لا صوت يعلو فوق صوت المصلحة.. فوحدها تتحكم في العلاقات الدولية خاصة في عالم سريع التحولات، لا مكان فيه للحديث عن المبادئ، أو المواقف الأخلاقية في السياسة، مهما حاول أي طرف من أطراف النزاعات الدولية ادعاء العكس. عالم تحولت فيه دماء البشر ومصائرهم إلى كروت ضغط في لعبة صراعات المصالح الدولية، والعروش ومعارك البقاء فوق كراسي الحكم، تلك هي الحقيقة المجردة التي رسخها بدمائه “جمال خاشقجي” الصحفي السعودي المعارض الذي قتل داخل قنصلية بلاده في اسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول عام 2018.
الآن تحولت دماء “خاشقجي” لسلعة تباع في مزاد دولي، تحت مظلة الدفاع عن الحقوق والحريات، لكن تظل الحقيقة التي يؤكدها يوما بعد آخر، الصحفي المغدور وهو في عالم آخر، حيث لا قبر يخلد أثره بعدما أذاب قاتلوه جثمانه، أن السياسيين لا يؤتمنون على مواقف حتى يموتون عليها.
اقرأ أيضا.. صحفي مقتول وناشطة مقيدة الحرية.. “بن سلمان” يدفع ثمن منشار “خاشقجي” وسيارة “الهذلول”
قرار أمريكي جديد بمنح ولي العهد السعودي محمد بن سلمان حصانة قانونية من الملاحقة القضائية في دعوى مرفوعة ضده في قضية مقتل الصحفي السعودي، بذريعة أن بن سلمان يتمتع بالحصانة بسبب دوره الجديد كرئيس للوزراء.، القرار يدفع بـ”خاشقجي” مجددا إلى صدارة المشهد الدولي بعد 4 سنوات من مقتله.
نهاية الأسبوع الماضي قالت وزارة العدل الأمريكية إن إدارة الرئيس جو بايدن خلصت إلى أن ولي العهد السعودي لديه حصانة قانونية من الملاحقة القضائية في دعوى مرفوعة ضده في قضية مقتل خاشقجي. وسيقرر القاضي في النهاية ما إذا كان سيمنح له الحصانة أم لا.
القرار الأمريكي الجديد وصفته خديجة جنكيز خطيبة “خاشقجي”، بـ”الموت الآخر” ، مغردة على “تويتر” بعد دقائق من نشر الخبر، إنه “جمال مات مرة أخرى اليوم”، مضيفة: “اعتقدنا أنه ربما يكون هناك نور للعدالة في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن مرة أخرى، جاء المال أولا.. هذا عالم لا يعرفه جمال ولا أعرفه”.
الموت الأول
انتقد “خاشقجي” سياسات محمد بن سلمان في مقالات كان يكتبها في صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، ما أوغر صدر ولي العهد الشاب ووجد فيها تهديدا لمحاولات فرض هيمنته على مقاليد حكم المملكة، وفي وقت حاول فيه إسكات أي صوت معارض لسياساته التي يروج لها كـ”مجدد”.
بعدها قُتل “خاشقجي” على يد عملاء سعوديين في القنصلية السعودية باسطنبول في عملية تعتقد المخابرات الأمريكية “CIA” أنها صدرت بأمر من ولي العهد الشاب والحاكم الفعلي للمملكة منذ عدة سنوات.
“بن سلمان” من ناحيته نفى بشكل قاطع إصدار أمر بقتل “خاشقجي”، لكنه اعترف في وقت لاحق أن ذلك حدث “تحت وصايتي”. لكن في المقابل ذكرت صحيفة “واشنطن بوست” التي كان يكتب لها “خاشقجي” في إبريل/نيسان 2019 أن أبناء الصحفي السعودي، تسلموا منازل بملايين الدولارات كتعويضات كما يتقاضون شهريا آلاف الدولارات من السلطات السعودية.
الصحيفة الأمريكية نقلت عن مسئولين سعوديين، وعن أشخاص مقربين من العائلة الحاكمة، أن دفعات مالية شهرية تصرف لكل واحد من أبناء خاشقجي الأربعة، تقدر بأكثر من عشرة آلاف دولار بخلاف منازل تقع في مجمع سكني واحد في جدة تقدر قيمة كل منها بـ4 ملايين دولار.
كما ذكرت مجلة “The Atlantic” الأمريكية التي أجرى معها “بن سلمان” حوارا مطولا في مارس/آذار الماضي، أنه أبلغ اثنين من المقربين منه أن “حادثة خاشقجي أسوأ شيء حدث معه على الإطلاق، لأنها كادت أن تُفسد كل خططه لإصلاح البلاد”.
وبدلا من أن ينهي مقتل “خاشقجي” الصداع الذي سببه لولي العهد عبر مقالاته، أغرق اغتياله السعودية في أزمة دبلوماسية، وأساء إلى سمعة “بن سلمان” وكاد أن ينهي فرصه في الاستمرار على عرش المملكة لولا المتغيرات العالمية التي جاءت رياحها بما تشتهي سفن الحاكم الفعلي لمملكة البترول.
