لا خلاف على أهمية جهاز الإدارة الحكومية في الدولة الحديثة لتنظيم المجتمع والوفاء باحتياجاته العامة والأساسية. ويحتل هذا الجهاز مكانا خاصا بين المصريين منذ ابتكروه في فجر التاريخ، على نحو لا تعرفه الكثير من الشعوب. فعلى عكس نظرة الشك التي تعرفها مجتمعات عديدة تجاهه لاقترانه بتراث الاستبداد والفساد، إلى حد اعتبار البعض أنه “شر لا بد منه”، ينظر كثير من المصريين إليه كمرادف للدولة التي تمسك بمفتاح الحياة، ومصدر الأمان والاستقرار. لا يعنى ما سبق أنهم يولونه كامل ثقتهم، أو أنهم لا يرون فيه مظاهر للفساد والقهر والتعالي، وإنما أن هذا لا يصل إلى حد الشك الذي يناله في مجتمعات أخرى.
اقرأ أيضا.. لو كنت رئيسًا للمؤتمر الاقتصادي
يقابل ذلك شعور عميق لدى الجهاز الإداري في مصر بأنه المسئول عن الدولة، وهو ما حافظ على استمراره في تسيير أمورها حتى في أصعب الظروف، كما ظهر واضحا في الشهور التي أعقبت ثورة يناير 2011، حينما غاب بشكل شبه كامل مركز التوجيه السياسي للدولة وطبقتها الحاكمة، بينما استمر الجهاز الإداري في أداء وظائفه كالتعليم والصحة والخدمات المدنية والعلاقات الخارجية، واستمرت المرافق الحيوية كالموانئ والمطارات والطاقة والإعلام تعمل بشكل طبيعي، كما يتجسد في إدارة بعض الملفات العريقة كالري، الذي كان من أسباب نشأة فكرة الدولة في مصر.
لكن هذا لم يحل دون تعرض الجهاز الإداري في مصر، على مدى السنوات، إلى انتقادات واسعة، سواء من الحكام والمسئولين السياسيين، أو من الخبراء والمتخصصين، أو من المواطنين، أو حتى من العاملين فيه أنفسهم، تناولت أمور مثل الفساد والمحسوبية، وسوء اختيار العاملين وقلة كفاءتهم، ونقص التمويل، وسوء استخدام الموارد، وتضخم عدد العاملين أو نقص عددهم (حيث تختلف في ذلك وجهات النظر) وسوء توزيعهم قطاعيا وجغرافيا، وعتاقة النظم الإدارية، وغياب التنسيق بين المؤسسات والأجهزة المختلفة، وعدم الاعتناء بحسن خدمة المواطنين، وقلة الابتكار وعدم مواكبة المناهج الإدارية الحديثة.
ولا جدال في أن مستقبل مصر الذي نتطلع إلى الوصول إليه بعد عبور بوابات الخروج من الواقع الحالي يعتمد على معالجة كل هذه الاختلالات، لكننا سنسعى هنا إلى تناول خلل له أهمية خاصة، وهو المتعلق بحياد واستقلالية الجهاز الإداري عن الحكومة السياسية، لما له من آثار مهمة على ضعف أداء الجهاز الإداري في مصر. فقد ترك التاريخ لدى الجهاز الإداري للدولة ميلا لاعتبار نفسه الأمين على الدولة والمسئول عن بقائها وعن ترشيد خيارات مجتمعها، والتصاقا بين الموظفين والحكام، تقابله فجوة متسعة مع عموم الناس، وهو تراث قد يجد جذوره في غياب عملية تداول السلطة، وكذلك تاريخ انتماء الجانب الأكبر من العاملين فيه (ومن الحكام) إلى أعراق أجنبية، والذين ميزوا بين الدولة وأبنائها، فاعتبروا أنهم مسئولون عن الدولة، بينما أبناءها ليسوا أكثر من أحد أدوات ممارسة الحكم، وبناء ما يسعى إليه الحكام من أمجاد، أو عبء ينبغي عليهم السعي للحد من وطأته على أمور الحكم والدولة، وليسوا أصل الدولة وأصحابها الفعليين. والحقيقة، فإن التباس هذه المسألة يعد من أسباب ضعف أداء جهاز الدولة، والحد من قدرته على تصحيح مساره وعلاج عيوبه.
