في النصف الأول من عام 1977، رفعت الأجهزة الأمنية تقريرا إلى الرئيس الراحل أنور السادات يفيد بأن الأكاديمية المصرية سناء حسن زوجة سفير مصر في كندا تحسين بشير زارت إسرائيل أكثر من مرة بصحبة المشرف على رسالتها للدكتوراة، والتقت سياسيين وعسكريين لاستكمال أطروحتها عن أزمة الشرق الأوسط.

غضب الرئيس من إقدام زوجة الدبلوماسي المصري على تلك الزيارة، وخير السادات زوجها بين تقديم استقالته من منصبه أو تطليق زوجته، فاختار السفير أن يطلقها، ورغم إتمام إجراءات الطلاق قرر السادات حرمان الزوجة من جواز سفرها المصري وسحب الجنسية المصرية منها.

بعد تلك الواقعة بشهور قليلة صدم السادات الرأي العام المصري والعربي بقراره بالسفر إلى إسرائيل الذي أعلنه في 9 نوفمبر خلال جلسة لمجلس الشعب، في حضور ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، بحسب ما روى إسماعيل فهمي وزير الخارجية المصري الذي استقال من منصبه احتجاجا على قرار السادات.

«إننى على استعداد حتى للذهاب إلى آخر نقطة فى العالم سعيًا إلى السلام العادل، ومن أجل أن لا يقتل أو يجرح أي من أبنائي الضباط والجنود، بل إننى على استعداد للذهاب إلى الكنيست الإسرائيلى، لأننا لا نخشى السلام ولأننا أيضًا لا نخشى المجابهة مع إسرائيل»، قال السادات في كلمته أمام البرلمان المصري فصفق له نواب المجلس بحرارة شديدة.

ووفقا لما ذكره إسماعيل فهمي في مذكراته «التفاوض من أجل السلام فى الشرق الأوسط»، فقد طلب منه السادات أن تمنع الرقابة الكلمة منعا باعتبارها زلة لسان، « أمرت فورا بحذف الجملة وبناء على ذلك لم يظهر في صحف الحكومة في اليوم التالي أي إشارة إليها غير أن المراسلين الأجانب أبرزوا تلك الفقرة في برقياتهم».

وعن رد فعل رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الذي قطع زيارته إلى ليبيا وحضر إلى القاهرة على متن طائرة حربية للمشاركة في جلسة البرلمان بناء على طلب السادات، يقول فهمي: «كان عرفات أكثر المصدومين.. وسألنى: ما معنى هذا الكلام؟ هل يتعمد هذا القول فى حضوري؟ هل دعوتمونى لأسمع هذا الكلام؟».

وفي 12 نوفمبر عُقد اجتماع لمجلس وزراء الخارجية العرب في تونس، وبالطبع فرض كلام السادات بالبرلمان نفسه على مناقشات الوزراء «شارك في الاجتماع لأول مرة واحد وعشرون من اثنين وعشرين من وزراء الخارجية العرب، وكثر الحديث  فى دهاليز المؤتمر حول نوايا السادات، وأشيع أنه لا شك ذاهب إلى القدس»، لكن فهمي أصر على نفي ذلك وأكد أن مصر ملتزمة بأن السلام إن لم يكن شاملا فسترفض عودة سيناء حتى لو قدمتها إسرائيل على طبق من الذهب.

وعن الاتصالات السرية بين مصر وإسرائيل والتي جرت قبل قرار السادات الصادم، يقول فهمي إن الإشارة الأولى التي وصلته في ذلك الإطار تمثلت في ورود برقيات من السفارات المصرية بالنمسا وواشنطن ولندن تذكر أن عددا من القادة الصهيونيين العالميين عبروا عن رغبتهم في تدبير اجتماع سري بالرئيس السادات، لكن المحاولة فشلت إزاء اعتراضي، ليجدد الإسرائيليون طرقهم بعد أسابيع قليلة عبر بوابة الرباط.

تقدم مناحم بيجن رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك باقتراح للملك المغربي الحسن الثاني يعرب فيه عن رغبته في إجراء اتصال مباشر مع مصر، وقبل السادات المقترح، وأوفد حسن التهامي وزير الدولة لشئون الرئاسة مبعوثًا له لمقابلة وزير الخارجية الإسرائيلي موشيه ديان بالعاصمة المغربية الرباط، وأخفى ذلك عن وزير خارجيته.

