لا شك أن بطولة كأس العالم 2022 الحالية حدث فريد لمنطقة الشرق الأوسط، التي تستضيف البطولة الأهم في الرياضة الأكثر شعبية عالميًا. إلا أنها أيضًا، وعلى أهميتها الرياضية وضرورة خروجها بشكل مشرف للمنطقة العربية، ليست الشاغل الوحيد للدولة المستضيفة قطر؛ تلك الدولة التي حشدت استثمارات مليارية على مدار عقدين، في تحويل الرياضة لتكون واحدة من أدوات قوتها الناعمة، رغبة في احتلال مكانة رئيسية في مثل هذه الأحداث الضخمة، وسعيًا نحو جذب استثمارات أجنبية وتحقيق رؤية عالمية مختلفة في المجال الرياضي، تتناسب مع التطلعات الخارجية الأوسع للدولة، التي خرجت أخيرًا من عزلة دبلوماسية فرضها عليها جيرانها لخمس سنوات (2017-2021) إثر خلافات سياسية حول النفوذ والتدخل في سياسات الدول الأخرى.

كذلك، فإن هذه الكأس تخدم العلاقات الإقليمية بشكل كبير. فعلى سبيل المثال، يستعد جيران قطر للترحيب بتدفق كبير من المتفرجين، حيث لن تتمكن الدولة الصغيرة من استضافة سوى حوالي 1.5 مليون زائر. في الوقت نفسه، سلط الاهتمام العالمي بالدوحة الضوء على القضايا المعلقة. ومن بينها حقوق العمال الأجانب، التي أعيد تسليط الضوء عليها، رغم اعتماد بعض الإصلاحات القطرية في هذا الشأن.

اقرأ أيضا.. كأس العالم 2022.. كرة القدم تحت سياط السياسة

وفي العقدين الماضيين، استثمرت الدوحة بشكل كبير في الرياضات الدولية، التي أصبحت أداة قوة ناعمة في حد ذاتها تحت تصرف الدولة، وبشكل أعم، كمصدر للفخر الوطني لدول الخليج الغنية. لكن بالنسبة لقطر، فإن التحول إلى مكان رئيسي لمثل هذه الأحداث الضخمة لا يقتصر على جذب الاستثمارات الأجنبية وتحقيق الرؤية العالمية في المجال الرياضي: بل يتناسب تماما مع النظرة الخارجية الأوسع للدولة.

المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية (ISPI) استطلع آراء خبرائه ومحلليه حول ما يمثله هذا الحدث الرياضي الكبير على الدولة الخليجية الخليجية الصغيرة، وما يحمل معه من طموحات ومنافسة خليجية. نستعرض تلك الآراء في التقرير التالي..

القوة الاقتصادية الصلبة

ملعب البيت في العاصمة الدوحة

دانيل ريتش، الأستاذ المشارك الزائر في جامعة جورج تاون بقطر يقول: “يمكن النظر إلى المساعي الرياضية في قطر، على أنها دراسة حالة ملحوظة وواضحة حول الطرق التي يمكن من خلالها استخدام القوة الصلبة بشكل استراتيجي لتحقيق مكاسب القوة الناعمة. فقطر التي لديها قدرات عسكرية محدودة، تحتل مستوى من الثروة لا يمكن أن تتخيله معظم الدول “الصغيرة” بفضل بيع مواردها الغنية من النفط والغاز الطبيعي”.
ويضيف: “الأمر يضع قطر في وضع أفضل بكثير من العديد من البلدان الأخرى عندما يتعلق الأمر بنشر القوة الناعمة، إذ إنه من الواضح أن قطر يمكن أن تخصص مبالغ أكبر بكثير من الثروة والاستثمارات لدفع قوتها الناعمة، ويمكنها أيضًا في حالات معينة، المزايدة على الآخرين للحصول على أصول القوة الناعمة الرئيسية. وفي عالم الرياضة، ترتكز استراتيجية القوة الناعمة المتخصصة في قطر على ثلاث ركائز رئيسية: استضافة الأحداث الرياضية؛ الاستثمارات الرياضية الخارجية؛ والاستفادة من التميز المحلي”.

