كان التناقض أظهر ما يكون، وذلك في حديث أولئك الذين رأوا استهدافا متجددا لمصر في اهتمام ضيوفها الرسميين وغير الرسميين في مؤتمر المناخ الدولي بشرم الشيخ بإطلاق سراح الناشط السياسي علاء عبد الفتاح، فكيف يستقيم القول بنظرية استهداف مصر هذه في وقت يجتمع فيه كل هذا العدد من رؤساء الدول والحكومات والوزراء والخبراء والناشطين والصحفيين على أرضها، بمن فيهم ممثلو المنظمة الدولية، وقادة الدول التي تفترض تلك النظرية أنها تكيد لبلادنا وتشوهها وتضغط عليها؟!

إذ لو كان الاهتمام بمسألة علاء عبد الفتاح، وعموم قضية حقوق الإنسان عندنا ليس له تفسير سوى استهداف مصر، فما كان أسهل من اتفاق الدول الكبرى على رفض إقامة هذا الحدث الدولي المهيب والمهم على الأرض المصرية، وما كان أسهل أن تستجيب بقية الدول، وتتفق على مكان بديل، أو على الأقل فقد كان في الإمكان أن تخفض الدول التي تترصدنا تمثيلها في المؤتمر، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث.

وهو ما يعني أن علينا أن نفكر بطريقة أخرى في أسباب الاهتمام الذي بدا للبعض مبالغا فيه بوضع أو بمصير ذلك الشاب على وجه الخصوص، وبحالة حقوق الإنسان في مصر على وجه العموم، وكذلك في سائر أوجه علاقاتنا الدولية، وفي نظرية الاستهداف، أو عقيدة المؤامرة الدولية الأزلية الأبدية على مصر.

في ظاهرة المبالغة من وجهة نظر البعض في الاهتمام العالمي بعلاء عبد الفتاح يجب الانتباه إلى الصلات المتنوعة والواسعة لأسرته بالمجتمع الدولي منذ جيل الأجداد، وهي تمتد إلى الدوائر الأكاديمية والإعلامية والأدبية.

كما يجب الانتباه إلى المهارات الاتصالية الحداثية للجيل الأصغر في الأسرة، وبالطبع فإن إضراب سجينهم عن الطعام منذ وقت طويل، ثم امتناعه عن تناول الماء في الأسبوع السابق على موعد مؤتمر المناخ، واعتصام شقيقته أمام وزارة الخارجية البريطانية، جنبا إلى جنب مع حرمان الأسرة ومحاميها (في ذلك الوقت) من زيارة ابنهم المضرب عن الطعام والشراب في محبسه، أو حتى الاتصال به، مما أدى إلى توقيع 14 من حاملي جائزة نوبل في الأدب رسالة تطالب بالإفراج عنه…

كل ذلك دفع قضيته إلى بؤرة اهتمام الرأي العام العالمي، ووسائل الإعلام، وشبكات التواصل الاجتماعي، وهذه هي طبيعة الأمور.

ومع ذلك فمن ذا الذي يستطيع أن يؤكد أن أحاديث الغرف المغلقة اقتصرت على علاء دون غيره من السجناء والمحبوسين السياسيين في مصر؟! .. بالقطع لسنا من السذاجة إلى حد افتراض أن ذلك لم يحدث، بغض النظر عما ظهر أو سيظهر على السطح.

بالقطع أيضا يسهل القول -وهذا حق- أن مصر ليست الدولة الوحيدة في العالم التي جرى ويجري فيها انتهاك حقوق الإنسان، بما في ذلك الدول الكبرى (الديمقراطية نفسها)، فلماذا التركيز على مصر وحدها؟!

لكن أصحاب هذه الذريعة ينسون أن كل انتهاك واضح لهذه الحقوق في أي مكان في العالم يقابل بالرفض والتنديد، وأحيانا بالعقوبات.

