة الحضارية وسؤال الشك والقلق، بقدر ما أنتجتها الأنساق السردية والتصورات العميقة في أذهان المشاهدين عن دينهم وحضارتهم وتاريخهم.

ولن نختلف أيضًا إذا قلنا إن صورة الشيخ – ببساطتها المعهودة – تستدعي قيمًا عظيمة التأثير، ولكن الجانب الأكبر من تلك القيم تشكّل في الماضي البعيد.. بما يعني أن الشيخ كان الجواب التراثي على إشكالات العلم والواقع، كان طمأنينة الماضي التي أطفأت – إلى حينٍ- قلق سؤال الحاضر.

كان الشيخ مجرد صيغة، ولكل صيغة مكاسبها تمامًا كما أن لها خسائرها، فما الذي كسبناه وما الذي خسرناه؟ ومن أين نبدأ؟ من تفكيك الخطاب الديني التراثي وحده؟ أم من تفكيك مجمل الخطابات التي جعلتنا على ما نحن عليه، وفي القلب منها خطاب الاستبداد السياسي الذي يغزو مجمل الخطابات، ويضفي عليها من حِدِّيته التي ترفض كل ما عداها من رأيّ أو قول؟