جاء فوز لولا دا سيلفا بانتخابات الرئاسة البرازيلية الذى أعلن عنه قبل أسابيع قليلة بفارق ضئيل عن منافسه “ترامب البرازيلي” بولسونارو بعد جولة إعادة حاسمة، ليمثل عدة إشارات بالغة الأهمية، وهو ما يأتي في سياق يسميه بعض المتابعين والمحللين (المد الوردي) أي عودة اليسار لسدة الحكم في العديد من دول أمريكا اللاتينية، وهى الموجة التي عادت مرة أخرى لتتكرر عقب تجربتها الأولى في نهايات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي، لتتجدد ثانية على مدار الأربع سنوات الماضية وبشكل متتال في المكسيك والأرجنتين وبوليفيا وبيرو وتشيلي وكولومبيا، وأخيرا البرازيل التي جاءت تتويجا لهذا المد، وكذلك تنصيبا لقيادة طبيعية وتاريخية بحكم وزنه وتأثيره وتجربته ليصبح لولا عمليا هو القيادة الأكثر وضوحا لهذا الجيل من القيادات اليسارية في حكم دول أمريكا اللاتينية.

لكن هذه الموجة من المد اليساري تحتاج لكثير من التدقيق والفحص والتأمل في تفاصيلها، لأن الصورة العمومية قد لا تبدو مطابقة في تفاصيلها، كما أن هذه الموجة تبدو متفاوتة تماما بل وعلى النقيض أحيانا مما يجرى في مناطق أخرى من العالم من تزايد مد اليمين الشعبوي والمتطرف في بعض دول أوروبا بين الحين والآخر، وهو بالتأكيد ما يخضع لعوامل عديدة من بينها تفاوت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والبيئة الثقافية والحاضنة وطبيعة تشكل تلك التيارات ومساحات تأثيرها.

مع ذلك تبدو رسائل الأمل التي منحتها أنباء عودة لولا لحكم البرازيل مجددا بالغة الدلالة، فهذا رجل بعد أن حقق طفرة ديمقراطية واقتصادية لشعبه في فترة حكمه ما بين 2002-2010 وكان نموذجا ملهما، تعرض حزبه وتياره السياسي وخليفته في الحكم ديلما روسيف لضربات موجعة من اتهامات بالفساد وصلت لعزلها من الحكم فضلا عن غضب شعبي واسع من سياساتها ثم طال الأمر لولا نفسه رغم أن الأمر بدا واضحا أنه مشوب بتصفية حسابات سياسية لمنعه من العودة للتنافس على الحكم واستعادة بريق وحضور تياره وحزبه، ورغم الحكم على لولا بالسجن وقضائه جزء من هذا الحكم قبل أن يصدر قرار قضائي بالإفراج عنه، ليعود لممارسة دوره وحضوره ويترشح للانتخابات الأخيرة ويحقق الفوز فيها، ليجدد لولا مرة أخرى رسائل الإلهام التي برع فيها منذ بزوغ نجمه السياسي، سواء في تجاربه النقابية أو بناء حزب العمال البرازيلي أو ترشحه عدة مرات للانتخابات الرئاسية قبل أن يفوز فيها في 2002.

