الدولة الحديثة في مصر تبدأ باستقلال علي بك الكبير بمصر والشام والحجاز عن السلطنة العثمانية، ثم تأكدت بغزو ثم حكم نابليون وخلفائه من جنرالات الجيش الفرنسي، ثم استقرت بحكم محمد علي باشا وسلالته تحت رعاية الفرنسيين في نصف حكمهم الأول أي حتى بداية عهد الخديوي توفيق، ثم تحت وصاية الإنجليز في النصف الثاني أي حتى خلع الملك فاروق، ثم تداول عليها حكام من ضباط الجيش ورثوا -في مزاولتهم للسلطة- تقاليد المماليك وتراث العثمانيين وتركة محمد علي باشا وسلالته مع تسلطية المستعمرين من فرنسيين وأوروبيين.
والدولة الحديثة ليست غير وعاء جامع لخليط من تراث الهيمنة يزاوله فرد مطلق أو مجموعة أفراد يضعون أيديهم على آلة البيروقراطية المصرية العتيدة، ومن خلالها يضمنون المتناقضين الكبيرين: مصالح الذين يحكمون، ثم صمت المحكومين.
هذه الدولة الحديثة يختلف اسمها وشكلها، وتختلف جذور الحكام وأصولهم، وتختلف مسمياتهم وألقابهم باختلاف المراحل والعهود، لكن يظل جوهر هذه الدولة الحديثة ومضمونها واحد: خدمة مصالح ومطامح ومطامع الحكام والذين معهم باستغلال وقهر وتضليل المحكومين، هكذا بدأت، وهكذا استمرت، وهكذا هي اليوم، والغد لا يعلمه إلا علام الغيوب.
نابليون بونابرت 1769 – 1821 يختلف عن كل حكام مصر الحديثة من أجانب ومصريين، فهو قادم من قلب الحداثة الأوروبية، وهو في حكمه لمصر ينقل الحداثة معه ولا ينقل عنها، يجلبها ولا يستجلبها، يصدرها ولا يستوردها، ثم هو أكثر من حكموها ثقافةً وفكرا وأوسعهم اطلاعا وأعمقهم حكمةً، فهو خلاصة قرنين من التنوير الفرنسي، جمع في ذاته تناقضات القديم والحديث فهو فاتح وغاز، لا يتورع عن ارتكاب أحط الموبقات والجرائم (وقع بخط يده على قرار بإعدام ألفي أسير بعد أن نجح في حصار يافا ثم الاستيلاء عليها أول مارس 1799) وفي أول بيان أصدره للمصريين أنذر بحرق أي قرية تتمرد على الغزاة وبالفعل لم يتورع عن حرق القرى على من فيها من ساكنيها، ثم مع هذا الإجرام الموروث عن الغزاة الفاتحين الذين كان يعتبر نفسه واحدا من كبارهم مثل الاسكندر 356 – 323 قبل الميلاد ويوليوس قيصر 100 – 44 قبل الميلاد، كان -مع ذلك- حاكما مدنيا ورجل دولة مثقف، فهو قارئ نهم وكاتب متمكن على الطراز الأوروبي المعاصر، وهو -بكل عبقريته وعظمته التي يمتاز بها عن كل حكام مصر الحديثة من علي بك الكبير 1728 – 1773 إلى ساعة كتابة هذه السطور، إلا أنه لم يكن كبيرا على الهزيمة، هزمته المكيدة البريطانية وأفشلت مشروعه في مصر، كما تركت محمد علي باشا 1769 – 1849 يفني عمره في بناء إمبراطورية ثم نزعتها منه وجردته منها وحاصرته في وادي النيل لا يتخطاه وفككت ما بناه وهو على قيد الحياة ثم وضعت يدها على وادي النيل 1882 – 1884 بقوة السلاح.
هذا التعقب البريطاني لكل من نابليون ومحمد علي باشا من بعده ترك ومازال أكبر الأثر في تشكيل مصر الحديثة، حداثة استعمارية زاولت حكم مصر تحت ستار من ذرية محمد علي باشا ثلاثة أرباع قرن، كما زاولت الحداثة الفرنسية تأثيرها ثلاثة أرباع قرن سابقة عليها، وإذا أضفنا الحضور الروسي في دعم حداثة علي بك الكبير من باب النكاية في السلطنة العثمانية يتبين لنا ضخامة وعمق المحتوى والحشوة والمضمون الاستعماري للدولة المصرية الحديثة.
