اعتاد الناس أن يستمعوا إلى نقاشات حول الهوية في المنتديات الفكرية والثقافية. ولكنها ربما تكون المرة الأولى التي يحدث فيها هذا النقاش حول قضية الهوية بهذه الحدة والقوة بل إنه امتد ليصل إلى الدين والحضارة كما جرى ويجري في كأس العالم بقطر.

والحقيقة أن طرح قضية الهوية أخذ أبعادا متعددة. فقد تعرض في جانب منه لقضية الاهتمام بالأذان وصوت المؤذنين، والباركود التعريفي بالإسلام في الفنادق. والموقف من المثليين ورفض وجود شاراتهم في الملاعب القطرية.

والحقيقة أن قطر تمسكت منذ اللحظة الأولى بقضيتين أساسيتين: الأولى هي التمسك بهويتها العربية الإسلامية أيا كانت الضغوط. والثانية تقديمها بشكل عصري حديث والاستفادة من إمكاناتها المادية في الإنفاق على أسواق وملاعب وساحات عامة كثير منها مرتبط شكلا ومضمونا بالحضارة العربية.

والحقيقة أن السؤال المطروح في هذا السياق طرحته كثير من الدول الغربية التي نظمت كأس العالم في فترات سابقة. ولم تحرص على طرح قضية الهوية مثلما طرحت في قطر. فمثلا هل كان هناك إصرار فرنسي أو بريطاني أو ألماني لطرح قضية الهوية كما طرحت في قطر حين نظموا كأس العالم؟

فحين نظمت فرنسا في عام 1998 كأس العالم لم تعتبر من ضمن أهداف البطولة طرح الهوية الفرنسية وتقديمها للزائرين في كل مكان. وربما كان الإحساس بالقوة والتفوق هو الذي جعلها تترك الناس يتفاعلون مع هويتها بشكل تلقائي وطبيعي في المقاهي والشوارع، دون أي مجهود. لأن أحد تفسيرات هذه الحالة أن الهوية هنا جزء من حضارة مهيمنة وحاضرة بقوة، وهو ليس الحال في خبرات حضارية أخرى، مفهوم أن تعمل على تقديم نفسها بشكل عصري لأنها من ناحية لا تنتمي إلى الحضارة الغربية المهيمنة ومن ناحية أخرى هي في بعض الأحيان متهمة بالتطرف والعنف ومعاداة التقدم.

والحقيقة أن قضية الهوية لا يجب النظر إلىها باعتبارها إرثا ساكنا لا يتغير أو أنها فرصة لتنميط المجتمعات “بكليشيهات” مسبقة وبناء على ما سبق لم يعد النظر إلى الهوية باعتبارها تاريخا ساكنا. إنما هي تتأثر بالسياق الاجتماعي والسياسي المحيط والقادر أن يعيد تقديمها بشكل حديث.

ومن هنا فإن استدعاء صور الجزيرة العربية باعتبارها كانت من نصف قرن بلادا تعيش على الفطرة، وعلاقاتها الاجتماعية بدائية ويعيش الناس فيها على الصيد وكثير منهم في الخيام، وكأنه قدر لن تؤثر فيه التغيرات الاقتصادية والاجتماعية، وأثبت الواقع عكس ذلك تماما، واستثمرت دول الخليج -ومنها قطر- “الطفرة النفطية” لتعيد بناء علاقاتها الاجتماعية بشكل جديد وتؤسس لجانب من مظاهر الحداثة في ملاعب باهرة ومبانٍ شاهقة وشبكة مواصلات حديثة، عمّقها نجاحها في تنظيم بطولة كأس العالم.

والمؤكد أن التحول في عادات وتقاليد البشر وفي أزيائهم ونمط حياتهم كان سمة العصر في العقود الماضية، فلا يزال كثير منا في مصر يتحدث عن كيف كانت سلوكيات الناس وعاداتهم وتقاليدهم في أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن الماضي. وكيف تغيرت وتحولت في العصر الحالي ملابس النساء في ستينيات القرن الماضي مقارنة بما عليه الحال الآن. وكأنهن أصبحن في بلد آخر. كما أن وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي والتعليم والانفتاح على العالم الخارجي جعل هناك فرصا حقيقية لتقديم الهوية في “شكل متعولم” كما فعلت قطر مؤخرا في كأس العالم حين قدمت جانبا من الهوية العربية الإسلامية بشكل عصري وحداثي قبله تقريبا كل من تابع المباريات في الملاعب بعيدا عن دعايات كثيرة مضادة تبث خارج الحدود وليس لها أساس من الصحة في الواقع كما أكد كثير من المقيمين والزائرين على السواء.

إن المساحة التي يحتلها الإعلام حاليا في التأثير في هوية المجتمع وفي نمط التفاعلات الاجتماعية السائدة ومنظومة القيم كبيرة. وتواكب معه تحولا في أدوات التحليل التي انتقلت من تنميط الهوية والنظر إليها بشكل ساكن يقسم العالم إلى: هوية متقدمة وأخرى متأخرة، هوية قابلة للتطور والديمقراطية وأخرى ليست كذلك، إلى مدخل تفسيري ينظر إلى الهوية باعتبارها تساعد على فهم ثقافة المجتمعات وعادات وتقاليد الشعوب.

يقينا لا يمكن القول إن ما طرح بشكل حداثي في الدوحة هو كل الهوية العربية الإسلامية، إنما هو حاول أن يقدم جانبا منها بشكل ناعم وتعريفي. فلم يحاول أن يدعو الناس للإسلام ويبشر به كما اتهمهم البعض. إنما هو عرف الناس بالإسلام عبر وسائل تعريفية حديثة، كما أنه لم يخجل من الأذان أو حاول أن يجعله مسموعا فقط داخل المسجد. إنما جلب أجمل أصوات المؤذنين وجعل صوت الأذان رسالة سكينة وطمأنينة لكل من يستمع إليه وليس صوتا سيئا يتصور بتعليته أنه يؤثر في الناس.

مفهوم تماما أن البلاد الأقل نموا وتقدما تخشى على هويتها ويكون رد فعلها إما العزلة والانغلاق وإما اعتبارها عبئا ثقيلا تسعى للتخلص منه أو إخفائه وكأنه مصدر التخلف. في حين أن المطلوب هو الاعتزاز بها وعدم التخلي عنها وتقديمها بشكل عصري يبرز جوانبها المضيئة ويستثمر التقدم التكنولوجي والوفرة الاقتصادية كما فعلت قطر في كأس العالم.