تدخل العناصر الأرضية النادرة في صناعة كل شيء تقريبًا: من ولاعات السجائر إلى الزجاج والسيراميك وتكرير البترول وصناعة الكيماويات والمواد فائقة التوصيل واللمبات الموفرة للطاقة، وسائل الاتصالات والأقمار الصناعية، الهواتف والأجهزة اللوحية والكومبيوتر، نظم الملاحة “جي.بي.إس” والاستشعار عن بعد، الألياف الضوئية والإنترنت، الرادارات وأجهزة الرؤية الليلية، المدرعات والسيارات الكهربية والهجينة والمركبات الفضائية، البطاريات والمفاعلات النووية، الطائرات والأسلحة الموجهة والطائرات التي تستخدم تقنيات التخفي-الشبح- من طراز: F-35، والطائرات دون طيار، أجهزة الأشعة السينية المحمولة والرنين المغناطيسي، وعلاج بعض أنواع السرطان. محطات الطاقة الشمسية وتوربينات محطات طاقة الرياح.

لا توجد بدائل مناسبة لهذه العناصر، ومن الواضح أنه لا يمكن الاستغناء عنها، ومع تحويل منظومة الطاقة، من الفحم والنفط والغاز إلى طاقة الشمس والرياح المتجددة والسيارات الكهربية، سوف يزيد الطلب على هذه العناصر، وسوف يحتدم التنافس والصراع عليها.

اكتشفت هذه العناصر في القرن الثامن عشر في قرية “يتربي” (Ytterby) بالسويد. لم يكن الملازم الشاب المغرم بالمعادن يعرف أنه اكتشف مجموعة من العناصر ذات الخصائص الفريدة، التي ستدخل تقريبًا في صناعة كل شيء، وسوف تغير العالم فيما بعد.

وفقًا للاتحاد الدولي للكيمياء البحتة والتطبيقية، يبلغ عدد هذه العناصر سبعة عشر عنصرًا، وتتراوح أعدادها الذرية بين 57 و71، بالإضافة إلى عنصرين هما الإيتريوم والسكانديوم. (هذه العناصر هي: لانثانيوم، سيريوم، براسيدوميوم، نيوديميوم، برومثيوم، سماريوم، يوربيوم، جادولينيوم، تيربيوم، ديسبروسيوم، هولميوم، إربيوم، ثوليوم، إيتربيوم، ولوتيتيوم).

وهي لا توجد منفردة في الطبيعة، بل مختلطة مع بعضها، ومع عناصر أخرى بعضها مشع، مثل الثوريوم واليورانيوم. ومن منظور علم الجيولوجيا هذه العناصر ليست نادرة، إذ توجد في كثير من مناطق العالم بدرجات متفاوتة من التركيز، فبعضها يوجد بوفرة مثل الإيتريوم واللانثانيوم والسيريوم، وبعضها بنسبة أقل مثل الثوليوم واللوتيتيوم، وحتى هذه العناصر الأقل وفرة تزيد نسبة وجودها أحيانًا على نسبة وجود الذهب بأكثر من 100 مرة.

لكن استخراجها وتنقيتها وتجهيزها للصناعة عملية صعبة ومكلفة ماليًا ومتعددة المراحل، فمن أجل إنتاج كمية قليلة منها، تستخدم كميات كبيرة من المواد الخام، وتخلف هذه العمليات كميات كبيرة من النفايات المشعة والأحماض والغازات سامة.

في بداية القرن الماضي بدأ استخدام هذه العناصر في صناعة المصابيح، لكن نفايات هذه الصناعة كانت قابلة دائمًا للاشتعال وتثير الحرائق، وكان الحل هو خلط هذه النفايات ببعض مركبات الحديد، الأمر الذي أدى في النهاية إلى ابتكار ما يعرف بـ”حجر الصوان” -أو الفيروسيريوم- الذي يطلق شررًا عند الاحتكاك، والذي يستخدم حاليًا على نطاق واسع في صناعة ولاعات السجائر وأجهزة بدء الإشعال في البوتاجازات والأفران والسيارات.