* * *
ولتبيان معنى الحياد الاستقلالية ينبغي أولا توضيح الفارق بين طائفتين من العاملين في جهاز الدولة، أو من يطلق عليهم وصف الخادم العام Public servant، وهما: موظفو الجهاز الإداري من ناحية، ومسئولو الحكومة السياسية من ناحية أخرى. أما موظفو الجهاز الإداري فهم العاملون الدائمون في مرافق الدولة الذين يتم اختيارهم بنظام محدد وبمواصفات تناسب وظيفتهم، ويتدرج أغلبهم في العمل من التعيين وحتى التقاعد، وإن كان يمكن أن يعمل بعضهم لفترة محددة، أو يترك الوظيفة قبل سن التقاعد، وهم يشبهون محرك السيارة الذي يحرك مؤسسات الدولة، وهو مستودع التخصص والخبرة والذاكرة المؤسسية. أما المسئولون السياسيون في الحكومة Government of the day فهم من يشغلون المناصب السياسية على قمة المؤسسات العامة، مثل الوزراء ونوابهم ورؤساء الهيئات العامة وغير ذلك من مناصب، ويستمر وجودهم خلال فترة ولاية حكومة معينة، ثم تنتهي مهمتهم بنهاية ولايتها، ليحل محلهم من تقوم بتعيينهم الحكومة الجديدة، وبهذا فهم يماثلون قائد السيارة وعجلة القيادة اللذان يحددان السرعة والاتجاه، وهم مصدر المبادرة وتحديد الأهداف والأولويات والتخطيط لتنفيذها، وذلك حسب توجهاتهم السياسية وبرنامجهم الذي انتخبوا على أساسه. ولا يشترط في هؤلاء -بخلاف الشروط الدستورية العامة- سوى حيازتهم على الثقة السياسية المستمدة من الانتخاب و/أو الاختيار السياسي من القيادة المنتخبة، حتى لو كانوا من بين موظفي تلك المؤسسات.
وفي حين يكمل دور كل من هاتين الفئتين الآخر، وأنهما مسئولان أمام القانون والمجتمع عن أداء عملهم مقابل أجرهم الذي يأتي من أموال دافعي الضرائب، فإنهما -حسبما تقضي القوانين المصرية والقوانين والأعراف المستقرة في غير مصر من الدول- يختلفان من حيث العلاقة بالحكومة السياسية، وهذا عنصر محوري في مسألة الحياد والاستقلالية.
فالموظفون ملزمون بتنفيذ تعليمات المسئولين السياسيين، بألا يذيعوا أسرار العمل، ولكنهم في ذلك محكومين بقوانين ولوائح ومعايير مهنية لا يحق لهم تجاوزها مهما كانت المقتضيات السياسية أو أوامر القيادات، كما أنهم مطالبين بالحفاظ على الصالح العام لأن ولاءهم الحقيقي هو للشعب والدستور والقانون. في المقابل، فإن هدف القيادات السياسية ورجالهم من موظفي المؤسسات العامة هو إنفاذ برنامجهم السياسي، وهو ما يدعوهم للعمل على إلزام الموظف بالولاء السياسي للحكومة بحيث تكون خدمة أهدافها هو المحدد الوحيد لعمله، وألا يجتهد إلا في حدود توجهاتها، وأحيانا يجد نفسه مهددا بالعقاب والتنكيل الوظيفي إذا قدم وجهات نظر مخالفة في مجال عمله.
يصل الأمر إلى أن يتصور البعض -بما في ذلك نسبة واسعة من الموظفين أنفسهم- أن استمرار الموظف في عمله هو إقرار باتفاقه مع توجهات الحكومة، وأن استمراره في العمل رغم أن لديه آراء مختلفة في مجال العمل هو نوع من النفاق، وأن عليه الاختيار بين تأييد هذه التوجهات أو ترك الوظيفة.
هذا الفهم غير الصحيح لطبيعة واجبات الموظف يزرع في نفسه الاقتناع بأن غاية عمله ومفتاح نجاحه الوظيفي هو إرضاء رؤسائه، وأن ولاءه هو للقيادات، وليس للمؤسسة التي يعمل بها أو للصالح العام، وهذا أحد أهم أسباب انتشار آفات مثل النفاق والتملق والكذب، والنزوع نحو التهرب من المسئولية وغياب القدرة على المبادرة والتجديد والإبداع. بعبارة أخرى، فإن الصالح العام يكون غالبا الثمن الذي يدفعه هذا الموظف لقاء ما يكسبه من رضا، بينما يجد الموظف المخلص للصالح العام، والذي يملك يقظة الضمير، وشجاعة مصارحة رؤسائه بما يخالف آرائهم، نفسه مهددا بأن يلقى العنت من رؤسائه، وأن تفوته فرص الترقي والتقدم الوظيفي.
