إذا أردتم المصارحة الصادقة فنحن أمام مأزق مزدوج، لا يصلح معه أن نظل نمارس التكاذب السياسي المعهود، فمن ناحية نحن أمام مأزق السلطة التي لم يعد في مقدورها التغافل عن التزايد المستمر في منسوب الاحتقان والغليان اللذين يمور بهما المجتمع المصري.

ومن ناحية أخرى نحن أمام مأزق المعارضة التي لم يعد في مُكنتها تكرار سيناريوهات تشبه ما جرى في يناير 2011، أو في يونيو 2013، حيث إعادة سيناريوهات الماضي هي تكرار لنفس المأساة، وتعبير عن الفشل في ابتداع سيناريوهات جديدة تلائم الحال وتتجاوز كل الصعاب.

اقرأ أيضا.. من عواجيز يناير إلى شبابها.. القاضية مش ممكن

تكرار السيناريو نفسه لم يعد في مقدور ولا في طاقة المعارضة، ولا يبدو أنه ضمن تصوراتها، أو أنها راغبة في ذلك. واستمرار الحال بكل هذا الاحتقان لم يعد في مكنة السلطة وحدها أن تتعامل معه بنفس الأساليب وبنفس السياسات وبذات الإجراءات.

إذن نحن أمام مأزق مشترك، لا خروج منه بغير المصارحة حول الحقائق المستجدة نواجهها، والتحديات المتزايدة التي تواجهنا، وقد آن الوقت لأن ننظر جميعًا في عين المأزق ونشرع على الفور وبدون إبطاء في التعامل وطنيًا معه.

قبل أن يموت الحوار

سيقولون هناك الحوار الوطني ولجانه وأماناته ومنسقيه ومنسقاته، قالوا قديمًا، وفي قولهم حكمة، إن أردت أن تقتل قضية فشكل لها لجنة، تكون مهمتها تهيئة القضية لعملية دفن فخيمة، فما بالك إذا تحولت اللجنة إلى أمانات، وتحولت الأمانات إلى مقررين ومقررين مساعدين، ووضع للجميع مانفيستو عمل، يحول الأمر برمته إلى مهرجان دفن نشيط وفعال وطويل وممل ويبدو وكأن ليس له نهاية.

الحوار يفترض وجود متحاورين، قرروا بملء إرادتهم أن يسمع بعضُهم بعضًا، أطراف لها نفس القدرة ونفس الفرصة لتبادل الآراء حول قضية أو مجموعة قضايا محددة سلفًا، ومتفق على أهمية وضرورة إجراء حوار حولها.

الحوار يجب أن يكون متكافئًا، لا هدف له غير الوصول إلى تحديد نقاط الخلاف، وحصر نقاط الاتفاق، والانطلاق من هنا إلى محطة أخرى، يناقش خلالها كيفية حل الخلاف نقطة وراء نقطة، ومن ثم وضع خطط عمل لتنفيذ المتفق عليه.

أن يتحول الأمر إلى طرفٍ يتحدث، وأطراف تسمع، لا يمكن ساعتئذٍ أن نطلق عليه مسمى الحوار، لأن جوهر الحوار هو أنه عملية تفاعلية قادرة على إنتاج مشتركات وتعظيمها، وتنحية الاختلافات وتقليل تأثيراتها السلبية.

لابد أن نسمي الأشياء بأسمائها على الحقيقة، فلا حوار بدون تفاعل بين أطرافه، ولا قيمة لأي مسمى إلا بتحقيق مضمونه، وأول الطريق إلى ذلك يمر عبر بوابة المصارحة التي باتت مطلوبة وضرورية وشرط لنجاح فكرة الحوار من الأساس.

المصارحة أولًا

الرئيس السيسي وحمدين صباحي في إفطار الأسرة المصرية رمضان الماضي

الحوار الحقيقي يبدأ بمصارحة شاملة، ورغبة مشتركة معلنة في بناء جسور التواصل والتفاعل.

المصارحة في يقيني هي جسر التواصل الوحيد بين المعارضة والنظام، من أجل تجاوز المأزق الذي نحن فيه.

وهي تفترض أن تمتلك المعارضة شجاعة مواجهة النظام بما تراه، بكل صدق وأمانة وموضوعية ونزاهة وطنية.

