كانت لحظة فض اعتصام رابعة إعلان قيام نظام جديد للحكم في مصر، والنظام الجديد يختلف كليا عن نظام مبارك، وعن المجلس العسكري بعد تنحي مبارك. النظام الجديد أكثر صرامة وعنادا. وفي وقت الجد يكون أكثر عنفا. بعض قيادات الجماعة أدركوا الفارق مبكرا وأسسوا قاعدة جديدة للجماعة في الدوحة ثم إسطنبول ولندن. ولكن أغلب قيادات الجماعة تأخروا في استيعاب الموقف، وراهنوا رهانات خاسرة على قدرة الجماعة التنظيمية لحشد الجماهير وإسقاط النظام الجديد مبكرا.

الضربات التي تلقتها الجماعة وفشلها في حشد الرأي العام، جعلت من حسم المواجهة لصالح التنظيم أمرا صعب المنال.

حاولت الجماعة صياغة استراتيجية جديدة لمواجهة النظام، كان أهم محاور تلك الاستراتيجية تجهيز التنظيم لمواجهة عنيفة مع النظام عبر تشكيل مجموعات “تأمين المظاهرات”، والتي كان قوامها عدد من شباب التيار الاسلامي المتحمسين وشحنهم معنويا عبر روايات الانتهاكات التي يتعرض لها المتظاهرين، وكان هدف تلك المجموعات حماية مسيرات الجماعة، من المواجهات مع الأمن و الأهالي، وتم تسليح هذه المجموعات ببنادق الخرطوش وزجاجات المولتوف والسلاح الأبيض.

بالطبع، فشلت مجموعات التأمين في هدفها، وتم القبض على أعداد كبيرة منهم. تزامن ذلك مع فشل استراتيجية الجماعة في حشد الجماهير ضد النظام. وهو ما دفع الجماعة إلى تحديد نطاق أضيق من الجماهير لاستقطابهم إلى المعركة عبر توجيه الدعاية إلى التيار الإسلامي، وتصوير معركتهم مع النظام إلى خلاف حول هوية مصر بين العلمانيين والإسلاميين. وهو ما فشل أيضا بعد تخاذل السلفيين عن نصرة الإخوان، وانقسام مواقفهم بين دعم النظام الجديد كما فعلت الدعوة السلفية، أو العودة للمساجد ونبذ السياسة في عمومها.

ثم كانت المحاولة الأخيرة بتشكيل اللجان النوعية، وتوفير تدريبات وتمويل لتلك اللجان، من أجل تنفيذ عمليات تستهدف المنشآت الحيوية ونقاط الارتكاز الأمنية عبر تفجيرات محدودة هدفها إظهار قوة الجماعة تحت شعار “ما دون القتل سلمية”، وبالتوازي تشكيل تنظيمات مسلحة سرية منبثقة عن الجماعة مثل “حسم والعقاب الثوري” لتنفيذ عمليات كبرى وخطة اغتيالات والاستعداد للحظة الحسم التي يستطيع التنظيم حينها احتلال عدد من المؤسسات الحكومية عبر تشكيلات مسلحة وغطاء من المظاهرات الجماهيرية، بهدف إعادة الجماعة إلى خانة الند في مواجهة النظام.

ولكن الاستراتيجية الأخيرة وقدر ما تحمله من عنف، أشعل الخلاف داخل الجماعة في المستوى القيادي حول قدرة الجماعة على الحسم، وتكلفة هذه المواجهة على التنظيم. وهو ما دفع كهنة التنظيم القدامى على رأسهم محمود عزت ومحمود حسين، إلى رفض استراتيجية الحسم، وهو ما نتج عنه انشقاق الجماعة إلى جبهتي “محمد كمال” صاحب استراتيجية الحسم و”محمود عزت” الذي لم يكن قد قرر بعد ما الذي سيفعله.

أنهت الدولة الخلاف مبكرا بتصفية محمد كمال والقبض على محمود غزلان، واتخذ عزت قراره بوقف فوري للمظاهرات ووقف الدعم عن اللجان النوعية والتنظيمات المسلحة، وترك الباقي للأمن ليقوم بدوره في تصفية تلك التنظيمات والقبض على أغلب أعضاءها.

رأى عزت أن خطة كمال استنزفت الجماعة وأن كل خطوة في اتجاه الحسم تضعف موقف الجماعة دوليا وتدعم موقف النظام الذي جعل من مواجهة عنف الجماعة شعارا لحكمه، استبدل عزت استراتيجية الحسم باستراتيجية “الاستنزاف”، وجعل من بقاء التنظيم هدفا استراتيجيا بدلا من الصراع على الحكم.

استخدمت الجماعة خلال السنوات الماضية كل ما تملك من أدوات لاستنزاف النظام الحاكم والضغط عليه، أسست في سبيل ذلك عدد ضخم من المنصات الإعلامية عبر الفضائيات أو الفضاء الإلكتروني، تقوم تلك المنصات بالتركيز على الطبقات الأكثر فقرا وتوفير مساحة لكل رأي يعارض النظام، بالإضافة إلى حملات منظمة لدعوات تظاهر، وقد ركزت الجماعة دائما أن يكون الداعين لها خارج الاطار التنظيمي لها.

رغم فشل أغلب الدعوات في تحقيق هدفها المعلن في خروج الجماهير للتظاهر، ولكنها حققت هدفها الخفي باستنزاف طاقات النظام في مواجهة الدعوات، ودفع النظام الى القيام بما يجيد فعله عبر الخطط الأمنية ووقف السياسة وغلق المجال العام، وتوسيع دائرة الاشتباه واستعداء قطاعات أوسع من الجماهير، وهو ما نفذه النظام كما يجب، حتى وصل الأمر إلى مرحلة تفتيش هواتف المواطنين للبحث عن معارضين محتملين.

في الحقيقة، جانب من النظام لا يزال يرى في تلك الدعوات فرصة لاستمرار حالة التعبئة، عبر تضخيم تلك الدعوات وإظهارها كتهديد للدولة، بهدف تجنيب الخلافات الداخلية التي من الممكن أن تطرأ وتحجيم معارضة الداخل، بادعاء أن الدولة لا تزال مستهدفة وغير مستقرة، وأن المناخ لا يسمح بالمعارضة أو باستبدال الخطط الأمنية بأخرى سياسية.

رغم أن الجماعة توقفت تماما عن التظاهر منذ قرار عزت في 2016، وكل الدعوات التي تخرج من أبواق الجماعة في الخارج لا يشارك فيها إخواني واحد، إلا أن الجماعة لا تزال حاضرة كخصم يناوئ النظام ويتفاوض سريا على مستقبله عبر وسطاء. وهو ما يجب أن يتوقف النظام عن تصويره، فالجماعة لم تعد موجودة في الخريطة السياسية وليس لها أي ثقل يجعل منها خصما محتمل، ولكن استخدامها كفزاعة عادة ما يصب في صالح الجماعة لتصوير نفسها ند للدولة وبديلا محتملا للمستقبل البعيد أو القريب.

اختلف النظام مع التنظيم في كل شئ، ولكن يبدو أن مصالح الطرفين توافقت على ضرورة استمرار لحظة 30 يونيو إلى الأبد.