دانيال ريتشي

 

دانيل ريتش، زميل باحث وزائر في مركز الدراسات الدولية والإقليمية (CIRS)؛ والأستاذ المشارك الزائر في جامعة جورج تاون قطر

تأطير الهوية

أما سفين وولف المحاضر في جامعة لوزان، يقول: “الدول مستعدة لدفع مبالغ طائلة لاستضافة الأحداث الضخمة. ويرجع ذلك في الأساس إلى أن استضافة مثل هذه الأحداث تكسب المجتمعات اهتماما عالميا كبيرا، والتي تستخدم في بث الصور الوطنية أو إعادة تأطيرها أو ترسيخها. لذلك، فإن القوة الناعمة ليست مجرد أداة للعلاقات الدولية؛ فعدد كبير من الدول استخدم أيضا الأحداث الضخمة لتقديم مفاهيم جديدة للأمة والهوية الوطنية لسكانها المحليين. وبهذه الطريقة، تستهدف القوة الناعمة جماهير ووظائف متعددة على مستويات أخرى متعددة، لكنها ليست قابلة للقياس الكمي ولا مستقرة”.

سفين دانيال

 

سفين دانيال وولف، محاضر في جامعة لوزان

 

 

الانتصار على العزلة

اجتماع وزراء خارجية دول المقاطعة العربية

ومن وجهة نظر اقتصادية تقول كيت دوريان، من معهد الطاقة الدولي إنه “بالنسبة لقطر، فإن استضافة كأس العالم هو انتصار من نوع ما بعد عزلها من قبل دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى خلال ما عرف بـ”المقاطعة العربية” بين عامي 2017 و2021. كما أنه يمثل إسقاطًا واضحًا لقوتها الناعمة مع النفوذ الكبير لمكانتها كواحدة من دول مجلس التعاون. وكواحدة من أكبر الدول المصدرة للغاز الطبيعي المسال في العالم، أدى الارتفاع الأخير في الأسعار إلى مستويات قياسية في زيادة الإيرادات القطرية إلى أعلى مستوى لها منذ عام 2013″.

وتضيف: “بين يناير/كانون ثاني وسبتمبر/آيلول، حققت الإمارة أكثر من 100 مليار دولار من مبيعات الغاز، وهو مستوى لم تحققه منذ عام 2014، ومن المرجح أن يرتفع هذا الرقم حتى نهاية العام. ومن ناحية أخرى، ليست قطر وحدها التي ستستفيد من استضافة الحدث. إذ تستعد دول الخليج العربية الأخرى لتدفق مشجعي كرة القدم، حيث بدأت الفنادق في دبي وأبو ظبي وعواصم الخليج العربي الأخرى بالامتلاء. كما سيشهد خط “دبي/الدوحة” 48 رحلة طيران يوميًا من وإلى العاصمتين. بينما تخطط المملكة العربية السعودية لاستخدام خمسة مطارات لنقل المشجعين إلى العاصمة القطرية”.

وأوضحت: “من الجدير بالذكر أن قطر والإمارات استثمرتا بكثافة في الرياضة خاصة كرة القدم. إذ استحوذت قطر على نادي كرة القدم باريس سان جيرمان في عام 2011، بينما استحوذت أبوظبي على مانشستر سيتي. في الوقت الذي اشترت فيه السعودية نيوكاسل يونايتد الإنجليزي، لذا يبدو أن كرة القدم تسري في الدم في هذا الجزء من العالم. وفي النهاية إذا أنجزت قطر الحدث دون عقبات، ستثبت للعالم أن دولة صغيرة ذات طموح كبير لا يزال بإمكانها تحقيق ما قال الكثيرون إنه مستحيل”.