وهي تفرض على النظام أن يمتلك الرغبة الحقيقية في سماع، وتفهم، وتقدير الرؤى الأخرى التي تخالف رؤيته، وتتعارض مع سياسته، وتطالب بوقفها وتعديلها والبدء في سياسات بديلة.

لابد أن يثبت النظام عبر إجراءات شتى أن المعارضة ليست فعلاً فاضحًا، ولا هي خروج على القانون، ولا هي قلة وطنية، بل هي ضرورة وشرط إقامة حياة سياسية سليمة، هي أول الخطوات على طريق بناء جمهورية ديمقراطية حديثة، وهي شرط هذه الديمقراطية، وهي ضمانة هذه الحداثة، وهي معيار النجاح لهذه الجمهورية الجديدة، بل إن وجودها وزيادة تأثيرها هو الجديد الحقيقي الذي يمكن أن توصف به هذه الجمهورية المأمولة.

معارضة مسئولة

إذا أردتم الصراحة فإن طريقة تعامل المعارضة مع دعوات التظاهر التي تأتي من الخارج، رغم قناعتها وإيمانها بالحق في التظاهر والاحتجاج، تشي بأن المعارضة الممثلة في “الحوار الوطني” أثبتت المرة تلو الأخرى أنها معارضة “مسئولة” يمكن الوثوق في صدقيتها، والتعويل على مصداقيتها، فقد بادرت إلى إعلان موقفها الرافض لمثل هذه الدعوات ووصفتها بأنها “دعوات مشبوهة” من دون هدف واضح ومحدد، وستكون فاشلة مثل العديد من الدعوات السابقة.

ولم تقصر المعارضة في إيضاح أن “الحركة المدنية” تدين هذه الدعوات التي تحركها أفراد تابعين لجماعات سياسية مرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين، التي لا تهتم سوى بمصلحتها، وترغب في العودة إلى الحكم.

كان موقف المعارضة واضحًا وقويًا في رفض مثل هذه الدعوات سواء من حيث التوقيت أم من حيث الداعين لها، ورأت المعارضة أنها دعوات غير جادة ومجهولة المصدر، ولم تقم لها وزنًا، حتى المواطن العادي لم يتعاط مع الدعوة بجدية وتشكك فيها وفي نوايا أصحابها المجهولين.

**

النظام من ناحيته تعامل مع دعوة التظاهر الأخيرة وكأنها أمر واقع، وقام باستنفار إعلامي وأمني واسع، وحشد قواته وأجهزته ومؤسساته، عبر كل المستويات، للتعاطي مع احتمالية ضعيفة للتظاهر، وقام بعمليات تفتيش هواتف المارة في الشوارع، وألقى القبض على كثيرين منهم، وبدت الميادين والشوارع الرئيسية وكأنها في حالة إغلاق.

وبدا أن النظام تعلم درس يناير ويونيو، وقرر ألا يترك مجالًا لأن تلعب الصدفة لعبتها في إشعال فتيل انفجار غير محمود العواقب.

كثيرون اعترفوا بأن النظام لديه كل الحق في التخوف من أي شرارة، وهو يعلم أكثر من غيره، وربما أكثر مما تعرف المعارضة نفسها، أن منسوب الاحتقان يرتفع باستمرار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية على ما هي عليه جراء الأزمات المتلاحقة التي تبدو خارج القدرة على التعامل السريع مع آثارها المتفاقمة على أحوال المواطنين.

كما أنه لا يمكن التغاضي عن تزامن تلك الدعوات للتظاهر وإثارة القلاقل في الشارع المصري مع انعقاد قمة الأمم المتحدة للمناخ على أرض مصر، وفي ظل ضغوط خارجية تتعلق بأوضاع حقوق الانسان في مصر.

ليس صك ضمان مستمر

عدم استجابة المواطنين للانخراط في مثل هذه الدعوات المشبوهة للتظاهر وإثارة القلاقل في المجتمع يجب أن تصب في خانة التقدير الذي يستحقه الشعب المصري، وهو يثبت كل يوم أنه يستطيع أن يفرق ويميز بين الغث والسمين، وبين الصدق والمخادعة.

