ما إن ينتهي مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي (COP27) المقام في شرم الشيخ، ستتوجه الأنظار إلى كأس العالم في قطر حيث ستكون صافرة البداية على وشك الانطلاق. والمؤتمر -الذي دارت بين قاعاته مفاوضات ومناقشات حول التكيف والتخفيف من آثار التغير المناخي، وحول الأضرار والخسائر التي يتوجب على دول الشمال العالمي تحملها- لم يكن ببعيد في أحداثه عن المونديال.

اقرأ أيضا.. الأقل تلويثا والأكثر تضررا.. آثار مدمرة للتغير المناخي على حقوق الإنسان والصحة والغذاء في إفريقيا

ففي الجناح القطري الذي شهد زيارات من مئات المشاركين، سعت الدوحة لإبراز تجربتها في تنظيم كأس عالم “محايد كربونيًا” -لأول مرة في تاريخ البطولة-، وتقديم نماذج من الملاعب الصديقة للبيئة. كما حرص آخرون على إلقاء نظرة على المشاريع الوطنية التي تحافظ على البيئة.

جناح دولة قطر في مؤتمر المناخ cop 27

وانضم وزير خارجية قطر، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، إلى مختلف المسئولين والقادة من جميع أنحاء العالم في المؤتمر رفيع المستوى في شرم الشيخ. كما حضر الاجتماع وزير البيئة وتغير المناخ الشيخ فالح آل ثاني.

في عام 2012 -بعد عامين فقط من فوزها باستضافة المونديال- جمعت قطر صناع التغيير من خلال استضافة الدورة الثامنة عشرة لمؤتمر المناخ، حيث قادت المناقشات الرئيسية حول تحقيق التوازن بين التنويع الاقتصادي والتكيف والتخفيف.

التخفيف والتكيف هما آليتان لمعالجة أو مقاومة تغيرات المناخ. إذ تطرح آليات التكيف حلولا للتأقلم مع ضرر تغيرات المناخ الذي وقع بالفعل. بينما تعمل  آليات التخفيف على تقليل مصادر انبعاثات الغازات الدفيئة التي تسبب تغيرات المناخ.

ومنذ إعلان فوز الدوحة بتنظيم المونديال -كأول بلد عربي وإسلامي- سعى المسئولون لوضع خطتهم لمكافحة آثار التغير المناخي المتعلقة بالبطولة وأعلنوا أنها ستكون “صفر انبعاثات كربونية”. لكن خططهم لطالما كانت مثار انتقادات من نشطاء وخبراء المناخ الذين فندوا الإدعاءات القطرية وأبرزوا أنها “مثار شكوك” و”مضللة”.

كيف يؤثر المونديال على المناخ؟

يقول الموقع الرسمي للاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) إنه سينتج عن البطولة انبعاثات ضارة بالمناخ. ومن بين فئة الانبعاثات الرئيسية تنبع 51.7% من انبعاثات السفر عبر الطيران، و20.1% من أماكن الإقامة، و18% من بناء الأماكن الدائمة، و4.5% من إنشاء المرافق المؤقتة، و1.1% من الخدمات اللوجستية.

والتزم كل من فيفا واللجنة المنظمة للبطولة واللجنة العليا للمشاريع والإرث في قطر بتقليل وتعويض جميع انبعاثات الكربون المتعلقة بكأس العالم. ويشير موقع فيفا “يمكننا جميعًا قياس انبعاثات الكربون وتقليلها وتعويضها ولعب دورنا في إحداث فرق. يمكنك أن تقل عدد مرات الطيران، وركوب المواصلات العامة وركوب الدراجات أكثر. بالإضافة إلى أنه يمكنك أيضا تناول كميات أقل من اللحوم وتناول المزيد من النباتات. يمكنك شراء المنتجات محليًا، والتحول إلى الطاقة الخضراء.. وغير ذلك الكثير”.

في يونيو/حزيران 2021، ذكر تقرير صادر عن الفيفا أن كأس العالم ستنتج ما يصل إلى 3.6 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون. بالمقارنة أنتجت كأس العالم 2018 في روسيا 2.1 مليون طن. لكن منظمات وخبراء مستقلون أوضحوا أنه قد يكون للبطولة بصمة كربونية أعلى بثلاث مرات مما هو معلن.