***
الدولة الحديثة ماء واحد في وعاء واحد في لحظة زمنية تمتد من منتصف القرن الثامن عشر حتى اليوم، من إعلان استقلال علي بك الكبير 1768 حتى إعلان الجمهورية الجديدة بعد 30 يونيو 2013، هزيمة المماليك الأقدمين على يد نابليون بونابرت 23 يوليو 1798 تشبه تماما هزيمة المماليك الجدد في 5 يونيو 1967.
في ص 708 من كتاب “الانفجار 1967: حرب الثلاثين سنة” الصادر عن مركز الأهرام للترجمة والنشر الطبعة الأولى 1990، وتحت عنوان “5 يونيو” يقول الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل 1923 – 2016: “ما بين الساعة الثامنة وحتى الساعة الحادية عشرة والنصف من صباح يوم الاثنين 5 يونيو 1967، كانت معركة الستينات ضمن الصراع الهائل في الشرق الأوسط وعليه، قد بدأت وانتهت بهزيمة مؤلمة لمصر وللأمة العربية كلها”. ثم يقول في ص 710: “إن معركة الستينات -1967- تبقى أخطر معارك الحرب في الشرق الأوسط وعليه، كما أنها أكثرها إثارةً وأشد ضراوةً وأبعدها تأثيرا وأحفلها بالمفاجآت. وبالتأكيد فلقد كانت المفاجأة الكبرى والحاسمة فيها هي قصر المدة التي استغرقتها المعركة، والتي لم تزد في الواقع عن ثلاث ساعات ونصف الساعة، من الثامنة إلى الحادية عشرة والنصف من صباح يوم الاثنين 5 يونيو 1967”.
وقريبا من شهادة هيكل على هزيمة المماليك الجدد -ناصر وعامر- على يد الإسرائيليين تأتي شهادة الشيخ عبد الرحمن الجبرتي 1753 – 1825 عن هزيمة المماليك الأقدمين -ابراهيم بك ومراد بك- على يد الفرنسيين، فإذا كان هيكل يتحدث عن ثلاث سعات ونصف، فإن الجبرتي يتحدث عن ساعة فقط. ففي ص 7 من الجزء الثالث من تاريخه العظيم “عجائب الآثار في التراجم والأخبار” -وهو عندي طبعة قديمة، الناشر هو مطبعة الأنوار المحمدية بالقاهرة وليس لها تاريخ نشر- وتحت عنوان “ذكر محاربة الفرنسيس مع المصريين وما وقع، يقول: “وفي يوم الأحد غرة شهر صفر، وردت الأخبار بأن في يوم الجمعة التاسع والعشرين من شهر المحرم، التقى العسكر المصري مع الفرنسيس، فلم تكن إلا ساعة، وانهزم مراد بيك ومن معه، ولم يقع قتال صحيح، وإنما هي مناوشة من طلائع العسكرين، بحيث لم يُقتل إلا القليل من الفريقين، واحترقت مراكب مراد بيك بما فيها من الجبخانة والآلات الحربية، واحترق بها رئيس الطوبجية خليل الكردلي، وكان قد قاتل في البحر قتالا عجيبا، فقدر الله أن علقت نار بالقلع، وسقط منها نار إلى البارود، فاشتعلت جميعها بالنار، واحترقت المركب بما فيه من المحاربين وكبيرهم، وتطايروا في الهواء، فلما عاين ذلك مراد بيك داخله الرعب، وولى منهزما، وترك الأثقال والمدافع، وتبعته عساكره، ونزلت المشاة في المراكب، ورجعوا طالبين مصر -يقصد راجعين من شبراخيت حيث دارت الحرب إلى القاهرة- ووصلت الأخبار بذلك إلى مصر فاشتد انزعاج الناس”.
