كان من المتوقع أن تعاود روسيا الحديث عن التفاوض مع أوكرانيا بعد قيام موسكو بضم المناطق الأوكرانية الأربع “دونيتسك ولوجانسك وزابوروجيه وخيرسون” إلى قوام روسيا الاتحادية. وبالفعل، عادت روسيا إلى الحديث عن المفاوضات لتؤكد أنها مستعدة للتفاوض بدون شروط مسبقة من جانبها، وأن الشرط الوحيد هو “حسن النية” من جانب كييف.

ويبدو أن تصريحات الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي الانفعالية بشأن تجريم أي مفاوضات مع بوتين، أغرت موسكو بإيقاعه في “مطب سياسي- دبلوماسي”، خاصة وأنها نجحت في السيطرة على مساحات لا بأس بها من المناطق الأربع المشار إليها أعلاه، ثم أعلنت أنها كلها بحدودها، حتى التي لا تخضع بعد لسيطرة القوات الروسية، أراض روسية.

وتصورت موسكو أنها بذلك ستربك العالم، والقانون الدولي، بمناورات تشريعية وقانونية، وأنها تبدو الآن أنها تدافع عن أراضيها بحكم دستورها الذي يحتم الدفاع عن أراضي روسيا الاتحادية بالكامل، بما فيها شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي أصبحت “روسية” في الوثائق الرسمية.

لكن الغرب سرعان ما أفسد الطبخة، وزوَّد أوكرانيا بأسلحة ومعلومات وقدرات مكَّنَتها من استرداد العديد من المناطق الصغيرة، ثم استعادة خيرسون الاستراتيجية الحيوية التي انسحبت منها القوات الروسية بطريقة أثارت غضب الأجنحة المتطرفة في مفاصل السلطة، ودفعت بتساؤلات محرجة لدى الرأي العام المحلي.

كل ذلك كان متزامنا مع أربع قمم دولية: قمة “المناخ” في منتجع شرم الشيخ المصري، وقمة “العشرين” في جزيرة بالي الإندونيسية، وقمة “رابطة دول جنوب وشرق آسيا” (آسيان) في العاصمة الكمبودية “بنوم بنه”، وقمة “منتدى التعاون الاقتصادي في شرق آسيا والمحيط الهادي” (آبيك) في العاصمة التايلاندية بانكوك.

وهو ما أغرى موسكو بتوسيع الحملات الإعلامية حول “رغبتها” في المفاوضات، سواء مع الولايات المتحدة أو مع أوكرانيا، إذ إن هذه المحافل الدولية ضمت العشرات من زعماء العالم المتنفذين والشخصيات المؤثرة في مجالات السياسة والاقتصاد والمال، ومئات المنظمات الإنسانية والقانونية والمدنية. ولكنها كانت حملات كلاسيكية تصطدم بمجريات الواقع، وبحملات إعلامية وبروباجندا مضادة من الغرب. وفي نهاية المطاف تمت إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا في تلك المحافل، وتم التأكيد على عدم حتى التفكير باستخدام الأسلحة النووية عموما، وفي أوكرانيا بالذات.

وكانت تأكيدات الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأنه بعد فحصها المواقع الأوكرانية، لم تظهر أي دلائل أو مؤشرات على قيام كييف بتصنيع أسلحة نووية أو قنابل قذرة. وهي الحملة التي روجت لها موسكو لأسابيع طويلة من أجل إبعاد الأنظار عن القضية الحقيقية المتعلقة باحتلال دولة ذات سيادة، وضم أراضيها أيضا.

وبعيدا عن التحليلات السياسية التي ترتكز إلى انحيازات أو تمنيات، وعن تدويرات وسائل الإعلام للتصريحات وانتزاعها من سياقاتها ووضع عناوين طفولية للتهييج والإثارة، فأمام تصريحات موسكو بشأن استعدادها للمفاوضات بدون شروط مسبقة، أعلن الرئيس زيلينسكي عن شروط أوكرانيا لبدء الحوار وهي:

– استعادة وحدة الأراضي الأوكرانية.

– احترام ميثاق هيئة الأمم المتحدة.

– التعويض عن جميع الخسائر.

– معاقبة كل مجرمي الحرب.

– ضمان عدم تكرار ما حدث.

