في الوقت الذي مازالت فيه الحرب الروسية الأوكرانية، تخيم بشبح حرب عالمية، وفي ظل قمة المناخ التي نجحت بالكاد وعبر مفاوضات عسيرة، في إقرار صندوق تعويض “الخسائر والأضرار” التي تتكبدها الدول النامية جراء التغير المناخي، وهي مجرد خطوة متأخرة 30 عاما، ولا تعني أن الأمر قد انتهى، فمازالت مصالح شركات النفط تؤخر اتخاذ الخطوات الضرورية، لأن إنقاذ الإنسانية للأسف يعتمد على الشيء البديهي والمستحيل، إيمان بالقيم الإنسانية المشتركة، لا إعلاء المصالح والقوميات والأرباح.
يمكن لنا في ظل تلك الأجواء أن نتذكر رسالة الأدب الخالدة التي طالما صورت بشاعات الحروب والدمار الذي تسببه مصالح الدول القوية بحثا وراء الأرباح، وبشرت تلك الرسالة بالسبيل الوحيد للخلاص وهو الإيمان بالإنسان، ولا أجد أفضل من رواية المريض الإنجليزي، كواحدة من أفضل روايات القرن العشرين، كتعبير عن هذا الإيمان.
حتى في حالة ما إذا كنت قد شاهدت الفيلم الشهير، الفائز بتسع جوائز أوسكار من بينها جائزة أفضل فيلم، عام 1996، فإن قراءة رواية المريض الإنجليزي أمر مختلف، فثمة شيء لا يمكن أن تنقله السينما، النثر البديع للروائي مايكل أونداتجي، الحساسية، الخيال اللغوي، ميزان الذهب الذي وزنت به كل كلمة، وكل ما لا يمكن التقاطه على شريط سينمائي، وقد نجحت ترجمة أسامة إسبر الصادرة عن دار المدى إلى حد بعيد في التقاط تلك الروح.
كتابة تمحو ما بين النثر السردي والشعري من خصومة وتناقض، دون أن يؤثر ذلك على الحرفة الروائية وهو أمر يعلم الروائيون أنه أمر إعجازي، فعادة ما يؤدي الانطلاق من صور شعرية من الاستعارة والمجاز إلى إفساد الروايات، لكن أونداتجي يفعلها عبر الاستعارات التي ترتكز على الجسد الإنساني في مقاربته مع الطبيعة والجغرافيا، فينجح في استحضار لغة حسية بل يمكن وصفها بالشهوانية، وأونداتجي الكندي ذي الأصول السيرلانكية شاعر مهم في الأساس قبل أن يكون روائيا، وصدرت له 13 مجموعة شعرية وست روايات تظل أشهرها هي المريض الإنجليزي.
فازت رواية المريض الإنجليزي بجائزة البوكر عام 1992، مناصفة مع رواية الجوع المقدس لباري أنسوورث، للمرة الثانية في تاريخ الجائزة التي بدأت عام 1969، كان وقتها قرارا صعبا على المحكمين اتخذ قبل 30 دقيقة من إعلان الجائزة، لكن الزمن لم يبق في الذاكرة سوى رواية المريض الإنجليزي التي ترجمت إلى عشرات اللغات، وباعت أكثر من مليون نسخة حول العالم، فضلا عن تحويلها إلى فيلم أيقوني، وفي عام 2018 أعلنت لجنة جائزة البوكر عن فوز الرواية بجائزة البوكر الذهبية في الذكرى الخمسين لتأسيس الجائزة، والتي يتدخل فيها تصويت الجمهور ليحسم ترشيحات النقاد والكتاب.
**
“اقرئيه في بط، يا فتاتي العزيزة، يجب أن تقرئي كبلينغ في بطء. راقبي بانتباه أين تقع الفواصل، وهكذا يمكنك اكتشاف الوقفات الطبيعية. إنه كاتب استخدم القلم والحبر. كان يرفع بصره عن الصفحة كثيرا، كما أظن، ويحدق عبر نافذته ويصغي إلى الطيور. كما يفعل معظم الكتاب الوحيدين”
هذا مقطع للروائي روديارد كيبلينج، الأديب البريطاني ورد على لسان المريض الإنجليزي كدرس في القراءة إلى ممرضته هانا التي اعتادت أن تقرأ له، بينما يبدو أن أونداتجي كان يخبرنا عبر هذا المقطع عن الوسيلة المثلى لقراءته، رغم أنه يبدو أنه ورد بشكل عابر غير مقصود، تماما كما على حرفة الروائي أن تتجلى، فإنه مقطع مقصود تماما ضمن مخطط الرواية كدليل قراءة، فذلك الكتاب تحديدا ينبغي أن يقرأ ببطء، كي نتمكن من تشرب إيقاعه، هكذا لن تجد فيما تحمله كل كلمة وجملة من ظلال منفجرة بالمعنى، أمرا مجهدا بل تتحول القراءة إلى عملية تنقل إليك البهجة الكامنة خلف نثر أونداتجي الذي كتب بأصابع شديدة الحساسية والانتباه كأنها بصدد نزع فتيل قنبلة، تماما ككيب السيخي، مهندس الألغام وأحد أبطال الرواية.