يقول مايك بيرنرز لي من جامعة لانكستر: “لقد بحثنا قليلاً في تقديرات البصمة الكربونية للفيفا ونعتقد أنها تزيد عن 10 ملايين طن”. بينما ذكر عالم المناخ البروفيسور، كيفين أندرسون، من جامعة مانشستر أن إدعاء الفيفا “مضلل وخطير للغاية”. إذ ستكون هناك تكلفة بشرية مباشرة لهذه البطولة “هذه كمية هائلة من الانبعاثات لحدث رياضي واحد. هذه الانبعاثات سيكون لها تأثير في جميع أنحاء العالم”، بحسب ما نقلت عنه “بي بي سي“.

لكن لماذا هذا الرقم الضخم من الانبعاثات؟ السبب بسيط، وهو أن قطر في سعيها لتنظيم البطولة بنت كل شيء من الصفر تقريبًا. سبعة ملاعب جديدة وعشرات ملاعب التدريب، آلاف الغرف الفندقية، بنية تحتية، وسائل مواصلات. أطنان من الحديد والفولاذ ومثلها من عشب الملاعب. وكل الخامات والمكونات مستوردة من الخارج واحتاجت إلى مئات -إن لم يكن آلاف- رحلات الطيران الملوثة للبيئة.

أثناء بناء أحد ملاعب كأس العالم في قطر

من بين الملاعب الثمانية كان ملعب 974 (المكوّن من حاويات الشحن) هو الوحيد القابل للتفكيك، أما الملاعب الست الأخرى فهي غير قابلة لذلك. عند حساب بصمات الكربون الخاصة بهم، يتوقع المنظمون في قطر أن هذه الملاعب ستجد استخدامًا مفيدًا لعقود قادمة، وبالتالي لا تخصص لها سوى جزء صغير من الانبعاثات المرتبطة ببنائها.

وبررت الإمارة الخليجية بأن هذه الملاعب ستستخدم لاستضافة كأس آسيا لكرة القدم في صيف 2023. وبعد ذلك ستخصص ستة منها للاستخدام العام للمدارس والفنادق والأندية، وسيتم تفكيك السابع بالكامل. لكن المراقبون لفتوا إلى أن الخطط القطرية لاستخدام هذه الملاعب ليست واضحة بالشكل الكافي حتى الآن.

يشير التاريخ الحديث إلى أن هذا مجرد خيال، بحسب موقع “بلومبرج“. العديد من الملاعب التي خلفتها نهائيات كأس العالم في روسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا أصبحت الآن “فيلة بيضاء” (مصطلح يطلق على الملكية التي لا يُمكن لصاحبها التخلص منها بسبب تكلفتها العالية ولا سيما صيانتها). وكل هذه البلدان لديها عدد سكان أكبر بعدة مرات من قطر.

يقول جيل دوفراسن، مسئول السياسات في مبادرة “كاربون ماركت ووتش”: “من المستبعد جدًا أن تقوم قطر ببناء هذه الملاعب بدون كأس العالم. ومن غير المحتمل أيضًا أن يتم استخدامها بكفاءة على مدار الستين عامًا القادمة”.

ويضيف: “لا يمكن أن تكون كأس العالم خضراء. على الرغم من جهودنا، سيظل التأثير البيئي كبيرًا. في رأيي، هذه هي المشكلة الحقيقية. على الرغم من أن الوقت قد حان لأخذ هذه الحقيقة في الاعتبار عند تنظيم كأس العالم المقبلة، فإن الفيفا تفضل إطلاق حملة الغسل الأخضر”.

والغسل الأخضر ‏هو المصطلح الذي يطلق على فعل تضليل المستهلكين حول الممارسات البيئية للشركات أو الكيانات الاقتصادية حول الفوائد البيئية لمنتج أو خدمة ما. أو تحريف الحقائق من أجل أن تُظهر هذه الكيانات صورة إيجابية حول اهتمامها بالبيئة.

خطط الحياد الكربوني

لقطة خارجية لملعب 974 القابل للتفكيك

على الجانب الآخر، تصر قطر على أن حملتها لـ”صفر انبعاثات كربونية خلال المونديال” يجب أن تكون محل إشادة وليس انتقاد. وأعلنت اتباعها عشرة طرق لتخفيض البصمة الكربونية.

ومنها: استادات متقاربة المسافة، والتنقل بدون رحلات طيران داخلية (نظرا لتقارب المسافات بين الملاعب)، والحصول على شهادة “نظام تقييم الاستدامة العالمي” للاستادات وفقًا للتصميم والإنشاء والطاقة واستخدام المياه، وإعادة التدوير في الاستادات، ووسائل نقل كهربائية، وغرس الأشجار والتخضير على مستوى الدولة، ومحطة للطاقة الشمسية بقدرة 800 ميجاوات.