وفي نهاية أكتوبر 1977، اجتمع السادات بوزير خارجيته في قصر الضيافة بمدينة سيناء الرومانية، وفاجأه بفكرة زيارة إسرائيل «إسماعيل، ما رأيك بخصوص رحلة خاصة للقدس وإلقاء خطبة في الكنيست؟»، ويقول فهمي إنه أخذ على حين غرة، فسأله «وما الغرض من هذه الرحلة؟»، فرد السادات: «لا شيء إلا الذهاب للقدس وإلقاء خطبة ثم العودة»، ليتساءل وزير خارجيته «هل الغرض هو القيام بعمل إعلامي ضخم؟ هل تريد حركات إعلامية؟.. لو أن هذا هو الغرض فإنك لاشك ستحصل على دعاية من الدرجة الأولى خاصة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة».

ويضيف فهمي في مذكراته: «استمرت المناقشات بيننا نحو ثماني ساعات متصلة دون توقف.. سألته: يا سيادة الرئيس، هل عندك أي معلومات لا أعرفها تبرر الرحلة؟.. فقال بحسم: لا أخفي عنك أي سر لم تصلني أي وعود خاصة أو تعهدات من بيجن تبرر الرحلة».

ويستكمل فهمي ما دار في هذا اللقاء «حاولت إفهامه أن مبادرته تعني اللعب بجميع أوراقنا دون أن نجني شيئًا، وأنه بذلك سيجد نفسه مجبرًا على تقديم التنازلات، فهو عمل ينطوي تلقائيا على الاعتراف بإسرائيل وإنهاء حالة الحرب وأن مجرد الذهاب إلى القدس سيصب في مصلحة إسرائيل التي ستملي شروطها في ظروف ستُعزل فيها مصر عن محيطها العربي».

ترك فهمي السادات وذهب لاستراحته الخاصة، وهناك وجد أسامة الباز مدير مكتبه والدكتور محمد البرادعي المستشار القانوني بوزارة الخارجية ينتظرانه بفارغ الصبر «قصصت عليهما ما سمعته من الرئيس السادات، فانفجر الباز قائلًا: هذا جنون.. لا شكّ أن الرجل غير متزن.. لابد من منع ذهابه للقدس حتى لو استعملنا القوة».

«ولم يختلف اعتراض البرادعي عن موقف الباز لكنه لم يعبر عن رأيه بنفس العنف»، يقول فهمي مضيفا: ثم وجه البرادعي فجأة سؤالا إلى الباز وقال «ماذا تفعل لو أصر السادات على رأيه هل ستذهب معه؟»، لكن إجابة الباز كانت واضحة «لن أذهب إلى القدس إلا جثة هامدة».

ويروي فهمي أنه اقترح على السادات خطة بديلة عن الذهاب إلى القدس تقضي بأن يدعو رسميا إلى مؤتمر قمة دولي في القدس يحضره الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن ورؤساء دول المواجهة وياسر عرفات وسكرتير عام الأمم المتحدة لوضع خطة رئيسية لمعاهدة سلام للشرق الأوسط، ثم يكمل مؤتمر جنيف العمل على هذه الخطة «أبدى السادات إعجابه بالفكرة لكنه رمى بها عرض الحائط ليخرج على البرلمان المصري بخطبته الشهيرة».

وكشف فهمي عن أسباب رفضه القاطع لزيارة السادات وقال إنها قامت على ثلاثة محاور «الأمن القومي المصري، وعلاقة مصر بالدول العربية، وزعامة مصر للعالم العربي»، ورأى أنه لن يتأتى أي خير من ذهاب السادات للقدس، بل سيسفر ذلك عن نتائج عكسية حتى وإن قدم في مسعاه تنازلات عظيمة؛ وقال إن «رحلة القدس لم تكن محاولة للسلام في الشرق الأوسط بل كانت تحركًا غير رشيد في لعبة طويلة ومعقدة للسلام».

ورغم ما دار بينهما في رومانيا إلا أن السادات طلب من وزير خارجيته قبل أن يزور دمشق لإطلاع الرئيس حافظ الأسد على فكرته بإعداد الخطاب الذي سيلقيه أمام الكنيست، فغضب فهمي لأن ذلك كان يعني فشله في كل محاولاته لإثنائه عن هذه الفكرة منذ أن أعلنها في خطابه أمام مجلس الشعب يوم 9 نوفمبر 1977.