وإذا كانت حرب 5 يونيو انحسمت في ثلاث ساعات ونصف وحرب شبراخيت انحسمت في ساعة فقط فإن الجبرتي يقول إن حرب إمبابة 21 يوليو 1798 انحسمت فقط في ثلاثة أرباع ساعة حيث انفسح الطريق أمام نابليون بونابرت ليدخل القاهرة في 23 يوليو وليضع أساس حكم فرنسي لمصر بلغ سبعا وثلاثين شهرا حتى أجلاهم الإنجليز والأتراك عن مصر في آخر أغسطس 1801. عسكرت قوات المماليك غرب النيل بقيادة مراد بيك وشرق النيل بقيادة إبراهيم بيك، ويصف الجبرتي الحرب في البر الغربي فيقول: “الطابور -يقصد قوة من الجيش الفرنسي- الذي تقدم لقتال مراد بيك، انقسم على كيفية معلومة عندهم في الحرب، وتقارب من المتاريس، بحيث صار محيطا بالعسكر -يقصد المماليك- من خلفه وأمامه، ودق طبوله، وأرسل بنادقه المتتالية والمدافع، واشتد هبوب الريح، وانعقد الغبار، فأظلمت الدنيا من غبار البارود وغبار الرياح، وصُمت الأسماع من توالي الضرب، بحيث خيل للناس أن الأرض تزلزلت، وأن السماء عليها سقطت، واستمر الحرب والقتال نحو ثلاثة أرباع ساعة، ثم كانت هذه الهزيمة على العسكر الغربي، فغرق الكثير من الخيالة في البحر -يقصد النيل- لإحاطة العدو بهم وظلام الدنيا، والبعض وقع أسيرا في أيدي الفرنسيس، وملكوا المتاريس، وفر مراد بيك ومن معه إلى الجيزة”. ثم يقول قوات المعسكر الشرقي بقيادة إبراهيم بيك: “ولما انهزم المعسكر الغربي، حول الفرنسيس المدافع والبنادق على البر الشرفي، وضربوها، وتحقق أهل البر الآخر الهزيمة، فقامت فيهم ضجة عظيمة، وركب في الحال إبراهيم بيك والباشا والأمراء والعسكر والرعايا وتركوا جميع الأثقال والخيام كما هي لم يأخذوا منها شيئا”. انتهى الاقتباس من هيكل والجبرتي عن هزائم المماليك الجدد والمماليك الأقدمين في الدولة المصرية الحديثة.
***
لو أردنا نقطة بداية منصفة للحداثة المصرية لكانت هي الجبرتي وتاريخه، هو الأحق بذلك، لا علي بك الكبير، ولا نابليون، ولا محمد علي باشا، ونقطة الحداثة في تأريخ الجبرتي هو نزاهته الفكرية واستقلاله العلمي وترفعه عن تقاليد التزلف بعلمه للحكام طمعا في عطاء أو عشما في قربى، ويكفيه ما قاله في تقديمه للكتاب: “ولم أقصد بجمعه خدمة ذي جاه كبير، أو طاعة وزير، أو أمير، ولم أداهن فيه دولة بنفاق أو مدح أو ذم مباين للأخلاق، لميل نفساني، أو غرض جسماني، وأنا أستغفر الله من وصفي طريقا لم أسلكه وتجارتي برأس مال لم أملكه”. ص 10 من الجزء الأول.
في مطلع الجزء الرابع يتنبأ -على عكس ما كان يظن كثيرون- أن حكم محمد علي باشا سوف يستمر ولن يسقط بالسهولة التي سقط بها من سبقوه من ولاة عثمانيين بعد جلاء الفرنسيين.. خسرو باشا لم يحكم غير ستة أشهر ثم هرب، طاهر باشا وانقطعت رأسه، أحمد باشا والي المدينة المنورة السابق لم يحكم غير يوم وليلة وتم طرده، خورشيد باشا تم عزله، حتى إذا جاء محمد علي باشا تكررت محاولات عزله لكنه صمد في وجه العواصف من الداخل والخارج قريبا من نصف قرن وورثها ضيعة عائلية يتوارثها أبناؤه وأحفاده قرنا آخر، الجبرتي لم يكن على وفاق ولا قرب من محمد علي باشا ورغم ذلك تنبأ له باستقرار حكمه، فقال في تأريخه لسنة 1221 هجرية – وهي تقع بين 1806 و1807 يعني في أوائل عهد محمد علي باشا واسمه في الحكم مكتوب بالرصاص وملزوق باللعاب ومن السهل أن يطير كما طار من سبقوه – قال بعد أن قرأ حركة الأفلاك: “وهو دليل على ثبات دولة القائم، وتعب الرعية، والحكم لله العلي الكبير”.