وبعد اكتشاف ظاهرة الانشطار النووي عام 1939، اكتسبت هذه العناصر أهمية علمية وصناعية وسياسية أكبر، بعدما اكتشف علماء أمريكيون في إطار مشروع “مانهاتن” لصناعة القنبلة النووية أن وجود نسبة من هذه العناصر في خامات اليورانيوم، يعوق امتصاص النيوترونات. ومن ثم يوقف التفاعل النووي المتسلسل الضروري لإنتاج الطاقة النووية النووية، سواء في القنبلة أو في المفاعل، واكتشفوا أنها مناسبة للاستخدام في صناعة قضبان التحكم في المفاعلات النووية.

في الستينيات، ابتكر باحثون في القوات الجوية الأمريكية مغناطيسًا جديدًا مصنوعًا من السماريوم، هذا المغناطيس أقوى وأخف وزنًا من مغناطيس الحديد المعروف، ولا يفقد صفاته المغناطيسية حتى عند درجات الحرارة المرتفعة، واستخدم هذا المغناطيس في صناعة جيل جديد من الرادارات. وزاد الطلب على اليوروبيوم، لكونه المكون الأساسي في إنتاج الصور الملونة مع ظهور التليفزيون الملون في منتصف السبعينيات. وفي الثمانينيات، استخدم علماء في الاتحاد السوفييتي السابق السكانديوم في ابتكار سبيكة قوية وخفيفة الوزن، واستخدموها في رفع كفاءة الطائرات المقاتلة من طراز “ميج-29”.

واستخدم باحثون في شركة “جنرال موتورز” الأمريكية النيوديمويم في ابتكار مغناطيس صغير وقوي وخفيف الوزن، استخدم لاحقًا في صناعة أقفال الأبواب ومحركات السيارات، ومع اقتراب القرن الماضي من نهايته، وانتشار الكومبيوتر الشخصي، وجدت هذه المغناطيسات الصغيرة سوقًا رائجة بعد استخدامها في صناعة محركات الأقراص الصلبة.

ومع بداية القرن الجديد، بات واضحًا أن هذه العناصر ضرورية، ولا غنى عنها لعدد هائل من الصناعات الاستراتيجية. تضاعف استخدام العناصر النادرة خلال الخمسة عشر عامًا الماضية، بحسب موقع “ذي كونفرزيشن”. وشهدت السوق نموًا هائلًا وارتفاعًا حادًا في الأسعار. حتى بداية القرن، كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي أكبر منتج لهذه العناصر، لكن السيطرة الأمريكية انتهت، وحلت الصين محلها.

وبلغت الهيمنة الصينية ذروتها في عام 2010، عندما ألقت قوات خفر السواحل اليابانية القبض على قبطان صيني في بحر الصين، فردت الصين بحظر تصدير العناصر النادرة إلى اليابان. واليابان ثاني أكبر مستهلك للعناصر النادرة بعد الصين، وتعتمد كثير من الصناعات اليابانية على استيراد العناصر النادرة خصوصًا من الصين، فارتفعت الأسعار إلى عنان السماء، وبدا الأمر كما لو أن الصين تمارس نفوذًا جيو-سياسيًا.

دفعت الهيمنة الصينية والأسعار المرتفعة والخوف من نقص الإمدادات اليابان إلى الاستثمار في شركات التعدين الأسترالية، وأعلنت شركات كبرى لصناعة السيارات، مثل تويوتا وهوندا، عن خطط لإعادة التدوير وتصميم السيارات باستخدام كميات أقل من العناصر النادرة. وأعادت الولايات المتحدة تشغيل منجم جبل باس، وأعلن الاتحاد الأوروبي عن خطط لاستغلال مناجم العناصر النادرة في جرينلاند، التي تضم أكبر احتياطي في أوروبا، وسابع أكبر احتياطي في العالم. وقدمت اليابان والولايات المتحدة شكوى لمنظمة التجارة العالمية ضد الصين.

