أربكت مصافحة الرئيسين المصري عبد الفتاح السيسي والتركي رجب طيب أردوغان على هامش افتتاح كأس العالم لكرة القدم في قطر، أول أمس، حسابات المراقبين والخبراء الذين توقع أكثرهم تفاؤلا ألا تراوح العلاقات المصرية التركية المنطقة الرمادية التي توقفت عندها منذ بدء المحادثات الاستكشافية بين البلدين العام الماضي، بينما ذهب المتشائمون منهم إلى أنها عادت مجددا إلى المربع صفر إثر تجدد التوتر بينهما في الملف الليبي.

وهو في طريق العودة من الدوحة إلى أنقرة أدلى أردوغان بتصريحات نقلتها صحيفة «خبر ترك» وصف فيها مصافحته لنظيره المصري بأنها «خطوة أولى نحو مزيد من التطبيع في العلاقات بين البلدين»، لافتا إلى أن هناك تحركات أخرى ستليها.

وبينما أكد أردوغان على أن طلب أنقرة الوحيد من مصر هو «تغيير أسلوبها تجاه وضع تركيا في البحر المتوسط»، أصدرت الرئاسة المصرية بيانا أكدت فيه على عمق الروابط التاريخية التي تربط البلدين والشعبين المصري والتركي، مشيرة إلى أنه تم التوافق على أن تكون تلك بداية لتطوير العلاقات الثنائية بين الجانبين.

وفيما أعده البعض تمهيدا للقائه السيسي بالدوحة وهو اللقاء الأول من نوعه منذ الإطاحة بحكم الإخوان عام 2013، أدلى أردوغان على هامش حضوره قمة العشرين بجزيرة بالي الإندونيسية الأسبوع الماضي بتصريحات رحب فيها بإعادة تقييم وضع العلاقات مع مصر «يمكننا إعادة النظر مجددا في علاقاتنا مع الدول التي لدينا معها مشاكل، ويمكننا حتى أن نبدأ من الصفر، وذلك بعد انتخابات يونيو الرئاسية».

وفي رده على سؤال للصحفيين حول علاقات بلاده مع مصر وسوريا قال الرئيس التركي: «ليس هناك خلاف واستياء أبدي في السياسة، ويمكن تقييم الوضع عندما يحين الوقت وتجديده وفقا لذلك».

محاولة أردوغان تلطيف الأجواء مع السلطة المصرية لم تتوقف عند حد التصريحات، فحكومته اتخذت عددا من الإجراءات قبل 11 نوفمبر الماضي، لوقف عمليات التحريض التي تمارسها كوادر جماعة الإخوان من بلاده ضد السلطة المصرية، حيث أوقفت الشرطة التركية العشرات من منتسبي الجماعة وحلفائها، وطلبت من البعض الآخر مغادرة أراضيها واشترطت على الذين حصلوا على الجنسية وقف عمليات الشحن والإساءة ضد القيادة المصرية، وهو ما اعتبرته القاهرة بادرة حسن نية.

واعتبرت دوائر دبلوماسية أن تسُلم القائم بأعمال السفارة التركية في القاهرة صالح موتلو شأن مهمات عمله في يونيو الماضي، بادرة حسن نية على جدية البلدين في جبر الخلافات، وعزز من ذلك مشاركة وفد مصري أمني رفيع المستوى في لقاء دولي استضافته تركيا حول الأزمة الليبية في الـ 21 من يوليو الماضي.

الموقف التركي الأخير من جماعة الإخوان، والذي سبقه قرارات أخرى بخفض حدة انتقاد فضائيات المعارضة الإخوانية التي تبث من إسطنبول للنظام المصري، ووقف بعض الإعلاميين بها، والتي جرى تنفيذها قبل الجولة الثانية من المحادثات الاستكشافية في سبتمبر من العام الماضي، إلى جانب رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي، لم تكن كافية لإقناع القاهرة بتطبيع العلاقات مع أنقرة، فالعقبة الليبية حالت دون تجسير الفجوة بين البلدين.

تصريحات سامح شكري وزير الخارجية المصري التي أعلن فيها الشهر الماضي توقف الجلسات الاستكشافية بين القاهرة وأنقرة كشفت عن حجم الأزمة بين البلدين، فعندما سُئل شكري عن عدم استئناف مسار المحادثات بين بلاده وتركيا قال: «لم تطرأ تغيرات في إطار الممارسات من قبل أنقرة»، مشيرا إلى غضب مصر من الوجود العسكري التركي في ليبيا، «من الأمور التي تثير القلق هو عدم خروج القوات الأجنبية من ليبيا حتى الآن».

وقبل أن يبرر شكري عدم استئناف مسار المحادثات مع الأتراك، كان نظيره التركي مولود جاويش أوغلو قد عبر عن أسفه من سير تطبيع العلاقات بين بلاده ومصر ببطء، «لسنا المسؤولين عن هذا البطء.. وإذا كانت مصر صادقة في تطبيع علاقاتها معنا فعليها اتخاذ خطوات ملموسة». معتبرا أن «التعاون بين البلدين ستكون له انعكاسات إيجابية على المنطقة».