عدم استجابة الجماهير لمثل هذه الدعوات، لا يعطي صك ضمان مستمر للسلطة، فالتحرك الجماهيري يمكن أن يحدث في أي وقت مع تفاقم أسباب الاحتقان، وتزايد مسببات الغضب الشعبي جراء الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها أغلبية المواطنين، يضاف إلى ذلك استمرار حالة الانسداد السياسي وغلق أبواب العمل الحزبي، واستمرار سياسة القبض وتزايد أعداد مسجوني حرية الرأي والتعبير.

صحيح أن موقف المصريين عبَّر عن وعي جمعي سليم، ولكن الصحيح أيضًا أنه كان في جانب منه تخوفًا من سطوة القبضة الأمنية خاصة مع التوسع في الممارسات الأمنية المشددة. يجب التوقف هنا لنشير إلى أن الشعب المصري له مواعيد، لا يضبطها على توقيت أحد، وفي كثير من الاحتجاجات الكبرى التي خرج فيها الشعب لم تكن على رادار أية قوى سياسية معارضة أو حاكمة.

قدرة الشعب على الصبر لا يضاهيه فيها شعب آخر، ولكن لحظة انفجار مخزون المظالم، لن تحتاج إلا شرارة اندلاع، بعدها تخرج الحمم عن كل سيطرة.

الانسحاب ليس حلًا

كان موقف المعارضة شريفًا تجاه تلك الدعوات، لكنها تجد نفسها في الوقت نفسه محشورة بين إيمانها بحق المواطنين في التظاهر، وقناعتها بأن الأوضاع ترشح للانفجار في أي وقت، وهي تواجه نقاشات واسعة داخل صفوها حول الموقف من الحوار الوطني الذي يسير بسرعة السلحفاة ولم يخرج من أقبته دخان يبشر بخير.

ورغم أني لست منضمًا لأي حزب، وبالضرورة لست مطلعًا على ما يجري داخل تلك الأحزاب، لكني أكاد أجزم بأن المناقشات داخل صفوف كثير من هذه الأحزاب بين قياداتها وكوادرها ونشطائها لا تخلو كل يوم، أو على الأقل مع كل إجراء تتخذه الحكومة ضد قناعات وأفكار وبرامج هذه الأحزاب، والأسئلة المتكررة في هذه النقاشات -حسب توقعي- تدور حول جدوى وجدية البقاء في حوار غير منتج، وسط أجواء غير مواتية، ولا هي مشجعة على الاستمرار في مثل هذا الحوار.

أتوقع أن هناك داخل صفوف المعارضة ضغوطًا بالانسحاب من كوادرها على قياداتها التي ظلت مصرة على الاستمرار في مشاركة الحِمل مع أهل الحكم، وأبدت وما تزال الاستعداد الدائم ومن غير شروط للتوصل إلى حلول سياسية، وما يزالون يدفعون باتجاه تحريك ملفات سجناء الرأي وتحسين أوضاع حرية الرأي والتعبير.

ولعل السلطة أول من يعلم أن كثيرًا من قيادات المعارضة تعرضت وما تزال تتعرض كل يوم للكثير من المزايدات، وخاض الناس في ذممهم ووطنيتهم، وما يزال الأمل يحدوهم في أن تنتبه السلطة إلى الثمن الباهظ الذي دفعوه من سمعتهم، ولن يكون غيرهم قادر على أن يدفعه إذا ما أحبط تلكؤ السلطة وألاعيبها في تجنب الدخول المباشر إلى عملية إصلاح شاملة تنقذ الجميع: السلطة قبل المعارضة، والوطن قبل كل أحد.

**

من قبيل المصارحة أن نشير إلى تلك الأنباء التي تتواتر كل فترة منذ بدأت الحركة المدنية في الانخراط في عملية الحوار، وهي أنباء يتم تداولها بشكل متكرر حول نية الحركة الانسحاب من الحوار الوطني وعدم المشاركة في المناقشات المزمع إجرائها ضمن فاعلياته.

تكررت تلك الأنباء وتكررت مرات نفيها من قبل الحركة المدنية على لسان المتحدث الرسمي وأحيانًا يخرج بعض أبرز قياداتها لنفي الخبر، والتأكيد على أنه لا صحة على الإطلاق لما تردد عن انسحاب الحركة المدنية من مجريات الحوار الوطني، وأن الحركة مستمرة في التحضير للمناقشات في اللجان المختلفة.