هذا الأمل يبدو الآن معلقا على تجربة لولا الجديدة في الحكم، فحجم التطلعات والتوقعات كبير، في ظل واقع عالمي مأزوم، وكذلك في ظل انقسام داخلي في البرازيل يبدو واضحا من نتائج جولة الإعادة في الانتخابات، لذا بدا واضحا سعي لولا لتقديم رسائل طمأنة، عبر تأكيده على حاجة بلاده إلى (السلام والوحدة)، وحرصه على الإشارة إلى أن فوزه في الانتخابات (لم يكن انتصارا له ولا لحزبه ولا للداعمين له وإنما لحركة ديمقراطية تشكلت متجاوزة الأحزاب السياسية والمصالح الشخصية والأيديولوجيات)، وإدراكه الواضح لأن الشعب يحتاج إلى أن (يعيش بشكل جيد ويأكل بشكل جيد ويريد وظيفة جيدة والحصول على تعليم وصحة بشكل جيد ويريد الحرية ويريد الكتب بدلا من البنادق، الشعب يريد استعادة الأمل). هذه الرسائل الأولية والأساسية من لولا عقب فوزه في الانتخابات دالة وملهمة، والعبرة ستكون بقدرته على تكرار تجربة نجاحه الأولى في ظل تحديات مختلفة، خاصة أنه قد بدأ بالفعل مع فريقه في بحث سبل توفير مصادر تمويل تعهداته وخططه الانتخابية وهو ما سيخوض فيه تفاوضا ويبحث عن حلول متباينة تمكنه من تطبيق برنامجه في ظل وجود كونجرس برازيلي لا يمتلك فيه حزب لولا واتجاهه السياسي الأغلبية، لكن لولا يبدو بارعا في الانفتاح على مساحات سياسية متباينة، وهو ما قام به بجدارة في رئاسته الأولى عندما نجح في احتواء تخوفات رجال الأعمال والرأسماليين وأدمجهم في خطط نهوضه بالاقتصاد البرازيلي، كما أن خلفيته النقابية وليست السياسية وحدها تؤهله للبحث عن مساحات المصالح والرؤى المشتركة لا الانحياز الأيديولوجي والتصلب أمام الأفكار، ولعل بعض ملامح تجربته الانتخابية الأخيرة التي انضمت فيها أحزاب من توجهات مختلفة لحملته فضلا عن تحالفه مع أحد خصومه التاريخيين خلال الانتخابات جيرالدو ألكمين الذى جاء نائبا مع لولا.

تحديات لولا تمتد لتشمل قدرته على قيادة تجربة اليسار في الدول المجاورة، في ظل تفاوتات فكرية وجيلية بين الرؤساء والقيادات الحاليين لهذه التجربة، فالفارق في الأفكار والتجارب والانحيازات خاصة فيما يتعلق بالديمقراطية وتداول السلطة مثلا يبدو كبيرا بين شخصيات مثل مادورو وأورتيجا، وبين القيادات الجديدة التي تقود حاليا من موقع الحكم تجربة اليسار في أغلب دول أمريكا اللاتينية، كما أن التحديات السياسية والاقتصادية التي تواجه كل تجربة تبدو متفاوتة ومختلفة، فضلا عن اختلافات مؤكدة في الانحيازات والأفكار والقضايا التي يتم تبنيها والدفاع عنها مثلا بين رئيس تشيلي الشاب بوريك ورئيس المكسيك أوبرادور، فضلا عن التباينات في المواقف من القضايا الدولية الكبرى مثل الحرب الروسية على أوكرانيا.. لكن في المجمل فإن هناك ملامح مشتركة للتيار اليساري الصاعد حاليا في أمريكا اللاتينية، لا تجعله نسخة طبق الأصل من اليسار بشكله التقليدي، كما أن أفكاره وتجاربه بالتأكيد أكثر تطورا ومواكبة للعصر، وذلك كله ما يجعل مهمة لولا أكثر تعقيدا وصعوبة، لكنه في ذات الوقت يمنحها آفاقا أوسع ويعلق عليها رهانات أكبر.

تجربة عودة لولا للحكم في البرازيل، بقدر ما تقدم دروسا وتمثل إلهاما وتمنح أملا، فإن تجارب اليسار وصعوده الحالي في أمريكا اللاتينية أيضا تقدم دروسا وتحتاج لقراءة مفصلة ومدققة ومتعمقة، لأنها تمثل تجربة جديدة ومختلفة حتى عن سابقتها في الدول نفسها، سواء على مستوى الأفكار، أو الواقعية والبراجماتية، أو الانحياز لما هو عملي وممكن أكثر مما هو أيديولوجي، بما في ذلك شكل التحالفات السياسية، وترتيب الأولويات، وكذلك طبيعة القضايا المرتبطة باهتمامات عالمية لا محلية والمواكبة لاهتمامات الأجيال الشابة والجديدة. ولعل من اللافت هنا إدراك بعض قيادات تلك التجارب لأن صعودهم الراهن يعبر عن رفض لما كان قائما وما نتج عنه وتداخلت معه أزمات كورونا والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، بأكثر مما يعبر لانحياز فكرى أو أيديولوجي تقليدي لليسار، وهو ما يضاعف المسئولية الملقاة على قيادات التجربة الحالية، وكذلك إدراك محورية قضايا مثل الديمقراطية والحريات العامة والشخصية وأيضا محاولات تجاوز الانقسامات المجتمعية الداخلية في أعقاب تجارب حكم مريرة على أصعدة مختلفة.