التصريحات المتبادلة لوزيري خارجية البلدين والتي عكست حجم الغضب المكتوم، تزامنت مع توقيع أنقرة مطلع أكتوبر الماضي مجموعة من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم مع حكومة الوحدة الليبية المنتهية ولايتها برئاسة عبد الحميد الدبيبة، بشأن التنقيب عن النفط والغاز في البحر المتوسط، فضلا عن المشاركة في عدد من مشروعات البنية التحتية، واتخاذ الجانبين التركي والليبي خطوات لتعزيز التعاون في مجالات الطاقة والدفاع والتجارة والاتصالات خلال زيارة وفد تركي ضم وزراء الخارجية جاويش أوغلو، والطاقة فاتح دونماز، والدفاع خلوصي أكار، والتجارة محمد موش، وهو من أثار غضب الجانب المصري الذي دعا بدوره حلفاءه في ليبيا لزيارة القاهرة، لبحث المسألة.

ما عقد الأمور أكثر، زيارة الدبيبة إلى أنقرة نهاية الشهر الماضي وتوقيعه اتفاقيتين عسكريتين مع وزير الدفاع التركي، خلوصي آكار، بعد نحو ثلاثة أسابيع فقط من مذكرات التفاهم التي وقعتها تركيا مع حكومة الوحدة، والتي بموجبها ستقوم الشركات التركية بالتنقيب عن النفط والغاز الليبيين.

وبحسب مصادر ليبية فإن مصر اتجهت مجددا إلى إعادة تنشيط العلاقات مع اللواء خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي، حيث استقبل الأخير في مدينة بني غازي قيادة أمنية مصرية رفيعة لبحث الرد على اتفاقات الدبيبة مع أنقرة.

واستقبلت القاهرة بعدها عدد من القيادات الليبية على رأسهم رئيس مجلس النواب عقيلة صالح الذي أكد أن أي «اتفاقية أو معاهدة أو مذكرة تفاهم يتم إبرامها من قبل رئيس حكومة الوحدة الوطنية مرفوضة وغير قانونية»، نظرا لانتهاء ولايتها قانونا وانعدام أي إجراء تتخذه منذ 24 ديسمبر الماضي.

بدوره أصدر فتحي باشاغا رئيس الحكومة التي نالت ثقة البرلمان الليبي بيانا يفيد برفض الاتفاقية، مؤكدا على أن حكومته «ستبدأ التشاور المباشر مع الشركاء الوطنيين والإقليميين والدوليين، للرد بشكل مناسب على هذه التجاوزات»، التي وصفتها بأنها «تهدد مصلحة الأمن والسلم في ليبيا والمنطقة».

ويظل التدخل التركي في ليبيا هو العقبة الكؤود أمام تطبيع أو حتى «تلطيف» العلاقات بين القاهرة وأنقرة، بحسب ما أشار مصدر قريب من دوائر صناعة القرار، لافتا إلى أن السلطة المصرية اشترطت على تركيا «خروج كامل للقوات التركية وعدم دعم حكومة طرابلس أو التدخل في الشأن الليبي»، حتى تعود العلاقات للمستوى المطلوب، في المقابل تطالب أنقرة بـ«تعاون مصري كامل معها في ملف غاز المتوسط» وهو أمر صعب للغاية لأنه يضع مصر في مواجهة مع اليونان وقبرص، بحسب المصدر.

مع ذلك يتوقع المصدر أن تكون هناك انفراجة قريبة في العلاقات، مشيرا إلى أن الجانب القطري بذل ولا يزال يبذل مجهودا في إطار حلحلة الخلافات بين الجانبين، «اللقاء الذي جمع الرئيسين السيسي وأردوغان على هامش افتتاح كأس العالم لكرة القدم بالدوحة أول أمس وتبادل فيه الرئيسان محادثة مقتضبة في حضور عدد من المسئولين العرب والأجانب، دليل على أن المجهودات القطرية قد تؤتي ثمارها، وأن البلدين يتجهان إلى كسر الجمود».

ورجح المصدر أن تستأنف خلال الأيام القليلة المقبلة المحادثات الاستكشافية بين البلدين، وأن تجري ترتيبات للقاءات رفيعة المستوى بين مسؤولين أتراك ومصريين، «ليس من المستبعد أن تكون المحادثات القادمة برعاية قطرية»، لافتا إلى أن الدوحة تدفع بشدة في اتجاه عودة العلاقات بين مصر وتركيا.

ويرى مصدر آخر أن طرفي الأزمة قنعا بأن لا أحد منهما سيتمكن من تحقيق أجندته بالكامل فيما يخص الملف الليبي، لافتا إلى أن كل المحاولات التي أقدم عليها كل طرف لفرض نفوذه على ليبيا بالكامل فشلت، «حان وقت تقديم التنازلات، وسيعيد كل طرف ترتيب أجندة مطالبه، ومن الوارد أن يكون هناك تعاون واتفاقيات مشتركة تضمن مصالح البلدين، وتحقق للشعب الليبي الاستقرار المفقود».

ورغم تراجع النبرة التشاؤمية التي غلبت على تصريحات مسئولي البلدين بعد مصافحة المونديال، إلا أن تجاوز العقبة الليبية سيظل محل شك، فالقضية لا تتعلق فقط بالتواجد العسكري التركي في ليبيا ودعم أنقرة لمجموعات مسلحة تعتبرها مصر «تنظيمات إرهابية» أو بمحاولة الأتراك بسط نفوذهم السياسي والتمدد في حدود دولة تمثل عمقا استراتيجيا لمصر، بل يتعلق أيضا بتقاطع المصالح الاقتصادية وبعمليات إعادة الأعمار التي راهنت مصر على المشاركة فيها، وبوجود أطراف أخرى دولية وإقليمية ومحلية يجب الوصول إلى صيغة تفاهم معها.