في هذه الأثناء. ظهرت تصريحات روسية أخرى من الكرملين والخارجية والمجلس الفيدرالي تشير إلى أن موسكو متمسكة باستعدادها للمفاوضات بدون شروط، ولكن يجب الأخذ بعين الاعتبار الأمر الواقع على الأرض. أي ينبغي أن تنطلق المفاوضات من نقطة الصفر في اللحظة التي ستبدأ فيها من دون العودة إلى ما قبل ذلك. وبكلمات أخرى، يجب أن تنفذ كييف شروط موسكو الستة:

– اعتراف أوكرانيا بروسية شبه جزيرة القرم.

– إعلان استسلام أوكرانيا وتجريدها من السلاح.

– إعلان حياد أوكرانيا.

– عدم انضمام كييف إلى أي أحلاف أو تكتلات.

– التزام كييف بعدم وصول أي نخب قومية إلى الحكم.

– اعتراف أوكرانيا بروسية دونيتسك ولوجانسك وزابوروجيه وخيرسون.

هكذا يبدو الوضع المربك الذي صار أكثر إرباكا وارتباكا وتشابكا بعد أن ظهرت تصريحات ملتوية إما من مصادر مجهولة أو على ألسنة موظفين من الحلقات الدنيا والوسطى في مفاصل السلطة الروسية.

هذا إضافة إلى الرسائل المتناثرة، من دون عنوان، بشأن وجود مفاوضات بين موسكو وواشنطن حول أوكرانيا، أو إجبار واشنطن زيلينسكي على الجلوس مع بوتين، أو التحضير لاتفاقيات معينة سيتم الإعلان عنها قريبا.. كل ذلك عمَّق من اللغط والارتباك.

وفي الوقت نفسه تواصل روسيا عملياتها العسكرية بعد استدعاء 300 ألف فرد من جنود الاحتياط، واستمرار فتح باب التطوع، وقبول المحاربين المتعاقدين، والإعلان الرسمي عن مشاركة مقاتلي شركة “فاجنر” في القتال بأوكرانيا، ومواصلة التصريحات بأن كل الأراضي الأوكرانية التي تم ضمها إلى قوامها هي أراض روسية، وأن موسكو سوف تستخدم كل البنود الخاصة بالدفاع عنها، بما فيها استخدام الأسلحة النووية.

وعلى الجانب الآخر، يواصل الغرب عدم اعترافه بضم أي أراضي أوكرانية إلى روسيا، وإمداد أوكرانيا تدريجيا بأسلحة متطورة، وتقديم مساعدات مالية ومعلوماتية ولوجستية واستخباراتية، ودعم في المحافل الدولية. إضافة إلى توسيع العقوبات تدريجيا على روسيا، والاستغناء التدريجي عن موارد الطاقة الروسية، وحرمان روسيا من التقنيات الرفيعة.

تجري الآن مناورات غير مفهومة، وغير واضحة، تثير شهية المحللين السياسيين رغم تناقضها أحيانا، وتعارضها مع آمال ورغبات البعض في أحيان أخرى. ولكنها غير كافية إطلاقا لتكوين صورة تحيط بالمشهد كاملا.

ومن جهة أخرى، يبدو أن الحرب ستطول لسنوات، كما قلنا من قبل. قد تهدأ قليلا أو تأخذ أشكالا ومنعطفات أخرى، ولكنها ستظل مستمرة لسنوات طويلة مقبلة. وللأسف الشديد، فمن المستبعد تماما إتمام أي جهود سياسية أو دبلوماسية بين موسكو وكييف في وجود كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس فلاديمير زيلينسكي وإدارتيهما، لأن لا شيء يتغير أو يتبدل، ولا أفكار جديدة. ناهيك عن أن الإشكالية الحقيقية بدأت تتبلور وتأخذ توجها خطيرا، وتكاد تصبح المفصل الأساسي في أزمة روسيا مع الغرب عموما.

وهذه الإشكالية تتمحور حول “تمرد الإدارة الروسية الحالية” على شروط تواجدها ضمن المنظومة النيوليبرالية والسعي لتحسينها عبر مكونات معينة، على رأسها استخدام موارد الطاقة والمنتجات الغذائية والتهديد باستخدام الأسلحة النووية والتلاعب بالعامل الديني.

أما الأهم، فهو أن “الحرب” بكل منعطفاتها وتموجاتها ومساراتها، سواء بين روسيا وأوكرانيا، أو بين روسيا والغرب، لن تهدأ ولن تتوقف وتتجه للتطبيع بدرجات ما، إلا بعودة جميع الأراضي الأوكرانية بالكامل إلى كييف، أو في أسوأ الأحوال عودة المناطق الأربع، والاتفاق على إعادة تأجير سيفاستوبل لروسيا كما كان الأمر عليه حتى عام 2013، أو بالأحرى إعادة تأجير قاعدة سيفاستوبول الأوكرانية لأسطول البحر الأسود الروسي.