كانت السياسة الصينية واضحة، فهي تستهدف السيطرة على إنتاج وتجهيز ومعالجة هذه العناصر، في غضون عشر سنوات، زاد الإنتاج المحلي بنسبة 40% وزادت الصادرات زيادة هائلة، مما أدى إلى انخفاض الأسعار، وخروج منتجين آخرين من السوق، فأغلق منجم جبل باس أكبر منجم للعناصر النادرة في الولايات المتحدة، وأفلست “شركة الموليبدنم”- “مولي كورب”- المالكة للمنجم. وبحلول عام 2015، بات من الصعب على أي دولة -إلا الصين- أن تربح من العناصر النادرة. وعلى الرغم من إعلان الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند والاتحاد الأوروبي قبل عامين، عن خطط لإنشاء وتأمين سلاسل إمداد بعيدًا عن هيمنة الصين، لكن معظم المشروعات التي أعلنوا عنها لم تنجح حتى الآن في خلخلة سيطرة الصين على السوق.

بحسب بيانات الأسواق عن العام الماضي، بلغ حجم سوق العناصر الأرضية النادرة 5.3 مليار دولار، ويتوقع أن ينمو السوق بمعدل 12.3% سنويًا، ليصل إلى 9.6 مليار دولار في عام 2026. وبحسب بورصة لندن للمعادن، بلغ حجم الإنتاج العالمي 280 ألف طن. وأكبر الدول المنتجة هي الصين، بلغ إنتاجها 168 ألف طن، بنسبة 60% من حجم السوق. وبعدها الولايات المتحدة الأمريكية، 43 ألف طن، بنسبة 15.3%.  ثم ميانمار 26 ألف طن بنسبة 9.3%، ثم أستراليا 22 ألف طن ونسبة 7.9%، ثم تايلاند 8000 طن، 2.9%. ومن اللافت، أن دولة إفريقية، هي مدغشقر، احتلت المركز السادس بين أكبر الدول المنتجة بحوالي 3200 طن.

خمس واردات الصين من العناصر النادرة تأتي من ميانمار، وتستورد كميات أخرى من فيتنام وتايلاند وماليزيا. كما تسيطر-أيضًا- على أكثر من 85% من تقنيات وعمليات معالجة العناصر النادرة. وإذا ألقينا نظرة على احتياطيات العالم، سنرى أن الصين -أيضًا- لديها أكبر احتياطي في العالم. بحسب تقديرات هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية تبلغ احتياطيات العالم القابلة للاستغلال اقتصاديًا حوالي 120 مليون طن.

تمتلك الصين 37% منها بحوالي 44 مليون طن. وتمتلك فيتنام ثاني أكبر احتياطي، بحوالي 22 مليون طن، بنسبة 18.3%، ثم روسيا والبرازيل لديهما ثالث أكبر احتياطي، ويقدر احتياطي كل دول منهما بحوالي 21 مليون طن، بنسبة 17.5%. وتمتلك الهند رابع أكبر احتياطي، 6.9 مليون طن، بنسبة 5.7%. وخامس أكبر احتياطي يوجد في أستراليا بحوالي 4 مليون طن بنسبة 3.3%. وتمتلك الولايات المتحدة سادس أكبر احتياطي بحوالي 1.8 مليون طن. وفي جرينلاند يوجد سابع أكبر احتياطي، ويقدر بحوالي 1.5 مليون طن.

الشركات المهيمنة على سوق العناصر النادرة هي شركات: ليناس الأسترالية، ألكان ريسورسز الأسترالية، أرافورا ريسورسز الأسترالية، الشركة الصينية تشاينا مينيميتالز، والشركة الكندية أفالون للمواد المتقدمة، شركة إيلوكا ريسورسز الأسترالية، وشركة إم بي للمواد الأمريكية، والشركة الكندية نيوبيرفورمانس. وتتحكم هذه الشركات السبعة في أكثر من 90% من تجارة العناصر النادرة في العالم.

وفقًا لمرصد الأسواق، من المتوقع أن يستمر الطلب على العناصر النادرة في الزيادة خلال السنوات المقبلة لأسباب متعددة، ضرورتها للأمن القومي والصناعات العسكرية والطبية، وزيادة الطلب على الإلكترونيات والبطاريات والمحفزات واللمبات الموفرة للطاقة، وتقنيات تنقية الهواء. وفي إطار مواجهة تغير المناخ والحد من الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري، سوف يزيد الطلب على السيارات الكهربية والهجينة ومحطات توليد طاقة الرياح.