أهمية كل ذلك بالنسبة لنا، سواء في مصر أو المنطقة بشكل عام، أنها تقدم نموذجا ملهما ومختلفا، يمكن الاستفادة من دروسه، خاصة بالنسبة لليسار المصري خصوصا والعربي عموما، الذي تكلس وتراجع، لا على المستوى السياسي والتنظيمي فحسب، وإنما الفكري كذلك، وإن كان ذلك لا ينكر عن وجود مراجعات هائلة وأفكار أكثر تطورا ومواكبة لدى كثير من أبناء هذا التيار بمدارسه المتنوعة والمختلفة، لكن لا يزال ذلك غير مؤطر أو مبلور في جهود جماعية منظمة بحكم أسباب متعددة أهمها البيئة السياسية الراهنة على مدار السنوات السابقة، لكن ربما يكون قد آن الأوان في القريب للتفكير في أهمية الجهد الجماعي لبلورة يسار جديد في مصر أكثر اتساعا وشمولا من اقتصاره على مدرسة فكرية واحدة، وبقدرة على تجديد أفكاره وخطابه وترتيب أولوياته بشكل أكثر واقعية وتوسيع خريطة تحالفاته السياسية والاجتماعية، وألا يظل أسيرا للرؤى التقليدية أو الشعارات العمومية.

إلى أمين إسكندر

رغم أنه قد لا تبدو هناك علاقة مباشرة بين سياق المقال وذكر الأستاذ أمين إسكندر، لكن الحقيقة أن هناك علاقة مباشرة بين مضمون المقال وهذا المفكر والباحث والكاتب والمناضل القومي الناصري، أحد القيادات المؤسسة للتيار الناصري وتجربة أندية الفكر الناصري في سبعينيات القرن الماضي ولتجربة حزب الكرامة، وأحد أهم من جمعوا بين القدرة على التنظير الفكري والسياسي والممارسة النضالية السياسية والعملية، وأحد أبرز من شاركوا في تجارب جبهوية منفتحة على مختلف القوى والأطراف السياسية.

إنه أحد أهم أساتذة الجيل الذي أنتمي إليه بشكل مباشر في بناء وعينا وثقافتنا والانفتاح على الحوار والاختلاف، وواحد من القلائل الذين كانوا يحرصون دائما على توجيهنا للقراءة والاطلاع بشكل دائم ومستمر ويشير لنا على تجارب أخرى في تاريخنا وواقعنا وفى منطقتنا وغيرها من الدول والمناطق عبر العالم.

أمين إسكندر الذي ظل دائما مهموما بأوضاع الوطن والشعب، والذي كان دائما منفتحا على النقد والاختلاف حتى لو لم يتفق معه، والذي ظل صلبا ثابتا على جوهر مواقفه الأساسية ولم يخضع لتحولات طالت كثيرين لكن ذلك لم يعنى أبدا رفضه للتجديد والتطوير والمواكبة.

الأستاذ أمين يرقد الآن متأثرا بمرضه محاطا بدعواتنا وآمالنا ورهاننا على قدرته وصموده ويقيننا بقدرة الله عز وجل على تمام شفائه وعودته لنا ولأسرته وتلاميذه وأحبابه وعارفي فضله جميعا. دعواتكم بالشفاء للأستاذ أمين إسكندر.