الثاني.. أردوغان
أسدلت تركيا رسميا الستار على أزمتها مع السعودية بشأن مقتل الصحفي السعودي على أراضيها في السابع من إبريل/نيسان الماضي، بعدما قرر القضاء التركي، وقف المحاكمة في القضية وإحالة 26 سعوديا متورطين فيها إلى القضاء السعودي. القرار جاء عقب سجالات من جانب المسئولين في أنقرة بمحاسبة “رأس الهرم” عن تلك الجريمة.
القرار دفع مراقبين وقتها لوصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بـ”سمسار القضايا والمواقف الإنسانية”، مؤكدين أنه “قرر بيع قضية خاشقجي طمعا في المساعدات والاستثمارات السعودية، التي تنقذ نظامه قبل الانتخابات الرئاسية، رغم تمسكه وتعنته لسنوات في قضية محاكمة المتهمين بمقتل الصحفي السعودي تحت مسمّى “كشف الحقيقة وإحقاق العدالة”.
في أعقاب القرار التركي قالت خديجة جنكيز خطيبة خاشقجي في تصريحات لـ”سي إن إن” إنها ستستأنف في القضية”. كما أكدت أنها تشعر بالوحدة لكنها ستناضل من أجل تحقيق العدالة.
وقتها بدا واضحا أن “أردوغان” الذي قال في ديسمبر/كانون أول 2018 إن “تركيا لن تسلم الأدلة إلى السعودية لأنها يمكن أن تدمرها” كان فقط يريد زيادة الثمن في المزاد الذي نصبه للمملكة. خاصة بعد أن أكد: “أنهم يعتقدون أن العالم غبي.. هذه الأمة (تركيا) ليست غبية وتعرف كيف تحاسب المسئولين”.
أنظار “أردوغان” وحزبه الحاكم اتجهت إلى خزائن الرياض تحت وطأة انهيار الأوضاع الاقتصادية وارتفاع معدل التضخم في بلاده وتراجع قيمة الليرة لمستويات قياسية، وبدلا من أن ينفذ وعيده بمحاسبة المملكة، الذي تعهد به في يونيو/حزيران 2019 بقوله “إن السعودية ستدفع الثمن وسيتم محاسبة المسئولين عن الجريمة من أعلى الهرم إلى أسفله”، زار السعودية إبريل/نيسان الماضي وبحث مع “بن سلمان” سبل تطوير العلاقات بين البلدين، قبل أن يحرص على التقاط صور لهما وهما يتعانقان.
الموت الثالث.. بايدن
قبل أن تقرر إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن مؤخرا، أن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، يجب أن يُمنح الحصانة في قضية مقتل “خاشقجي”، قال بايدن في مسار حملته الرئاسية، مدفوعا بعملية القتل الوحشية التي نفذها فريق سعودي في 2018، إنه سيجعل السعودية دولة “منبوذة”.
كما انتقد بايدن سلفه، دونالد ترمب، لعلاقاته القوية مع رجال مثل محمد بن سلمان. متعهدا بإعادة القيم الديمقراطية إلى السياسة الخارجية للولايات المتحدة والسعي إلى إعادة ضبط العلاقات مع الرياض.
وجاء الغزو الروسي لأوكرانيا والعقوبات الدولية التي أعقبته على موسكو، ليدخل العالم بعدها في أزمة طاقة طاحنة، وتضخم عالمي غير مسبوق، ليتغير الوضع. لتتجه الأنظار في الولايات المتحدة إلى الرياض أكبر منتج للنفط في العالم وثاني أكبر احتياطي عالمي، للمساعدة في حل الأزمة.
يأتي هذا في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد الأمريكي من أزمة الطاقة العالمية والتضخم، ما أدى إلى انخفاض معدل التأييد لسياسة بايدن والحزب الديمقراطي إلى أقل من 40%، ليجد الرئيس الأمريكي نفسه مضطرا تحت ضغط انتخابات الكونجرس التي كان يخشى أن يتحول بعدها إلى “بطة عرجاء”، إلى التعامل مع “بن سلمان”، بعدما تجاهله منذ وصوله إلى البيت الأبيض، وقبل أن يجد نفسه مجبرا على زيارة المملكة في يوليو/تموز الماضي لاسترضاء حاكمها الفعلي الذي بات في موقف قوي خلقته الظروف المحيطة.
ويشار إلى أنه لم يكن مطلوبا من وزارة الخارجية الأمريكية اتخاذ قرار بشأن الحصانة الممنوحة لـ”بن سلمان”، لكنها دُعيت لذلك من قبل المحكمة. بينما قال متحدث رسمي إن طلبهم بمنح ولي العهد السعودي الحصانة يستند إلى القانون العام والدولي القديم، وليس انعكاسا للعلاقات أو الجهود الدبلوماسية الحالية.