كل هذه الصناعات تستخدم العناصر الأرضية النادرة بكثافة، فوفقًا لموقع “ذي كونفرزيشن: “يلزم 600 كيلوجرامًا من العناصر النادرة لتشغيل توربين رياح واحد فقط، أما التوربينات الكبيرة فقد تتطلب حوالي 2000 كيلوجرامًا”. ووفقًا لموقع القوات الجوية الأمريكية على شبكة الإنترنت “تحتاج الطائرة الشبح الواحدة من طراز “إف-35″-(F-35) يلزم 900 رطل من العناصر النادرة”.

لمواجهة الطلب المتزايد على العناصر النادرة، والاستفادة من ارتفاع الأسعار، تسعى الصين والدول الصناعية إلى تأمين إمدادات دائمة ومستقرة من هذه العناصر. اشترت الصين أسهمًا حاكمًة في شركة “ماجنيكوينش” الأمريكية، وفي شركة ليناس الأسترالية التي تمتلك أكبر منجم للعناصر النادرة خارج الصين. وفي هذا السياق، يمكن أن نفهم العلاقات الاستراتيجية بين الصين وميانمار وفيتنام وتايلاند وماليزيا.

لا ترى الشركات الصينية وغير الصينية في زيادة الطلب وارتفاع الأسعار إلا فرصة لتحقيق المزيد من الأرباح، لهذا اتجهت الصين إلى إفريقيا، واشترت منجم “بالوبا” في زامبيا، ودخلت في شراكات مع دول إفريقية منها ناميبيا ومصر. ونقلت شركة ليناس الأسترالية أعمالها الخطرة إلى ماليزيا بعد احتجاجات السكان في أستراليا، ودخلت هي الأخرى في شراكات لتعدين العناصر النادرة في إفريقيا.

لا تلتزم شركات التعدين بمعالجة النفايات المشعة التي تتخلف عن نشاطاتها، ولا بإعادة تأهيل الأراضي التي خربها التعدين، ولا تقيم وزنًا للآثار البيئية والصحية والاجتماعية للتعدين، ويمكن رصد هذه الآثار في الصين وميانمار وماليزيا والهند والولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا. فوفقًا لدراسة عن الآثار البيئية لتعدين العناصر النادرة نشرتها مؤخرًا دورية “الموارد”، دمر التعدين في أكبر منجم للعناصر النادرة -منجم “بايان أوبو”-في منغوليا الداخلية جنوب شرق الصين الأراضي، وتضررت المنطقة لدرجة يصعب معها إعادة تأهيلها قبل قرن كامل وبتكاليف باهظة تزيد كثيرًا على الأرباح التي حققتها مشروعات التعدين.

وفي ماليزيا، طالب السكان في منطقة “كوانتان” الشركة الأسترالية بتحمل مسئوليتها عن معالجة النفايات، فلم تستجب وواصلت العمل كالمعتاد، الأمر الذي دفع السكان إلى رفع الأمر للقضاء، الذي أصدر بعد فترة من التقاضي حكمًا بوقف الترخيص للشركة. جدير بالذكر، إن إحدى الشركات الأسترالية تشارك في مشروعات للتعدين في مصر.

وفي الهند، اعترض السكان في إقليم “تاميل ناداو” على عدم إلتزام شركة “في. في” الهندية بمعالجة النفايات، وعلى الرغم من الاعتراضات واصلت الشركة أعمالها دون إكتراث، فلجأ الناس هناك إلى القضاء الذي أصدر في وقت لاحق حكمًا بإغلاق المنجم، دون أن يلزم الشركة بمعالجة النفايات أو بتحمل تكاليفها. وبحسب تقارير صحفية، نقلت الشركة المذكورة أعمالها إلى كينيا وتنزانيا.

ستظل الصين، ولعشر سنوات قادمة على الأقل، الدولة أو الشركة الأكبر في سوق العناصر الأرضية النادرة. وزيادة الطلب سوف تدفع حجم الإنتاج إلى مستويات غير مسبوقة، وسيحتدم التنافس والصراع على العناصر الأرضية النادرة، وسوف تتفاقم الخسائر والأضرار البيئية والصحية والاجتماعية للتعدين، فهل ننجح في مواجهة جشع الشركات وإلزامهم بتحمل مسئولية معالجة النفايات المشعة وإعادة تأهيل المناطق التي خربها وسيخربها التعدين؟