وأمامنا الآن مثلا الحملة على قطر بمناسبة دورة كأس العالم لكرة القدم، بسبب انتهاك حقوق العمال الذين استخدموا في إقامة منشآت الدورة، وتجهيز المرافق العامة هناك من أجل استيعاب التدفقات البشرية من كافة أنحاء العالم،  وأمامنا أيضا حملات الإدانة والعقوبات علي إيران بسبب مقتل الفتاة مهسا أميني، وبسبب القمع الوحشي للمحتجين على مقتلها، ويفترض أننا لم ننس بعد ردود الفعل الدولية على جريمة قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، ولا الحملات المكثفة في الداخل الأمريكي، وفي أوروبا لإدانة جريمة قتل الشاب الأمريكي الأسود في ولاية مينسوتا، ومعاقبة الجناة بأقصى العقوبات الممكنة، وتوسع هذه الحملات إلى إدانة كل زعماء ومفكري العنصرية، وكذلك تجار العبيد عبر التاريخ، وتعمقها لدرجة تعديل قوانين الشرطة في أغلب الولايات الأمريكية.

مرة أخرى لسنا من السذاجة بحيث نستبعد كلية أن الدول الكبرى تسيس قضية حقوق الإنسان، بمعنى توظيفها أحيانا لخدمة مصالحها، ولا نحن غافلون عن المعايير المزدوجة لعموم دول الغرب بين إسرائيل وبين الفلسطينيين في مسألة حقوق الإنسان.

ومع ذلك فليس كل حديث أو ضغط من أجل حقوق الإنسان هو فقط ابتزاز سياسي من أجل مصالح أخرى، والمعايير المزدوجة للغرب بين الفليسطينيين وإسرائيل لم تمنع المنظمات غير الحكومية الكبرى والصغرى من إدانة الممارسات الإسرائيلية بأصرح العبارات، ولم تمنعها من الضغط على حكومات وبرلمانات الدول الكبرى للسعى لوقف الاضطهاد الصهيوني للشعب الفلسطيني، وقل مثل ذلك عن مراكز البحوث والجامعات والأحزاب التقدمية.

اتصالا بهذه النقطة فالحديث لا ينقطع عن حقوق الإنسان في الصين وروسيا، بل والهند الديمقراطية في مواجهة ممارسات التطرف القومي الهندوسي للحزب الحاكم هناك، ولا عن اضطهاد الحكم العسكري في ميانمار للأقلية المسلمة. إلخ.

إذن فهي مغالطة من جانب من يرون في الاهتمام الدولي بحقوق الإنسان عندنا، أو الضغط من أجل تحسين حالتها، استهدافا لمصر، أو امتدادا للمؤامرة المستمرة عليها، فقد كان من الممكن تصديق هذا التفسير لو أن حقوق الإنسان عندنا كانت بخير، و لكن كبار المسئولين عندنا لا يدعون ذلك، وإن كانوا يبررون الوضع بأسباب ليس هنا مجال مناقشتها، بل ويتعهدون علنا بالتحسن المطرد في هذا الملف، وذلك مثلا من خلال “الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان”، السابقة زمنيا في إصدارها على مؤتمر المناخ.

ثم أليست العلاقات الدولية بصفة عامة مؤلفة من التوازن حسب الظروف بين التفاهم والتعاون والضغط والابتزاز والتآمر، والحرب والتفاوض والسلام، والمبادئ والانتهازية، والشرعية وهدمها، وذلك في الماضي والحاضر والمستقبل، فلماذا نشكو مما يجب أن نفعله نحن أيضا مثل الجميع؟ فإذا لم نستطع فهذا عيبنا، وليس عيب الآخرين، أو هذا هو ضعفنا وقوة الآخرين.

أخيرا أين هي الدولة التي تحيا في معمل معقم، أو في بيئة خالية من الضغوط والابتزاز والتآمر؟

الولايات المتحدة نفسها بوصفها القوة العظمي الوحيدة (حتي إشعار آخر) تعرضت لابتزاز سعودي روسي في آخر اجتماع لدول أوبك وشركائها، برفض زيادة انتاج النفط، بل وبخفض الإنتاج.

مثل آخر، هل يعرف التاريخ الحديث دولا أخرى عاشت ونهضت تحت الحصار عشرات السنين مثل الصين وكوبا بل وإيران أيضا؟ حتى وإن اختلفنا مع نظمها السياسية.

ليتنا إذن نكف عن الاستسلام لتلك النظرية البائسة، على الأقل لأنها تضرنا بتوفير ذريعة جاهزة مسبقا لتبرير الخطأ، وأحيانا الفشل.