رفض فهمي مصاحبة السادات في سفره إلى سوريا، وبعد عودة الأخير من الزيارة التي أثارت أزمة كبيرة مع نظيره السوري، لم يجد وزير خارجيته ضمن مستقبليه في الإسماعيلية، وفوجئ بأن نائب الرئيس حسني مبارك يسلمه خطابا وفتحه ليجد فيه استقالة فهمي ونصها: «نظرًا للظروف الحالية التي تواجه مصر والعالم العربي، وبسبب التطورات غير العادية وغير المنتظرة التي ستحدث مؤثرة في القضية العربية، أقدم استقالتي لسيادتكم مقتنعًا تمام الاقتناع بأنني لا أستطيع الاستمرار في مكاني، ولا أستطيع أن أتحمل كذلك المسؤولية الناتجة عن التطورات الجديدة، وباحترامي ودعواتي لمصر أتمنى لكم النجاح».

يؤكد فهمى، أن السادات أبلغ فورًا نائبه مبارك، وغيره من كبار المسؤولين والسفير الأمريكي هرمان إيلتس خبر الاستقالة، ويضيف: «استأذن الفريق الجمسى وزير الحربية من الرئيس العودة إلى القاهرة وإحضاري معه إلى الإسماعيلية، ولكن السادات قال له: «كلا.. أنت لا تعرف فهمي، لقد كان طوال الوقت ضد فكرة رحلة القدس، ولن يقبل بتغيير قراره».

وفي اليوم التالي دعا مبارك وزير الدولة للشئون الخارجية السفير محمد رياض وأخبره أنه وقع الاختيار عليه ليكون وزيرًا للخارجية مؤقتًا، غير أنه خلال 6 دقائق استقال رياض أيضًا وذهب لمنزل فهمي ليخبره بقراره.

لم تثن استقالة فهمي ثم رياض السادات عن أن يزور إسرائيل في 19 نوفمبر 1977، ويلقي خطابه في الكنسيت «السلام لنا جميعا، على الأرض العربية وفي إسرائيل، وفي كل مكان من أرض هذا العالم الكبير، المعقد بصراعاته الدامية، المضطرب بتناقضاته الحادة، المهدد بين الحين والحين بالحروب المدمرة، تلك التي يصنعها الإنسان ليقضي بها على أخيه الإنسان».

وفي الوقت الذي رحبت فيه الصحف الإسرائيلية بخطاب السادات وقراره التاريخي خرجت مظاهرات في عواصم عربية للتنديد بهذه «الخطوة الفردية» التي عزلت مصر.

ووصف فهمي الرئيس السادات بأنه «صاحب خيال جامح في السياسة»، مضيفا: «كان يتوهم أشياء لم تحدث مطلقًا على أرض الواقع، لأن كل بلد لها أجندتها الخاصة في النهاية». ويرى أن السادات تحول إلى سجين لأساليبه الخاصة ولشخصيته المزدوجة، وكان يسعى لإرضاء ذاته.

ويشير فهمي أنه لأول مرة بعد زيارة السادات للقدس وتحت راية السلام عربدت إسرائيل في الضفة والقطاع والقدس والجولان وضد العراق ثم غزت لبنان غزوا كامل تحت شعار تأمين الجليل.

ويؤكد أنه بتوقيع اتفاقية السلام حول السادات الحلم الصهيوني ووعد بلفور إلى حقيقة، «نجحت إسرائيل في تأمين جبهتها الجنوبية عندما تقابل أقوى وأكبر دولة عربية وسيناء منزوعة السلاح، ولكن أهم شيء حقيقة يعني بيجن هو تجريد نظام الأمن العربي من فاعليته لأن مصر كانت محور هذا النظام والمنتفع الوحيد باتفاقية كامب ديفيد هي إسرائيل».

ويرى فهمي أن رغبة السادات في أن يصبح «بطلًا عالميا» أدت الى عزلة مصر عربيًا وعزلة الرئيس المصري داخل بلاده، مشيرًا إلى أن غالبية المصريين استقبلوا مصرعه على أيدي متشددين إسلاميين بلا مبالاة كأنهم يتحررون من وهمه.

ويردف «لم يكن باعثًا على الدهشة أن تتم تصفية السادات في النهاية على يد مجموعة طائفية.. وبينما كان معظم المصريين على غير استعداد للذهاب إلى هذا الحد (الاغتيال) فإن غالبيتهم كانت تشارك القتلة تحررهم من وهم السادات وليس هناك دليل أفضل من اللامبالاة الشديدة التي استقبل بها الشعب حادث مصرع السادات بل إنها كانت أكثر من لامبالاة، إنها كانت في الواقع محاولة متعمدة لتناسي أن السادات كان موجودا من قبل وإنه قد حكم البلاد أحد عشر عاما».