صناعة الحديد والصلب هي أحد الصناعات المعدنية التي تدخل في إطار الصناعات الثقيلة كثيفة الاستهلاك للطاقة، وتمثل الطاقة الجزء الرئيسي من تكلفة تلك الصناعة، بل إن الغاز الطبيعي في صناعة الصلب يعتبر مدخل إنتاج وليس مجرد مصدر للطاقة، لعدم توفر مدخل إنتاج آخر مثل خام الحديد أو الفحم يمكن له أن يمنح نفس الجودة أو الكمية التي تحتاجها صناعة الصلب، وبالتالي فإن خفض أسعار الغاز الطبيعي لصناعة الصلب يمكن بشدة أن يساهم في تحسين المستوى التنافسي لصادرات الصلب المصرية ويقلل من الاحتياج للواردات، وهو أمر يحتاج لقدر كبير من المرونة في تسعير هذا المدخل بالدراسة الجيدة للأسواق المنافسة والفرص البديلة، وكيفية استغلال وفرة الطاقة المحلية من الغاز في ظل أزمات الطاقة في أوروبا.
تسعير الكهرباء هو الآخر يحتاج لمرونة شبيهة في خفض الأسعار للمصانع كثيفة الاستهلاك بما يضمن لمنتجاتها أسعار تنافسية مقابل دول الجوار أو الدول المنافسة في الإنتاج، وتحديدًا المصانع شبه المتكاملة التي تعتمد على تقنيات القوس الكهربائي لصهر الحديد، بما يعني التشغيل الكامل للطاقات الإنتاجية ونمو فرص التصدير المرتبط بمنتج صناعي ذو قيمة مضافة أعلى من تصدير المواد الخام، ويقلل من الطلب على استيراد مدخلات الصناعة التي يلجأ إليها البعض.
إذًا قطاع الحديد والصلب يتأثر بأسعار الطاقة، وأسعار الصرف وأسعار الفائدة، باعتبارها جميعًا مؤثرات رئيسية في حجم الإنتاج وهامش الأرباح، خاصة مع محاولة تمرير الأسعار المرتفعة على المستهلك النهائي، وهم في الأغلب شركات التطوير العقاري والإنشاءات، والتي تعاني كليهما من ارتفاع في أسعار التكلفة بقدر كبير سواءً في مشروعات البنية التحتية التي ارتفعت تكلفتها بفعل ارتفاع مدخلات الإنتاج بنسب لا تقل عن 30٪ خلال الشهور الأخيرة، أو في قطاع العقارات الذي يعاني من الأسعار وقرارات وقف البناء لحين إعادة التنظيم علمًا بأن تكاليف البناء في العادة تمثل 50٪ – 60٪ في قطاع العقارات، ويستحوذ قطاع التشييد والبناء بشكل عام أكثر من نصف إنتاج العالم من الصلب.
إن الحرب التجارية التي نشبت بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية وزادت بشدة في الأعوام الماضية، تعطينا درسًا في كيفية تصرف الدول لحماية صناعاتها الاستراتيجية، بغض النظر عن الثوابت الأيدلوجية النيوليبرالية التي تدعم حرية التجارة الدولية وتكافح الجمارك والسياسات الحمائية بشكل عام، لكن حينما يتعلق الأمر بصناعة استراتيجية مثل صناعة الصلب نشاهد الولايات المتحدة الأمريكية وهي تفرض رسوما حمائية ضد واردات تلك المنتجات الصناعية حتى لا توثر على تنافسية المنتجات الأمريكية والتي بطبيعتها تزيد في التكلفة عن المنتجات الصينية بسبب الفارق في كلفة الطاقة والعمالة والتكنولوجيا وغيرها من العوامل المرتبطة بالسوق الأمريكي.