فلم يثبت حكم في مصر الحديثة مثلما ثبت حكم محمد علي باشا وما تعس المصريون مثلما تعسوا في عهده، وقد تكررت مثل هذه الظنون في عهد الجمهورية الجديدة ومؤسسها الرئيس عبدالفتاح السيسي، فقد تمنى المتضررون من ديكاتوريتها أن تسقط بسهولة كما سقط حكم الإخوان في 30 يونيو 2013، أو كما سقط حكم مبارك في 25 يناير 2011، وتكررت المحاولات ولكنها صمدت قريبا من عشر سنوات ومازال الطريق أمامها فسيحا، ذلك رغم أنها لم يسلم من أذاها قريب ولا بعيد ولا مؤيد ولا معارض ولا بشر ولا شجر ولا حجر، فهي تصدق عليها مقولة الجبرتي: “ثبات دولة القائم، وتعب الرعية، والحكم لله العلي الكبير”. فحظ السيسي قريب من حظ محمد علي باشا في ثبات حكمه -رغم تعاسة الشعب- فهو كلما دخل في مأزق خرج منه أقوى وخرج خصومه أضعف.
يختلف نابليون بونابرت عن غيره من العسكريين الذين حكموا مصر، سواء من مماليك القرن الثامن عشر، أو محمد علي باشا وذريته، أو ضباط الجيش من 23 يوليو 1952، يختلف في أنه كتب بنفسه في مجلد ضخم تفاصيل تجربته الشخصية في مصر، سواء عسكرية أو سياسية، ويظل هو -وعدد كبير من جنرالاته – أفضل نخبة متعلمة غزت واحتلت وحكمت مصر وفوق ذلك كله كتبت موسوعة “وصف مصر” التي تعربت في سبعة وثلاثين مجلدا، لتكون المعادل الاستعماري للمنجز الوطني الذي كتبه عبدالرحمن الجبرتي، صحيح أن محمد علي باشا كان يعتبر نفسه امتدادا لبونابرت ولا يمل من تذكير من حوله أنهما من مواليد عام واحد، مثلما كان لا يمل من تذكيرهم بأنه من بلد الإسكندر (مقدونيا) لكن يظل الباشا تركيا عثمانيا لم يبدأ جيشه الحديث على النمط الفرنسي إلا بعد وفاة نابليون بكوادر بعضها من جيش نابليون، لكنهما يتفقان في أن بونابرت حكم المصريين بالمدافع، بينما حكمهم الباشا بالكرابيج، لكن مدافع بونابرت لم تفلح في فتح الشام مثلما كرابيج الباشا فتحت عليه هناك أبواب الجحيم وتبين له أن كرابيجه التي أعنتت ظهور المصريين لا مكان لها فوق ظهور الشوام.
***
رغم القبضة الحديدية في الجمهورية الجديدة -دولة ما بعد 30 يونيو 2013- إلا أن المصريين غضبوا ثم رفضوا ثم احتجوا ثم وقفوا على حافة الثورة مرتين، مرة بسبب التعسف في جمع الضرائب العقارية، ثم مرة ثانية حين التهديد بإنزال القوات المسلحة إلى القرى والأحياء لهدم البيوت التي ترى الحكومة أنها مبنية بالمخالفة للقانون، في المرتين تيقنت السلطة أن ثورة الناس توشك أن تندلع، فتراجعت في المرتين، فأجلت الضرائب العقارية إلى حين، وأوقفت هدم البيوت وذهبت تتصالح مع المخالفين في مقابل معلوم أقرب إلى رشوة قهرية مقننة يدفعها الناس مُرغمين للحكومة حتى يحموا مساكنهم من أن تهدمها القوات بأمر الحاكم بمعدات تم تخصيصها لهذا الغرض.