تدور أحداث الرواية في فيلا إيطالية في نهاية الحرب العالمية الثانية دمرت بالقنابل بالقرب من فلورنسا، استخدمت مؤخرًا كمستشفى حرب، ثم تخلت عنها قوات الحلفاء، لكن الممرضة هانا ترفض التخلي عن مريضها الإنجليزي، الضحية أخيرة التي تؤويها المستشفى المهدمة، رجل يموت ببطء من الحروق التي تلقاها في حادث تحطم طائرة فوق ليبيا، ليسقط من طائرة مشتعلة في الصحراء، لينقذ على يد البدو، الذين دهنوه بمرهم من عظام طاووس مطحون، وبعد أن استغلوا معرفته بالأسلحة حملوه عبر الصحراء على متن سفينة من العصي وتركوه عند المستشفى. معالم وجهه قد اختفت، رشت أجزاء من جسده ووجهه المحروق بحمض التانيك الذي أصبح قشرة واقية على جلده الخام.
ينضم إليهما اللص والجاسوس السابق، كارافاجيو، وهو صديق قديم لعائلة هانا، وعذب على يد قوات المحور، حتى إنه يفقد إبهاميه مما يعيقه عن ممارسة مهنته كلص، ثم كيب الجندي السيخي الذي يقوم بنزع فتيل القنابل والألغام في المنطقة. هانا نفسها ضحية حرب، فقدت والدها، وما زالت تعاني من آثار القصف،
أربع شخصيات تصبح الفيلا ملاذا لهوياتهم الضائعة التي دمرتها الحرب، أو ربما مكانا لإعادة صياغتها وترميمها، لذا لا تتقدم الرواية أبدا إلى الأمام، باستثناء علاقة الحب التي تدور بين هانا ومهندس الألغام، إنها دائما حول الماضي، كأن العالم قد توقف، عبر قدرة الشاعر لا الروائي على خلق مساحات من الصمت والفراغ، تنفجر بينهما الصور.
تحولهم الحرب إلى شخصيات يختلط عليها انتماؤها، كأنها تعيد استكشاف العالم من جديد، لكن بحس من الضياع يفتقد إلى الدليل أو كما تصف الرواية كيب، شاب سيخي من البنجاب ينتقل إلى كنيسة سيستينا أكبر كنائس القصر البابوي بالفاتيكان، والتي اشتهرت بلوحات جدارية لكبار فناني عصر النهضة، في مهمة التخلص من القنابل ليلاً: “كان مهندس الألغام الشاب على ظهره، البندقية مسددة وعينه تمشط تقريبا لحيتي نوح وإبراهيم وعددا من الشياطين إلى أن وصل إلى الوجه العظيم الذي هدأه، الوجه الذي بدا مثل رمح، حكيم لا يغفر” الوجه المقصود هو للنبي أشعيا، في لقاء فريد بين ثقافتين مختلفتين، الهندوسية وأحد رموز العهد القديم في حضرة فن مايكل أنجلو. أونداتجي نفسه مواطن عالمي، من أصول أوروبية وسريلانكية مختلطة، قبل أن يعيش في كندا.
الدافع الافتراضي لحركة السرد هو لغز هوية المريض الإنجليزي، هل هو الكونت الماسي، مستكشف الصحراء أم جاسوس يعمل لصالح الألمان، ضحية أم قاتل؟ بينما تفتن هانا بمدى ثقافته وقدرته على التحمل، حتى إنها تسميه بالقديس البائس، ويصير كيب صديقا له، فإن كارافاجيو الذي عذب على يد الألمان، يتخذ موقفا كارها له ويستدرجه عبر المورفين ليسرد قصة حبه الكبيرة، مع زوجة زميله الشاب والتي تنتهي نهاية مأساوية أثناء الحرب بمقتل الزوجين.
في النهاية يتضح أنه ليس جاسوسا ولا إنجليزياً، بل لا تصبح غائية كشف لغز هويته مهمة، فذلك المريض ود لو نزع عنه نطاق القومية، يتوق لعالم بلا أمم، لا يعتد بالملكية، ولا تنشأ فيه الحروب، يقرأ من كتابه العجيب: نسخة من كتاب التواريخ لهيرودت، يلصق فيه صفحات انتزعها من كتب أخرى أعجبته ويدون فيها ملاحظاته، كعالم تختلط فيه التواريخ، خلاصة أريج العالم، حيث لا يصبح لمصادر ذلك التاريخ أهمية.
عبر بحث دقيق وحيوية الوصف، يتركنا أونداتجي، مع الشخوص الأربعة حيث “الرواية هي مرآة تسير على الطريق” كما تستحضر هانا من كتاب قرأته لستندال، بتوصية من المريض الإنجليزي، وفي مرآة المريض: نرى قنابل تنفجر وطائرات تحترق من السماء، قضيب نائم مثل فرس البحر، مشهد العزف على البيانو وسط الأمطار في المكتبة شبه المهدمة بسبب القصف، وتمثال مريم العذراء يرتفع من البحر ويسقط، حكايات كيب المرعبة مع فرقة المتفجرات، الحفر الموحلة حيث يتم نزع سلاح قنابل “الشيطان” العملاقة يدويًا تحت مصابيح يدوية غير ثابتة، إلى اللوحات الصخرية المخفية في الكهوف الصحراوية. صور حية بشكل مذهل لا تغادر ذهن قارئها، يصير هو أيضا مرآتها.