وبحسب وكالة الأنباء القطرية، من المقرر أن تلبي محطة الطاقة الشمسية 10% من ذروة الطلب على الكهرباء في قطر باستخدام أكثر من مليون و800 ألف لوح شمسي. وفي العام الماضي، أعلنت الدوحة عن خطط لخفض 25% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بحلول عام 2030.

في عام 2021، أعلنت كذلك خططا لغرس مليون شجرة قبل انطلاق كأس العالم في محاولة لإقامة “حدث رياضي مستدام”. وتخطط لتحويل 25% من وسائل النقل العام إلى العمل بالكهرباء، مع توقع 100% بحلول عام 2030. كما تم دمج شبكة من شواحن السيارات الكهربائية في جميع أنحاء البلاد لدعم التحول التدريجي لنظام النقل الكهربائي.

وتعهد فيفا وقطر بتعويض انبعاثات الكربون من خلال الاستثمار في المشاريع الخضراء وشراء أرصدة الكربون -وهي ممارسة شائعة تستخدمها الشركات “لإلغاء” تأثير البصمة الكربونية. وقد حصلت قطر حتى الآن على 1.5 مليون رصيد كربون من أصل 3.6 مليون تحتاجه.

نظيفة بأسعار معقولة

في وقت سابق من هذا العام، حدّثت شركة قطر للطاقة استراتيجيتها للاستدامة، والتي تعد جزءًا من جهودها “طاقة نظيفة وبأسعار معقولة لتسهيل انتقال الطاقة”. وبموجب الاستراتيجية، ستزيد الشركة من كثافة خفض الكربون في منشآت الغاز الطبيعي المسال بنسبة 35% بدلاً من الهدف الأولي 25%.

لكن خالد دياب، مدير الاتصالات في “كاربون ماركت ووتش” أوضح أن “الحجم الهائل للرحلات المكوكية من البلدان المجاورة يقوض زعم المنظمين أن وجود العديد من الملاعب المركزة في منطقة جغرافية صغيرة سيساعد في تقليل الانبعاثات المتعلقة بالسفر الجوي”. ويُتوقع 168 رحلة يوميًا لنقل المشجعين من وإلى دول الخليج المجاورة. وهي خدمة تقدرها مؤسسة “جرينلي” بأنها ستضيف أكثر من 80 ألف طن من انبعاثات الكربون.

وتشير “كاربون ماركت ووتش” إلى أن حساب البصمة الكربونية للملاعب تم باحتساب 70 يومًا فقط من استخدامها، وليس عمرها بأكمله، والذي تحتاج فيه إلى صيانة مستمرة. ووصفت بعض الإجراءات بأنها “تفتقر أيضًا إلى النزاهة”.

فعلى سبيل المثال، أنشأ منظمو كأس العالم مشتلًا واسعًا للأشجار والأعشاب -أكبر مزرعة للأعشاب في العالم- في وسط الصحراء. وبينما يستخدم الري مياه الصرف الصحي المعالجة، فإن الإدعاء بأن هذا سيمتص انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي ويساهم في الحد من تأثير الحدث “غير موثوق به” حيث من غير المحتمل أن يكون تخزين الكربون دائمًا في هذه المساحات الخضراء الاصطناعية والضعيفة.

ومع ذلك، يصر المنظمون القطريون على أن البلاد في طريقها لاستضافة أول بطولة لكأس العالم خالية من الكربون. ويشيرون إلى العناصر الخضراء الواضحة لمشتريات قطر النظيفة: 800 حافلة كهربائية جديدة، و16 ألف شجرة وما يقرب من 700 ألف شجيرة مزروعة في المشتل.

وفي بيان للمتحدث باسم اللجنة العليا للإرث والمشاريع قال إن قطر “تسير على الطريق الصحيح لاستضافة كأس العالم المحايدة الكربون”. وأن منهجيتها المحاسبية هي “الأفضل في الممارسة” و”مصممة بحيث تستند إلى بيانات الأنشطة الفعلية”.