كيت دوريان

 

كيت دوريان، محرر مشارك، وزميل غير مقيم في المعهد الدولي للطاقة 

​​فرصة لمحو “العار”

عمال الاستادات في قطر

الكاتب روك شيرمان من مركز ويلسون للدراسات تقول: “في الـ12 عامًا التي انقضت منذ أن فازت قطر بنجاح في محاولتها لاستضافة كأس العالم لكرة القدم 2022، واجهت الدولة الخليجية الصغيرة رد فعل عنيفا ومتزايدا بسبب معاملتها السيئة للعمال الأجانب الذين يمثلون أكثر من 95% من القوى العاملة في القطاع الخاص. ما دفع الإمارة في النهاية إلى التنسيق مع منظمة العمل الدولية وتنفيذ تدابير لمواجهة الآثار السلبية لنظام الكفالة”.

وأضافت: “لم تشهد التدابير بعد أي تحسن ملموس في حياة المهاجرين؛ إذ لا تزال ظروف العمل الشاقة، والتعويضات المتأخرة أو غير المكتملة، والقيود المفروضة على حرية التنقل من الأمور المألوفة في قطر. ورغم أن التدقيق من المجتمع الدولي حث السلطات القطرية على الاعتراف بوجود المشكلة، إلإ أن التنفيذ الضعيف للتشريعات يعني أن ديناميات القوة الراسخة مازالت تسود، إذ يكافئ أصحاب العمل الكبار وتنكر حقوق الإنسان الأساسية للعمال المهاجرين. ويعتبر كأس العالم فرصة لقطر لتظهر أنها قادرة على إصلاح نظام الكفالة. وإلا فمن المحتمل أن تترك وصمة عار دائمة على سمعتها وتخلق جوًا مثيرًا للانقسام حول مشهد عالمي يهدف إلى التقريب بين الناس”.

بروك شيرمان

 

بروك شيرمان، منسق برنامج الشرق الأوسط في مركز ويلسون

تنامي المكانة الإقليمية

وزير الخارجية القطرية ونظيره الإيراني في طهران

سارة بازوباندي الباحثة في المعهد الإيطالي أكدت أن “العلاقات الإيرانية القطرية ذات أهمية خاصة للجانبين، ويرجع ذلك في الأساس إلى احتياطيات الموارد الطبيعية المشتركة، كما تعمقت تلك العلاقات منذ اندلاع أزمة دول مجلس التعاون الخليجي في 2017. وارتفع تصدير البضائع الإيرانية (خاصة المواد الغذائية) إلى قطر بشكل كبير من 2017 إلى 2018، وسمح للخطوط الجوية القطرية باستخدام المجال الجوي الإيراني لتجنب توقف عملياتها”.

وأضافت: “في المقابل، حصلت طهران على ملايين الدولارات في ذروة ضغوط دونالد ترامب -الرئيس الأمريكي السابق- القصوى. في الوقت نفسه، تستضيف قطر أكبر وجود عسكري أمريكي داخل المنطقة (قاعدة العبيد الجوية)، والذي يمكن اعتباره تهديدًا كبيرًا لإيران. يضع هذا العلاقات الإيرانية-القطرية في موقف غريب حيث يمكن إن يكون بالفعل حاسمًا في حالة المواجهة العسكرية بين إيران والولايات المتحدة، والتي لا تزال احتمالية حدوثها منخفضة للغاية في هذه المرحلة”.

كما أوضحت: “بعض الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي تتخذ موقفا تاريخيًا أكثر ليونة تجاه تطلعات إيران الإقليمية والنووية (مثل قطر والكويت وعُمان)، وكثيراً ما لعبت دور الوسيط للمساعدة في حل القضايا الناشئة عن هذا الطموح. لكن تظل المملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين على مواقفهم الثابتة ضد السياسات الإقليمية والنووية للنظام الإيراني. لذلك ومع الانهيار الكامل للمفاوضات النووية مع إيران، والذي يبدو أنه السيناريو الأكثر ترجيحًا الآن، ستكون علاقة الدوحة بطهران وخلافها مع دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى حول إيران ذات أهمية كبيرة لجميع الأطراف المعنية في المستقبل القريب”.

سارة بازوباندي

 

سارة بازوباندي، زميلة أبحاث مساعدة في المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية؛ وزميلة معهد GIGA لدراسات الشرق الأوسط