ومع قناعتي بأن الانسحاب الآن من الحوار ليس حلًا، بل ربما يفاقم الأزمات القائمة، إلا أن تواتر مثل تلك الأنباء عن الانسحاب، وزيادة وتيرة الحديث عنه، ومن ثم الحديث عن نفيه، يستحضر لدى كل متابع مدقق المثل الشائع بأنه: “لا دخان بدون نار”.

وهي رسالة إلى السلطة يجب أن تلتقط شفرتها وتحل مغزاها.

رسائل للمعارضة والسلطة

طريق الإصلاح طويل ولكنه مأمون، ويجب أن تتعلم المعارضة الدرس الأعظم من يناير ويونيو أن التغيير هو عملية تراكمية ومستمرة، وكل إنجاز يتحقق على هذا الطريق هو خطوة في تفكيك البنية السياسية الفاسدة.

لم يعد من المستساغ أن يتصور البعض أنه بالإمكان استنساخ ما جرى في يناير ويونيو، بدون توفر مناخاته ولا أدواته ومن دون أن يستوعب أننا تجاوزنا هذه المرحلة.

ولم يعد من المقبول أن تتصور السلطة أنها انتصرت في معركة مع مثل هذه الدعوات التي لا قيمة لها على الأرض، أو تتوقع أنها باتت قادرة على منع الخروج إلى الشوارع، فالحق أنها ما تزال معرضة للتعامل مع نوع جديد من الاحتجاجات العشوائية غير المخططة، ستكون الأشرس والأخطر على مصير الدولة والنظام والشعب في المحصلة النهائية.

**

المعارضة عليها أن تدرك أن سؤال التغيير صارت إجابته أصعب من أي وقت، وأكثر كلفة، وأن طريق الإصلاح طويل، ولكنه مأمون.

أما السلطة فعليها أن تدرك أنه لم يعد هناك وقت نضيعه في ادعاء طرف أنه يملك الحقيقة الغائية عن الأطراف الأخرى.

ويجب أن تُقر السلطة حقيقة أن المعارضة ليست دائمًا على خطأ، وأن تنخلع من فكرة أن الصواب دائمًا في جانب السلطة، صحيح أن الصورة من صفوف المعارضة تكون غيرها من داخل القلعة، لكن النظر من خارج القيود ريما تكون أوضح وأشمل وأكثر نجاعة في بعض الأحيان.

إن سد أبواب الأمل في التغيير والإصلاح يفتح أبوابًا لليأس لا يمكن التنبؤ بما يمكن أن تقذفه في وجوهنا في أي لحظة ما بقيت الأوضاع على ما هي عليه.

فتعالوا إلى مؤتمر للمصارحة الوطنية مخلصة لوجه الله صادقة مع الوطن.

**

وأتصور أن جدول أعمال المصارحة لابد أن يشمل ضمن ما يشمل:

أولًا: إعادة النظر في ترتيب الأولويات، والتوافق على أجندة العمل الوطني في المرحلة القادمة.

ثانيًا: النظر في الكيفية التي يجري من خلالها توسيع قاعدة المشاركة في المجالات السياسية والمجتمعية والاقتصادية.

ثالثًا: تشكيل أمانة للعمل الوطني تكون مهمتها متابعة تنفيذ ما يتفق عليه بين المعارضة والسلطة.

وأخيرًا فإن المصارحة لا تعني التحامل والتبجح ولا القسوة في النقد، وهي أيضًا لا تقوم على المجاملة والتملُّق والتكلُّف. بل تفترض الصدق والصراحة، وتتضمن النصح، وهي تشترط القبول من أطرافها بقول الحقيقة كما هي، وتستهدف رؤية الأمور على طبيعتها، بعيدًا عن المبالغة والتزييف، أو الانكار.

المصارحة المطلوبة تفرضها علينا أحوال الوطن التي لا تخفى خطورتها على أحد من أهل الحكم ولا من أهل المعارضة، وهي من واجبات العمل الوطني في مثل هذه الظروف التي يمر بها بلدنا، مصارحة من أجل الوطن وليست للتجريح في أهل الحكم.

تعالوا نتصارح بكل جدية وبكل الصدق من دون خوف، ولا تخوين.

تصارحوا قبل الطوفان، المصارحة سفينتكم الأخيرة، وافتحوا للحرية أبوابها تسلموا ويسلم الوطن من كل سوء.