والحقيقة أن التزام الموظف بتنفيذ تعليمات رؤسائه لا ينبغي أن يحول دون أن يعبر بكل وضوح وثقة في النفس واطمئنان عن رأيه في موضوعات عمله لما يراه متفقا مع القانون واللوائح، ومحققا للصالح العام، استنادا إلى خبرته واختصاصه، حتى لو كان يعلم أن هذا يخالف توجه قياداته، وبحيث يمثل ذلك حجة عليهم، وعنصر ضغط لمراجعة أفكارهم أو حتى التراجع عنها، بل إن تقصيره في تقديم رأيه الأمين خوفا أو طمعا ينبغي أن يعتبر مخالفة جسيمة لمسئولياته.
وهنا يلعب الجهاز الإداري -في مثال السيارة السابق- دور المكابح، أو الفرامل، التي تحمى الوطن من الاندفاع إلى حوادث مدمرة. وتمتلئ تقارير الصحف ومذكرات السياسيين وكبار الموظفين في الديموقراطيات الناضجة بقصص اعتراض موظفي الجهاز الإداري على الرؤساء والوزراء ووقوفهم ضد رغباتهم، ليس فقط في المخالفة للقانون، ولكن أيضا ضد تلك الرغبات التي لا تتفق مع الصالح العام أو تنطوي على خروج على ثقة المواطنين، دون أن يترتب على ذلك معاقبتهم أو التنكيل بهم.
بل إن قاعدة عدم جواز إذاعة الموظفين معلومات تتعلق بالعمل محكومة بأن هذا يقتصر على ما هو سرى، وفقا لقواعد صارمة لمسألة السرية باعتبارها خروجا على المبدأ الأصلي وهو حق المواطنين في المعرفة، والتي تحصر السرية في المعلومات التي تؤثر على الأمن القومي، أو الخاصة بالمواطنين وأنشطتهم التجارية. بل إنه حتى إذا تعلق الأمر بما تم تصنيفه كأسرار، فهذا لا يمتد إلى ما يخالف القانون، لدرجة أن كثير من الدول تشجع الموظف على الإبلاغ عما يعتبره مخالفا للقانون أو حتى إخلال بحسن أداء العمل وخروج على الصالح العام، والبعض ينشئ قناة آمنة يمكن للموظفين من خلالها إبلاغ جهات رقابية مستقلة بمثل هذه المخالفات، بدون أن يلحق بهم ما يهددهم في عملهم أو حياتهم الشخصية.
ومن بين الجروح التي لا زالت آثارها معنا إلى اليوم اتصالا بهذا الأمر، هو ما أعقب ثورة يناير 2011 من نقاش حول تراكم الممارسات الخاطئة والفاسدة على مدى عقود، والتساؤل الواسع عن كيفية حدوث ذلك دون اعتراض من أحد، ودفاع بعض من واجهوا الاتهامات بالتقصير والفساد بأن أحدا لم ينبههم إلى وجود ما يستدعى التصحيح. والحقيقة أن الكثير من الأخطاء والانحرافات لم تكن لتحدث لو كان الموظفون قادرين على طرح وجهة نظرهم وما لديهم من تحفظات عليها عند طرحها من جانب رؤسائهم من سياسيين ومن يدعمهم.
* * *
يضاف إلى ما سبق مسألة زادت أهميتها في السنوات الأخيرة نتيجة التضييق الذي طرأ عليها، وهي المتعلقة بمساحة الحرية التي يحظى بها الموظف العام في حياته الخاصة -أي بعيدا عن العمل- من حيث اقتناعاته ونشاطه السياسي، لأنها تعتبر التجسيد العملي لعدم تبعية الموظف العام للسلطة السياسية. فحتى سنوات قريبة حظيت الآراء والاقتناعات السياسية للموظف بحرية تتماشى إلى حد مقبول مع ما يقضى به الدستور والقانون في مصر، وأنها لا تؤثر على وضعهم الوظيفي. طبعا لم يمتد ذلك إلى ما أباحه الدستور والقانون من حرية النشاط السياسي، وخاصة الحزبي، والذي جاء تأثيره الفعلي على الموظف متباينا: فإذا كان النشاط مواليا لنظام الحكم والحزب الحاكم وحلفائه، كان لهذا أثر إيجابي للغاية، حتى أصبحت عضوية الحزب الحاكم جائزة كبرى يتنافس فيها المتنافسون؛ أما إذا كان معارضا أو مستقلا، كان لهذا -في أغلب الأحوال- أثرا ضارا بمسيرته الوظيفية، وسببا في وضع سقف منخفض لما يتاح له من فرص. وقد أكدت الشواهد أن هذا الأثر لا يأخذ في اعتباره مطلقا الكفاءة المهنية للموظف، فالموظف ذو النشاط الموالي ينتفع بذلك مهما كانت قدراته محدودة، بينما يتضرر الموظف النابه ذو النشاط المعارض أو المستقل، ويتضرر معه المجتمع، مهما كانت الحاجة لكفاءته. وحتى هذا الوضع المنتقص شهد تراجعا كبيرا في السنوات الأخيرة، عندما أصبحت مساحة عدم التسامح مع الموظفين تشمل الآراء والاقتناعات فضلا عن الأنشطة السياسية، رغم أن كلها حقوق كفلها الدستور والقانون.