في كل الأحوال، ستنضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، أو إلى أي شكل يمكن أن ينشأ في حال حدثت تحولات للاتحاد الأوروبي. وستنضم أوكرانيا إلى حلف الناتو إن عاجلا أو آجلا حتى في حال ظهرت أشكال أخرى على أنقاض الناتو، أو تم استحداث هياكل أمنية- دفاعية جديدة بقيادة الغرب.

أي أن الغرب سيقف بهياكله ومؤسساته وتكتلاته على حدود روسيا المباشرة، سواء ظلت أوكرانيا موحدة الأراضي والسيادة أو تم تقسيمها. وبالتالي، فالحرب من الأساس بين روسيا والغرب، ورأت الحسابات الروسية غير الدقيقة أن أوكرانيا هي الخاصرة الضعيفة أو الحلقة الأضعف التي يمكنها أن تجر الغرب إلى مواجهة مباشرة تحقق لنخبة الكرملين ولو حتى جزءا من أهدافها القومية.

من هنا تحديدا، بدأت روسيا تلك الحرب مع أوكرانيا من أجل تحسين شروط موقعها على الخريطة النيوليبرالية ووسط الدول الكبرى، وليس إطلاقا من أجل التعددية القطبية المزعومة، أو من أجل الديمقراطية في العلاقات الدولية التي تلوكها إدارة الرئيس بوتين، وليس من أجل استعادة الإمبراطورية الروسية ضمن حدودها التاريخية، لأن بوتين نفسه يعرف أن كل ذلك مجرد أوهام وكلام فارغ، ولا من أجل سيادة الكرملين والكنيسة الأرثوذكسية السلافية الروسية وإقامة حضارة جديدة على أنقاض الإمبراطورية البيزنطية التي راحت واندثرت منذ مئات السنين.

أما بروباجندا الأخلاق والقيم الإنسانية والعادات والتقاليد التي تحاول روسيا تغطية تحركاتها العسكرية والاقتصادية بها، فهي مجرد فقاعة طفولية وحملة صبيانية مثيرة للسخرية، لأنها تعتمد على مفارقة مضحكة تلوكها البروباجندا الروسية بشكل ممجوج، واصفة الغرب بالإلحاد وبالكفر وبالتحلل الأخلاقي.

وهذا طبعا كلام مثير للسخرية وللتساؤلات في آن معا.. وموسكو تعرف أنه كلام فارغ وليس له أي مكان في ظل الحضارة الرقمية الجديدة وسقوط الكثير من الجدران والفواصل، وعلى خلفية التقدم العلمي- التقني الذي يتزامن مع تطوير الموسيقى والفنون والسينما والمسرح والفلسفة والبحث العلمي الأدبي والدراسات الثقافية في الغرب، ويوسِّع أيضا من دوائر الابتكار في المجالات الروحية والإنسانية.

الخوف كل الخوف أن تكون روسيا تقصد بالقيم والأخلاق والعادات والتقاليد، تسييد المبادئ الدينية الأرثوذكسية السلافية، وهو ما يحدث فعليا عبر تحركات الكنيسة الروسية سياسيا ودعواتها الغريبة بشأن الحرب في أوكرانيا و”الدفاع عن أراضي الإمبراطورية الروسية التاريخية”، وعبر تحركات وزارة الخارجية بشأن إقامة ممثليات وأبرشيات للكنيسة الروسية في الدول الأخرى.

ومن جهة ثانية، منافقة الإسلام والمسلمين على اعتبار أن العالم الإسلامي من مصلحته التحالف مع الأرثوذكسية السلافية في مواجهة الغرب الاستعماري الملحد الذي يطيح بالأخلاق الحميدة. أي اعتماد روسيا على الدين ومقوماته وتداعياته وامتداداته.

لكن كل ذلك يمثل سقطة تاريخية لروسيا ويضعها في مصاف الدول التي تتلاعب بالدين، وتسعى لتوظيفه ليس فقط في الأغراض السياسية، بل وأيضا في العمليات العسكرية والأمنية، وتصفية الحسابات. وهو ما يمكنه أن ينقلب على روسيا نفسها في وقت لاحق، سواء بسبب تركيبة روسيا العرقية والطائفية أو بسبب طبيعة الديانات وتناقضاتها الداخلية أثناء وبعد استخدامها في الحروب والصراعات.