كذلك، فإن خطط الإصلاح الاقتصادي التي تتبناها إدارة الرئيس الأمريكي بايدن، تتضمن حزمة تحفيز بنصف تريليون دولار تستهدف إصلاحات في البنية التحتية من الطرق والموانئ والاتصالات، وهو ما يعني زيادة مستويات التشغيل في تلك المشروعات، ورفع الطاقة الإنتاجية لمصانع الصلب والحديد التي تعتمد عليها مشاريع البنية التحتية في إنتاج المواسير والكابلات والألواح والسبائك الحديدية وغيرها من المنتجات الصناعية الوسيطة والنهائية.
المتابع للمؤتمر الاقتصادي الوطني الذي عقد في الأسابيع الماضية، ومن قبله قرار مجلس الوزراء الذي وضع قائمة بـ130 سلعة يمكن إحلالها عبر التصنيع المحلي، ثم مبادرة “ابدأ” لدعم الصناعة الوطنية، سيشعر بقدر كبير من التفاؤل في الاتجاه الذي يدعم تعميق التصنيع المحلي وتوطين الصناعات المحلية، خاصة تلك المرتبطة باستثمارات الدولة في المشروعات القومية ومشروعات البنية التحتية والتي من المفترض أن تساهم في رفع مستويات التشغيل الكامل لمصانع الحديد والصلب، وزيادة معدلات التوظيف المباشر وغير المباشر للعمالة، لكن الإصلاح يتطلب سياسات تكاملية بين خطط الوزارات المختلفة، وحزم التحفيز الموجهة للصناعة يجب أن تتضمن تنسيقًا واضحًا فيما يخص بند أسعار الغاز والكهرباء لزيادة مستويات التنافسية، والحماية الجمركية للسلع المنافسة وهو أمر يتماشى مع سياسة تقييد الواردات أو ضبطها والتي انتهجتها الدولة والبنك المركزي طوال الأشهر الماضية.
التمييز الإيجابي لصناعة الحديد والصلب في أسعار الطاقة قد يمثل قبلة حياة تخفف من أعباء تلك الصناعة في الفترة الحالية، لكن كما قلنا الأمر يحتاج لسياسات تكاملية على المستوى القطاعي وعلى مستوى الاقتصاد الكلي، فإنعاش السوق والخروج من حالة الركود في شراء السلع المعمرة، ينشط الطلب على الحديد والصلب وبالتالي يحسن من معدلات التشغيل بسبب قدرة هذا القطاع والقطاعات المغذية له على خلق فرص العمل.
وبمنظور أوسع قليلًا فإن تحسين بيئة هذا القطاع قد يمثل عامل جذب لبعض الاستثمارات الصديقة، والتي سردنا بعضها بالفعل في المقال الماضي، والتي تبحث عن الاستثمار في هذا القطاع لكن مع دراسات واضحة تضع في الاعتبار تأمين الطاقة وخفض تكلفة الإنتاج وزيادة الطلب على المنتجات النهائية، وهو ما تحاول الحكومة البحث عنه في الفترة الآنية عبر طرح العديد من الحصص في أصول إنتاجية لمستثمرين استراتيجيين، لكن ديمومة الإنتاج في هذا القطاع تمثل جاذبية للاستثمارات فيه على المدى الطويل إذا ما رغبت الدولة في ذلك، بالإضافة للفوائد الأخرى في تقليل كلفة الواردات وزيادة فرص التصدير للخارج ورفع مستويات التشغيل والتوظيف.
التكامل بين هذه الأفكار جميعها وصعوبة الوضع الراهن، ووجود الصين متربعة على عرش الإنتاج العالمي من الحديد والصلب تستطيع تأزيم الموقف في أي لحظة في ظل اضطرابات التجارة الدولية والحرب الروسية الأوكرانية التي لا نعلم نهايتها، كل هذه الأزمات تمثل كما قلت فرصًا للعمل بذات القدر الذي تسببه من خسائر، لعل هناك من يستمع إلينا ويستغل هذه الفرصة لإنقاذ هذا القطاع الواعد ويدفعه للأمام، مستفيدًا من دروس الماضي ومن أهمية الوقت الراهن.