شيء من ذلك، يكاد يكون هو ذاته، سبق وحدث في عهد أول جنرال حديث يحكم مصر، حدث تحت حكم نابليون بونابرت، فقد أفرط في الضرائب، ثم تعسف في الضريبة العقارية، ثم قام سلاح المهندسين في الجيش الفرنسي بهدم بيوت وأحياء كاملة في أطار خطط نابليون لإعادة هندسة القاهرة بما يستدعيه ذلك من عمران جديد لأغراض مدنية وعسكرية دون مراعاة حياة ساكنيها وأمانهم واستقرارهم، فكانت ثورة القاهرة الأولى، وهي ثورة بالمعنى الحديث، ثورة طبقة وسطى ورأسمالية ناشئة وبورجوازية وليدة، ثورة بالمعنى السياسي، رد عليها بونابرت بالحل العسكري، فقد أغضبه أن الثوار استهدفوا مقر سلاح المهندسين الفرنسيين، السلاح الذي تولى هدم البيوت والطرق والأحياء وأبواب الحارات والذي صادر الأملاك والذي هجر الناس، أغضب نابليون زحف الثوار على مقر سلاح الهندسة العسكرية في الجيش الفرنسي وكان مقرها في الدرب الأحمر حيث يسكن قائدها الجنرال كافاريللي، ونهبوها بما فيها من معدات وأدوات هندسية، وقتلوا قومندان القاهرة الجنرال ديبوي، هنا أمر بونابرت بنصب المدافع فوق المقطم والقلعة لتدك الأزهر حيث كان حصن الثورة.
نستطيع أن تؤرخ لهذه الثورة 21 أكتوبر 1798 بأنها لحظة حداثة ثورية نورانية عظمى رغم أنها لم تستمر أكثر من 48 ساعة، ولم يكن من الوارد أن تستمر أكثر من ذلك، فحجم النار الذي أطلقته المدافع الفرنسية يوضح أن هذه الثورة لو استمرت عدة أيام بالقوة المباغتة التي اندلعت بها لكانت وصلت إلى رقبة نابليون ذاته، ولكان هو والنخبة العليا من جنرالاته تم اصطيادهم رأسا وراء رأس في بلد غريب بين شعب يعطيك ظاهره انطباعات غير ما يجول في باطنه، لهذا لم يكن أمام بونابرت غير أعلى درجات الإجرام ما أمكنه ذلك.
نقطة الالتقاء بين حكم الجنرال الأول بونابرت بعد بدء حكمه لمصر 23 يوليو 1798 ثم حكم الضباط من الجيش المصري بعد 23 يوليو 1952 هي دعوة الشعب إلى الإخلاد للهدوء والسكينة، لا قدرة ولا طاقة لحاكم عسكري على التعايش مع شعب يعبر عن رفض أو احتجاج أو حتى مجرد تفاعل إيجابي فيه أخذ ورد من اتجاهين، الجنرال بونابرت وخلفاؤه بعد 23 يوليو 1798 مثل اللواء نجيب وخلفاؤه بعد 23 يوليو 1952 فقط يستطيعون الحكم والشعب مقيد مكمم، مثلما دعا اللواء محمد نجيب الشعب المصري في أول بيان بالإخلاد إلى الهدوء والالتزام بالسكينة فلم يكن ذلك غير استنساخ لخبرة بونابرت وجنرالاته في هذا الأمر. الاستعمار الأجنبي مثله مثل الاستبداد المحلي لا يطيق الشعب إلا مستسلما.
كان نابليون يظن أنه أسدى للمصريين معروفا بإسقاط حكم المماليك، شيء قريب جدا من الظن بأن إسقاط حكم مبارك 2011 أو إسقاط حكم الإخوان 2013 يمثل معروفا يبرر لصاحبه التصرف كما يشاء دون رد فعل غاضب من الشعب، يقول المؤرخ العظيم عبدالرحمن الرافعي في ص 260 من الجزء الأول من كتابه “تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر”: “لم يكن مألوفا ولا مُنتظرا أن تثور القاهرة، تلك المدينة الهادئة الوديعة التي احتملت ظلم حكامها السنين الطوال، ولم يكن الفرنسيون يتوقعون أن تثور في وجههم وهم الذين فتحوا العواصم ودوخوا الممالك في القارة الأوروبية، لكن ثورة القاهرة جاءت عنوانا لنفسية جديدة في الشعب المصري، ولا غرو فإن الحملة الفرنسية قد استفزت في نفوس الشعب روح المقاومة الأهلية، وكانت القاهرة مسرحا لتلك المقاومة كما كانت مصدرا لسريان الهياج والثورة إلى أنحاء البلاد”.