لا يقوم مبدأ حرية الموظف في اختياراته السياسية، وعدم إجباره على الولاء للسلطة السياسية، على افتراض أنه سيتصرف بتجرد تام دون أن تؤثر هذه الاختيارات على عمله، وإنما على أساس أنه لا يجوز معاقبة الموظف على اختياراته خارج ما يمس العمل، وإلا كان على كل حكومة جديدة أن تعزل كل الموظفين الذي أدوا عملهم مع الحكومة السابقة، والبحث عن موظفين جدد يدينون لها بالولاء، وهكذا، وهو أمر مكلف للغاية، وغير ممكن عمليا، ويحرم المؤسسات تراكم الخبرة والمعرفة.
والصحيح هو أن يخضع عمل الموظف العام إلى الرقابة الوظيفية الرسمية لرؤسائه وللرقابة الواقعية من زملائه ومرؤوسيه، بحيث يتم تقويمه إذا انحرف بعمله نحو انحيازاته السياسية أو معاقبته إذا تسبب في ضرر، وفي كل الأحوال فإن تنوع التوجهات السياسية الشخصية للموظفين تؤدى إلى تخفيف الأثر السياسي لتوجه أي منهم. بعبارة أخرى، فإن ذلك يقتضي أن تظل الآراء أو الأنشطة السياسية الشخصية للموظف حق له، دون أن يكون لممارستها أي تأثير على وضعه الوظيفي، وتكون مكافأته أو معاقبته فقط على مدى أدائه لواجبات وظيفته.
حتى في الحالات التي حظر القانون عليها العمل السياسي، مثل العاملين في أجهزة الأمن والمخابرات والعسكريين والدبلوماسيين والقضاة، فالمفترض أن يظل هذا الحظر استثناءً لا يفسر إلا في أضيق الحدود وفقط بقدر ما يؤثر على أداء الموظف لعمله، حتى لا يكون فيه افتئات على حقوقه كمواطن، ودون أن تمس حقه الطبيعي في أن تكون له آرائه ومناقشتها في محيطه الشخصي.
وقد يقول قائل إن الحياد والاستقلالية تعتبر شكلا متطورا للعلاقة بين الموظف والحكومة لا يتحقق إلا في المجتمعات الديموقراطية المتقدمة، بينما تحتاج الدول النامية إلى أن تخطو خطوات طويلة على طريق التقدم حتى تستطيع الوصول إلى هذا الوضع. إلا أن العكس هو الصحيح، وهو أن هذه الخاصية كانت من الأسباب الرئيسية لاكتمال ديموقراطية هذه الدول وتقدمها، حيث كان من بين أسس تحققها وجود جهاز بيروقراطي كفء ومحترف. في المقابل، فإن الدول التي يخضع فيها الموظف أمام رئاساته السياسية تماما، فهي التي تعاني من انخفاض كفاءة المؤسسات البيروقراطية، والتي يتراكم فيها الفساد والفشل والتخبط، وتضيع كل فرص التقدم.
تبقى هنا نقطة أخيرة، وهي أن مصر على ما يبدو تقف على أعتاب تجربة جديدة قديمة، وهي انتقال جهاز الدولة إلى عاصمة إدارية جديدة بعيدة عن المراكز السكانية. بالطبع ليست هذه المرة الأولى في تاريخ مصر التي نشأت فيها عاصمة تخصص للسلطة وجهاز الدولة، إلا أن هذا دائما ما ارتبط بتوثيق الرابطة بين الجهاز الإداري للدولة والسلطة السياسية الحاكمة، مقابل توسيع الفجوة بينه وبين عموم الناس.
* * *
وختاما، فإن أحد أهم أبواب خروج مصر من أزماتها هو امتلاكها جهاز إداري حكومي يتمتع بالكفاءة والحرفية والاستقلالية، يعلم أن مسئوليته هي خدمة المواطنين وتحقيق مصالح الوطن، وانه ليس امتدادي للسلطة السياسية، وأن طاعة الرؤساء لا تعنى الخضوع لهم، وأن هذا يتطلب مراجعة للقوانين واللوائح ذات الصلة، لكنه يتطلب بقدر أكبر تغيير الوعي العام لطبيعة الموظف العام، وتغيير إدراك صناع القرار والموظفين أنفسهم لطبيعة دورهم ومسئولياتهم.