يقول سعود غني، أستاذ الهندسة في جامعة قطر الذي صمم أنظمة تكييف الهواء في الملاعب “لقد عُززت بالفعل سلة الطاقة لقطر. من قبل كنا نحرق الغاز فقط لتوليد الطاقة”. بينما يرى كريم الجندي، الزميل في مركز أبحاث تشاتام هاوس والذي عمل سابقًا كمستشار مناخي لكأس العالم، إن جهود قطر في “تخضير” البطولة “تُظهر اتجاهًا إيجابيًا لحدث رياضي”. وأوضح أن هذا يشير إلى أن قطر، أحد أكبر مصدري الغاز الطبيعي في العالم، تتخذ خطوات لتحسين أوراق اعتمادها المناخية.

هل نشهد اختلافا بالمستقبل؟

كأس العالم في قطر هو الأول في الشرق الأوسط

في ظل سيناريو يتوقع انبعاثات متوسطة إلى عالية، يمكن أن يكون متوسط ​​درجات الحرارة في قطر خلال 60 عاما أعلى بمقدار 4 درجات مئوية، مع وصول 62 يومًا في السنة إلى أعلى من 45 درجة مئوية.

وفقًا لـ”بلومبرج”، تميل الإدعاءات القطرية إلى تشتيت الانتباه عن الهدف. إذ ليس من الممكن إلغاء حرق الوقود الأحفوري الذي يتطلبه بناء الملاعب و”قرى المشجعين” أو الطيران إلى الدوحة أو إرساء السفن السياحية في الخليج العربي. كما أنه ليس من الممكن تعويض كل مساهمة من هذا القبيل في الانبعاثات العالمية -حتى في أكثر السيناريوهات طموحًا لانتشار التكنولوجيا الخضراء واحتجاز الكربون.

أحد الأشياء البسيطة التي يمكن أن يفعلها فيفا لتقليل التأثير المناخي لبطولات كأس العالم المستقبلية هو وضع حد لبناء الاستادات، بحسب التقرير. بالنسبة لكأس العالم 2026 -التي تستضيفها كندا والمكسيك والولايات المتحدة بشكل مشترك- سيتم لعب البطولة في 16 ملعبًا موجودًا مسبقًا في جميع أنحاء القارة.

“إن صنع نموذج مثل هذا دائمًا من شأنه أن يتجنب الأفيال البيضاء ويقضي على مصدر رئيسي لانبعاثات الكربون المحتملة (على الرغم من أن انتشار الحدث عبر هذه المنطقة الكبيرة يقدم مجموعة مشاكل خاصة به)”، يقول التقرير.

لكن سرعان ما يستدرك المحرران، إيرا بودوا وإيريك روستون، بالقول “صحيح أن حصر كأس العالم في الملاعب الحالية سيحقق المزايا التي تتمتع بها الدول المتقدمة الكبيرة التي ساهمت تاريخيًا بأكبر قدر في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري (إذ يمكن للولايات المتحدة أو ألمانيا أو الصين أن تستضيف بسهولة كل نهائيات لكأس العالم). ولكن لماذا يُسمح لها باحتكار المكانة؟ وبالمثل فإن استبعاد أجزاء كبيرة من العالم من البطولات المستقبلية يتعارض مع الدعوات المتزايدة للتعويضات المناخية”.

ومع ذلك، بحسبهما، هناك طرق للتغلب على هذا الظلم. يقترح دانيال وولف، باحث في معهد الجغرافيا والاستدامة بجامعة لوزان  السويسرية، على سبيل المثال، تباينًا في تقسيم واجبات المضيف، حيث تقوم دولة بتزويد البنية التحتية ودولة أخرى بمثابة “مضيف ثقافي”.

ويشرح “يمكن لعب المباريات في ملاعب عبر ألمانيا على سبيل المثال، بينما تتولى أنجولا بصفتها مضيفة فخرية، مسئولية الخدمات اللوجستية والظروف والأرباح. سيسيطر رئيس أنجولا على الأضواء والأمور الفخرية، وبدلاً من الملاعب الفارغة لاحقًا، ستُترك البلاد بالمال والخبرة وصورة عالمية معززة”.

تتوقع منظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة نزوح ما يصل إلى مليار شخص بسبب تغير المناخ على مدار الثلاثين عامًا القادمة. ومن السهل تخيل أن مجتمعات بأكملها ستقتلع من جذورها بسبب الأعاصير الكارثية أو الفيضانات الضخمة أو حتى درجات الحرارة غير القابلة للاحتمال. لذا بينما تتواصل الانبعاثات بلا حل حقيقي فربما يأتي اليوم الذي لا يقام فيه المونديال لظروف مناخية.