مثلما رفعت الجمهورية الجديدة -دولة مابعد 30 يونيو 2013- شعار استرداد أملاك الدولة، فمن لم يسلم الأرض تهدم له بيته، ثم إزاء الغضب الشعبي قررت تتصالح وتترك للناس الأرض والبيت المقام عليها في مقابل مقدار مالي معلوم، فإن السلطات الفرنسية الحاكمة كانت تطلب من الناس ما يملكونه من سلاح وخيول وجمال وثيران وأبقار أو تتصالح معهم على بقائها في أيديهم في مقابل دفع مبالغ من المال، كما كانوا يفرضون على التجار وأصحاب الحرف مبالغ مالية على سبيل القروض الإجبارية وحددوا على كل منهم مبلغا يلزم سداده خلال ستين يوما، فضج الناس واستغاثوا وذهبوا إلى الجامع الأزهر والمشهد الحسيني وتشفعوا بالمشايخ -أي طلبوا وساطتهم عند نابليون- لتخفيض المبالغ المطلوبة ولتمديد مهلة السداد”.
تظل بين كل تواريخ ومحطات الزمن في مصر المعاصرة الحملة الفرنسية هي الأخطر، ليس فقط بما فعلت، لكن بما أغلقت من تاريخ قديم وما فتحت من تاريخ جديد وما أثارت من تحديات لاتزال مطروحة -بكل قوة- حتى اليوم والغد، وصف الجبرتي في ص 267 من الجزء الثالث من عجائب الآثار قال: “ارتحل الفرنساوية، وأخلوا القصر العيني، والروضة، والجيزة، فكانت مدة الفرنساوية وتحكمهم بالديار المصرية ثلاث سنوات وإحدى وعشرين يوما، فإنهم ملكوا بر إنبابة والجيزة وكسروا الأمراء المصرية -يقصد المماليك- يوم السبت تاسع عشر من صفر سنة ثلاثة عشرة ومائتين وألف (يقصد معركة إمبابة 21 يوليو 1798) ثم كان انتقالهم ونزولهم من القلاع وخلو المدينة منهم -يقصد انسحابهم ثم جلاءهم- وانخلاعهم عن التصرف والتحكم (يقصد نهاية حكمهم لمصر) ليلة الجمعة الحادي والعشرين من شهر صفر سنة ستة عشرة ومائتين وألف (31 أغسطس 1801) فسبحان من لايزول ملكه ولا يتحول سلطانه”.
هذا وصف الجبرتي لنهايتهم، وهو وصف عادي باهت بهتان الحدث ذاته، لكن وصفه لبداية حكمهم لمصر هو الأخطر خطورة الحدث ذاته، هنا نجد عبارات الجبرتي من القوة والعنفوان ما يوازي قوة الحدث وعنفوانه المستمرة حتى اليوم والغد، يقول الجبرتي في مطلع الجزء الثالث من عجائب الآثار وهو يؤرخ لسنة دخول الفرنسيين مصر: “وهي أول سني الملاحم العظيمة، والحوادث الجسيمة، والوقائع النازلة، والنوازل الهائلة، وتضاعف الشرور، وترادف الأمور، وتوالي المحن، واختلال الزمن، وانعكاس المطبوع، وانقلاب الموضوع، وتتابع الأهوال، واختلاف الأحوال، وفساد التدبير، وحصول التدمير، وعموم الخراب، وتواتر الأسباب، وما كان ربك مُهلك القرى بظلم وأهلها مُصلحون”.
***
مصر لمن؟ وحكمها لمن؟ وخيرها لمن؟ هذه هي الأسئلة الكبرى التي طرحتها الغزوة الفرنسية، والتي طرحتها كل ثورات المصريين المعاصرين من ثورة القاهرة الأولى في وجه أول مستعمر أوروبي حديث -بونابرت- في 21 أكتوبر 1798 حتى ثورة 25 يناير المجيدة 2011، ولا تزال الأسئلة الكبرى مطروحة من أول نظام حكم وضعه الفرنسيون حتى آخر نظام حكم وضعته الجمهورية الجديدة أو دولة ما بعد 30 يونيو 2013.
***
الحديث مستكمل الأربعاء المقبل بمشيئة الله.